صلاح أحمد: بلغت السينما الإيرانية شأوًا لم تصل اليه أي صناعة شبيهة في المنطقة رغم المناخ المتشدد الذي تعمل فيه والعقوبات الدولية التي تحرمها التمويل. لكنها سجلت نصرين باهرين بإجبارها السلطات على عرض فيلمين يغوصان في أعماق الممنوع.

منذ البدء في تطبيق العقوبات الاقتصادية الدولية على ايران بسبب برنامجها النووي الذي يثير فزع الغرب (والشرق أيضا)، صارت عمادات اقتصادها تصاب بفقر الدم الواحدة تلو الأخرى. وبالطبع فإن أحد هذه العمادات يتمثل في صناعتها السينمائية التي ما فتئت تدهش العالم.
ومع أن اليأس أصاب العاملين في هذا القطاع المهم إزاء أي أمل في البناء على الأساس القوي الذي توفر لهذه السينما المتميزة، فقد فوجئ الجميع بفيلمين جديدين يُقال الآن إن بقايا ذلك الأمل تتعلق بنجاحهما، وفقًا لما أوردته laquo;واشنطن بوستraquo;.
وفي نهاية هذا العام الذي شهد ارتفاعًا حادًا في أسعار التذاكر بما أدى الى انخفاض بنسبة 40 في المئة في حجم جمهور السينما الإيراني، أجبر الفيلمان الجديدان الجمهور الغائب على العودة الى صالات العرض. وهذا لكونهما مثيرين لجدل لا يمكن تجاهله وجرأتهما التي تتجاوز سائر الحدود في بلاد منكفئة بالكامل على أسلوب حياتها المحافظ.

المحظور
الفيلمان هما laquo;مواجهة المراياraquo;، الذي يستمد موضوعه من حياة شخصية عابرة للجنس، وlaquo;أنا أمraquo; الذي يتناول قصة شخصية صارت من laquo;الأثرياء الجددraquo; وراحت ترفل في مسرات الحياة على النمط الغربي. ولو كان موضوعا الفيلمين على هذا النحو لا يكفيان لإثارة غضب السلطات الدينية ndash; السياسية، فهناك حقيقة أن الشخصية العابرة للجنس في laquo;مواجهة المراياraquo; امرأة، والشيء نفسه في laquo;laquo;أنا أمraquo;.
ويحكي هذا الفيلم الأخير قصة شابة تقتل laquo;أحد أصدقاء العائلةraquo; بعدما يقدم على اغتصابها. وتطلب أسرة القتيل القصاص القانوني بإعدام القاتلة التي يبدو أنها laquo;منشقةraquo; عن المجتمع بأسلوب حياتها الليبرالي، ابتداء من رفضها ارتداء الحجاب الى تعاطيها الكحول.
أما laquo;مواجهة المراياraquo; فيتناول حياة امرأة laquo;مسترجلةraquo; يسعى والدها الى تزويجها للتخلص من هذه laquo;اللعنةraquo; التي حلت بأسرتها. لكنها تهرب من منزل الأسرة وقد صارت رجلاً. ويتابع الفيلم قصة هذا laquo;الرجلraquo; ولقائه بسائقة سيارة أجرة ونوع العلاقة التي تنشأ بينهما.

غضب
ربما كان غنيًا عن القول إن الفيلمين أثارا أعلى درجات الغضب في الأوساط الدينية الحاكمة. ووصل الأمر حد أن المساعي لحظرهما جاءت حتى من laquo;أكاديمية الفنونraquo; التي تملك أكثر من ثلث دور العرض في البلاد. وكان لهذا أن يتم لولا تدخل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي التي سمحت بعرضهما.
وبرر وزير الثقافة، محمد حسيني، هذا القرار المفاجئ بقوله إنه اتخذ laquo;من أجل إظهار أن أسلوب الحياة غير الإسلامي يؤدي فقط الى طريق مسدود. ولأجل هذا الهدف يجوز لصنّاع الأفلام تصوير الشخصيات التي تقع في هذا الفخraquo;. ولكن قيل إن السبب الحقيقي هو محاولة احتواء التململ الشعبي العام إزاء غياب الفنون ووسائل الترفيه في البلاد.

دفعة هائلة
مهما كان السبب وراء قرار السلطات عرض الفيلمين الجريئين والشكوك في دافعها الحقيقي، فالذي لا يطاله الشك هو أن الفيلمين قدما للسينما الإيرانية المترنحة دفعة هائلة على طريق سمعتها الزاهية في العالم.
فحتى فوز فيلم laquo;انفصالraquo; للمخرج أصغر فرهدي بأول جائزة laquo;أوسكارraquo; في تاريخ البلاد (أفضل فيلم أجنبي) في فبراير / شباط الماضي لم يكن كافياً لتهدئة روع المشتغلين بالسينما الإيرانية. فقالوا إن شح المال المتاح لهذه الصناعة (رغم ذلك النجاح العالمي المدوّي) وعزوف الجمهور عن صالات العرض بسبب ارتفاع أسعار التذاكر يخنقانها الى النَفَس الأخير.
ولكن ما أن بدأ عرض laquo;مواجهة المراياraquo; وlaquo;أنا أمraquo; حتى راح هذا التيار يعكس مساره السلبي. فالشهر الماضي كسر هذا الأخير الأرقام القياسية في مبيعات التذاكر في طهران، متجاوزاً laquo;انفصالraquo; نفسه. واحتل laquo;مواجهة المراياraquo; المرتبة الرابعة في قائمة الأفلام الأكثر رواجًا على الرغم من أن عرضه اقتصر حتى الآن على ثلاث صالات عرض فقط في عموم ايران.

شاءت المؤسسة أم أبت
يقول الناقد السينمائي الإيراني محمد رضا إن السينما في بلاده laquo;صارت تتمتع بقدر متزايد نسبياً من الحرية في نوع الموضوعات التي يمكن أن تتناولها. لكن هذا لا يعني بأي شكل أن السلطات أرخت قبضتها الحديدية على كل صغيرة وكبيرة في البلاد، وإنما تأتى لأن عزيمة المشتغلين بهذه الصناعة ورغبة الجمهور العريض في فن سابع حقيقي صارتا تيارًا لا يمكن الوقوف أمامهraquo;.
ومع ذلك، فإن الحقيقة الماثلة اليوم هي أن صنّاع السينما لا يريدون ndash; بحكمة مفهومة ومبررة ndash; تصوير الأمر وكأنه معركة أحد طرفيها منتصر والآخر خاسر، لأن هذا ببساطة يعني مناطحة الصخر. وبدلاً عن ذلك فهم يعولون على وعي الجمهور الإيراني الذي يعلم أن بين يديه كنزًا حقيقيًا يتعيّن الحفاظ عليه بأي ثمن.