حميد مشهداني من برشلونة: في العام الذي ولد فيه الفنان، 1923 كانت أسبانيا تعاني quot;ديكتاتوريةquot; الجنرال quot;بريمو دي ريفيراquot; في انقلاب عسكري لم يكن قد مضى له الا بضعة اشهر، و هذا كان طبيعيا في تأريخ اسبانيا المتعثر سياسيا خلال القرن التاسع عشر. وحتى وفاة أخر فاشيي اوربا quot;فرانكوquot; في عام 1975 عاش الفنان نظاما عسكريا بالغ القسوة، اذا أستثنينا سنوات الجمهورية الثانية، 1931-1939، و أحبطت الاحلام، كان والدي quot;تابييسquot; ينتمون الى البرجوازية الوطنية الكاتالانية المثقفة، كان والده ناشرا مهما في هذا الاقليم، فمنذ ولادته كان بيته ملتقى نخبة فنانين و مثقفي quot;برشلونةquot; التي كانت تفوق كثيرا على العاصمة quot;مدريدquot; في كل ما يتعلق بالطليعية والحداثة الفنية، بسبب قربها الاتني، والجغرافي من فرنسا و عاصمتها quot;باريسquot;التي كانت في الريادة دائما بعد عصر التنوير الايطالي. و من يلد في هكذا محيط ثقافي، مهمة دخوله فيه ستكون سهلة بألتأكيد، أذا لم يكن مجنونا. لذالك لم يحتاج الشاب quot;تابييسquot;دخول مدرسة فنية لانه كان مشبعا بعطر الفن و الثقافة منذ صغره، دخل كلية الحقوق لدراسة القانون و التي سرعان ما غادرها بسبب قلق داخلي مستمر يدعوه على التمرد على كل ما هو تقليدي، محظوظا كان ذالك الشاب، الذي كان معجبا بأنجازات مواطنه الكاتالاني quot;جوان ميروquot; في باريس فعاد الى هواية طفولته التي كان قد زينها في العديد من الرسوم و التخطيطات البدائية، و رسومه الاولى كانت quot;بورتريهاتquot; وجهه، و هذه كانت كثيرة ليقول بعد سنوات ان اقرب من كان اليه كان quot;هوquot; و هذا يعكس وحدة العبقري القلقة قليل الاصدقاء، الذين سرعان ما عثر عليهم و هؤلاء وجدوا فيه ظلا لاحلام أبداعية قادمة، هناك العديد من الرسوم البسيطة لاصدقائه لا تعطي انطباعا لحرفية قادمة، كما حصل مع quot;بيكاسوquot;او quot;سلفادور داليquot;مثلا، هؤلاء درسوا أسس الرسم الاكاديمي في مدارس عتيدة. كان quot;تابييسquot; في بحث و قلق دائم سمحت له بذالك شروط اقتصادية، و خلفية ثقافية غنية، فهو قبل بلوغه العشرين من العمر قرأ الفلسفة اليونانية، و أستوعب قرائة quot;هيدجرquot;و quot;نيتشةquot; و quot;هيغلquot; لانه كان تلميذا في المدرسة الالمانية في برشلونة حتى دخوله الجامعة، لذالك أشارتي السابقة حول حظه السعيد، ففي هذه المدرسة تعلم قرائة الفلسفة و تعلم ايظا التذوق الموسيقي، فهو بعد اصابته بمرض السل بقي طريح الفراش لمدة سنتين في واحدا من منتجعات شمال برشلونة الراقية، حيث الكتب و الموسيقى التي أغنت روحه و رفعت من ذوقه الموسيقي خصوصا مع رومانتيكية quot;برامزquot; و الهذيان العاصف لـquot;فاجنرquot;، و انا أكتب هذه السطور اتذكر و بحسرة دخولي مستشفى الدكتورquot;أراتونquot; الطيب الذكر لمدة اسبوع واحد، حينها لم ابلغ الثالثة عشر من عمري، كنت حزينا حين مغادرتي المصح عافيا، كنت أود لو طالت أقامتي في هذا المصح الجميل امام quot;القصر الابيضquot; في بغداد في بنائه quot;الفيكتوريquot; الجميل و حدائقه، و اناقة غرفه و طيبة ممرضاته، المشكلة هي انني شفيت بسرعة، ورغم ذالك كانت quot;الفاتورةquot; غالية جدا،
اعود الى quot;تابييسquot; فهو خلال سنتين النقاهة في هذا المنتجع لم يشف نهائيا من مرض السل، ولكنه اغنى روحه بالقرائة و سماع الموسيقى الكلاسيكية، وهناك تعرف بشكل جيد علىأعمال quot;توماس مانquot; خصوصا روايته quot;الجبال المسحورةquot; لان هذه كانت تحاكي وضعه الصحي المتعب، يقال عنه انه شغف قراءة العديد من الكتب التي أحسن اختيارها وهذا سيكون له تأثير ايجابي في مسيرته الفنية الللاحقة حيث صار من اكثر الفنانين كتابة في مئات من النصوص التي تنظر في الرسم و تقنياته، و جدوى الابداع و ظرورته في المجتمع في تعقيد يضاهي تعقيد تفسير عمله الفني الذي كان يلح في نفس الوقت على عدم البحث محاولة تفسيره، هو يقول ان العمل الابداعي ليس بحاجة لاي تحليل أو تفسير، quot;كما الموسيقى، تسمعها و تسمعها وهي ليست اكثر من انفعال جميلquot;... قال لي هذا في لقاءبالصدفة في مؤسسته قبل 3 سنوات.
في سن الثالثة و العشرين يؤجر مشغلا للرسم و هو لم يدرس شيئا من أسس الفن التقليدي، و يبدأ التجريب في quot;الكولاجquot; ويساهم في بعض المعارض المشتركة الى ان يتعرف بعد سنتين على مثله الاعظم quot;جوان ميروquot;، و هو كان يقدسه، في عام 1950 يقيم اول معرض شخصي فيه يكرس ذاته الفردية بعد عثرات عديدة و يعمد من قبل بعض النقاد، و لكن هذا التكريس لا ياتي الا بعد بعثته من قبل المعهد الفرنسي الى quot;باريسquot;، هناك اول ما يقوم به هو زيارة ستوديو quot;بيكاسوquot; مع رسالة توصية كتبها quot;خوان ميروquot;.
كانت الحرب الاهلية الاسبانية 1936 قد خطفت كل أحلامه و أحلام شعبه ليجد في باريس مساحة الحرية التي تاق اليها دائما و يتشبع بالفلسفة الماركسية، و يتأثر بـquot;الواقعية الاشتراكيةquot; حيث رسم لوحات في ذكرى الشاعر quot;غارثيا لوركاquot; و quot;ميغيل ايرنانديثquot; و لوحات يمكن تسميتها بالاجتماعية مثل لوحة quot;المحترفينquot; و quot;كورس العمالquot; وquot;نشيد السلامquot; و بعد سنتين اختير للمساهمة في quot;بينالي فينيسياquot;، وبعد ذالك يدعى الى متحف quot;بطرسبرغquot; و هو مازال في بحث متعب عن مفردات تشكيلية جديدة، لانه حتى ذالك الحين لم يكن مقتنعا بعمله كما كان يشاء، وهذا يحدث بعد زيارته quot;نيويوركquot; و هو في سن الثلاثين، و هناك يلتقي مجموعة quot;التعبيرية التجريديةquot; مثل quot;موذرويلquot; و quot;بولوكquot; و quot;توبييquot; و اخرين، و هؤلاء اعجبوا بأعماله، هنا بأعتقادي وجد الفنان نفسه و يلتقي ذاته المضطربة، و يتذكر أعماله السابقة منذ سنوات و يكتشف انها تحاكي التعبيرية التجريدية و هو لم يعي ذالك حينها، و يتألف مع هذا الاكتشاف، اود الاشارة الى تأثير هذه المجموعة في فناين عراقيين مهرة مثل quot;شاكر حسن ال سعيدquot; و quot;رافع الناصريquot; و محمد مهرالدينquot; و اخرين.
في منتصف الخمسينات يصير quot;تابييسquot; فريدا في ابداعه لو نقارنه بمواطنيه quot;ميروquot; و quot;سلفادور داليquot; الذين سيفوقهم فيما بعد بأكتشافات تكنيكية رائعة و فريدة في العمل quot;الكرافيكيquot; و الطبع على الحجر quot;ليثوغرافquot; و هنا يصبح واحدا من أهم رجال الفن الحديث العظام خلال النصف الثاني من القرن العشرين، و جزء من هذا القرن الجديد، و أسمه سيبقى في ذاكرة التأريخ مثل quot;دالي quot; و quot;بيكاسوquot; و quot;ميروquot;، الذين ربما فاقهم في تقنيته و تعبيريته اذا أخذنا بعين الاعتبار انهم كانوا له مثالا أقتدى به دائما، و لكن بأعتقادي ان أضافته الحاسمة للفن الحديث كان محصورا بين فترة الخمسينات و بداية السبعينات، في تبنيه اسلوبا غامضا خلي من الشفافية المقصودة و استخدامه المتنوع للعديد من عناصر البناء التشكيلي، و ادوات لم يعتدها معاصريه منطلقا من ثقافته العميقة، و ممارسته اليوميةفي مشغله حيث اكتسب شهرة غرابة الفنان و الفيلسوف، لم يعد يبرر أبداعه، يقول الاعمال الفنية غنية عن التفسير و التحليل الا القليل منها.
في تنوع مواده الفنية، و quot;فقرهاquot; في الكثير من الاحيان، و تحددها يضع quot;الوجوديةquot; في أطارات غريبة في معظمها تحاكي التجرد و الموت، و الخراب و خشية الموت كما نرى في العديد من لوحاته رمادية ما بعد القصف، حيث لا يبقى غير الرماد و الوحشة، جدير بالذكر تأثره المحزن والعميق بعد قنابل quot;هيروشيماquot; و quot;نكازاكيquot; ففي معظم لوحاته نلاحظ quot;الانطباعquot; الاول للتخريب بعد التفجير حيث لا غير السواد و رمادية الكون، و هو بهذا يختار لغة جديدة، و أسلوب حديث غير معروف سابقا عند معاصريه من الفنانين، متمكنا من أدواته التقنية بعد بحث مضني و كأنه يريد البداية من جديد سلوك دربا فريدا، ذاتيا و لا يقارن.
أكتب حزينا في حق quot;تابييسquot; الفنان الملتزم و المتواضع، و الذي قدم متحفه كمساحة لنشاط ثقافي و فني عراقي لا نظير له في 2006، وهذا دام اسبوع احتوى على لوحات، و موسيقى و شعر و مناقشات حول الثقافة العراقية، سمي بـquot;المعادلة العراقيةquot; غطته كل وسائل الاعلام الاسبانية، و خبر أفتتاحه كان على الصفحات الاولى لكل الصحف الرئيسية في هذا البلد، أتذكر أن الشاعر quot;سعدي يوسفquot; سألني عن quot;تابييسquot; و كان يود لقاءه كما كلنا، حاولت ذالك ولكن الفنان في تلك الايام كانت صحته متدهورة فأعتكف مشغله و منزله في قرية شمال quot;برشلونةquot;، ولكنني بعد سنتين التقيته صدفة في مؤسسته، كان لقائا قصيرا اتذكر بعض ما حدثني به، فهو كان يشعر بالاحباط لانه الفنان الاكثر شهرة ولكنه لايملك لوحة تخلده في التأريخ بأشارة واضحة الى لوحة quot;غيرنيكاquot;. و في مكان اخر يعاتب النقاد الاميريكيون عدم فهمهم لعمله، و لم يكن سعيدا ترتيب معرضه الاخير في quot;متحف بيويوركquot; 1995 وشكى من عدم الانتظام و التنسيق و مدير المعرض، و الانارة الخ، و يقول ان النقد الاميركي لم يضعه بمستوى quot;بيكاسوquot; بسبب تعقد اعماله التأملية المتأثرة بالفلسفة الصينية، و اليابانية. و هذا صحيح، ففي معظم أعماله نلاحظ ضربات الحرف الياباني أو الصيني ملقاة على قماشه و بتعمد قاسي، و أيظا لم يترك الفن الفطري الافريقي جانبا فمنه أستلهم العديد من وحداته التشكيلية، كان لقاء قصير لم يترك فيه الفنان نوعا من المرح مشيرا الى عدم جدوى اهتمامي بالموسيقى الحديثة كـquot;الجازquot; و quot;البلوزquot; مشيرا الى عواصف quot;بيتهوفينquot; و ماسي quot;فاجنرquot;..