عبد الجبار العتابي من بغداد: تباينت اراء عدد من ادباء العراق في ايجاد فروقات جوهرية بين شعراء القرية وشعراء المدينة في الوطن العربي، مشيرين الى اختلافات الفكرة تتمثل في الشاعر نفسه، اذ ان هذه الفروقات ذابت في المجتمعات العربية على خلاف الاوربيين الذين لديهم هذه الفروقات، معللين ذلك بالقول ان رمزية القرية هي التي تهيمن الان على المدينة، وان كل ما في القرية من اعراف وتقاليد اصبحت تسيطر على علاقات المدينة.
أردت ان اهدي هذا الموضوع الى روح صديقي الشاعر والقاص الراحل محمد الحمراني، وكنت قد تحدثت معه في هذا الموضوع قبل سنوات، وكتب لي عن تأثره بالبيئة التي ولد وعاش فيها، وعنها كتب روايته (عواصف قروية).
قال الراحل محمد الحمراني رحمه الله: ان الامكنة التي يخرج منها الكتاب لها تأثير مباشر في تكوينهم الثقافي باعتبارهم نتاج ثقافة المجتمع الذي ولدوا في محيطه، ولذلك لا بد لهم من اخذ الكثير مما يحمل ليعاد صياغته بطريقة مناسبة للوعي.
واضاف: كانت نشأتي في مدينة صغيرة على مشارف الهور كأنها قطعة من القمر نزلت في احضان الماء،سحبتني بضوئها الى احضان القصب ودفعتني بقوة الى حيث تتشكل الاسمال انساقا كأنها طيور في السماء، وجدت نفسي اسبح مع الاسماك وبي رغبة في التحليق مع طيور الماء، اجلس في المشحوف فتتسلق يدي رائحة الطين وتأخذني معها الى مدن قديمة كانت تحيط بالهور حتى نزل الماء فظهرت السفن التي اغرقها البحر فرحل على اثرها الملح ورائحة الروبيان وسنوات الضياع في امواج السهل العظيم.
وتابع: عندما كنت صغيرا كانت تستفزني هذه العوالم وتأخذني اليها ومن دون ان ادري اتحسس ان رئتيّ ممتلئتان برائحة تنانير الطين وشواء السمك بجوار الانهار ورأسي يغلي بأصوات الطيور وقوة اصطدام الريح بأكواخ القصب والبردي وصراخ النسوة الراكضات خلف قطعان الجواميس قيركض قلبي خلف الاصوات كأنه كائن هلامي يحاول ان يعانق كل ما يحيطه فأستمع الى حكايات عجيبة عندما يأخذني ابي معه الى المضيف، حكايات تتداخل عن شخوص مجهولين وعن قرى ليس من السهل الوصول اليها وبطولات رجال خارقين يبتلعون الماء ويقتلون الاسود في الاغلب الذي يروي هذه الحكايات يصل الى مكان المتعة او الجذب ويتوقف ويقول للرجال الجالسين معه بأنه غدا سوف يكمل لهم ما يرويه فترتفع الاصوات متوسلة بضرورة التكملة ولكن في الاغلب كان الرجل يتركهم وينهزم فيخترع كل من الموجودين نهاية منه مناسبة لما قاله ذلك الرجل.
سألت اولا الشاعر الدكتور محمد حسين آل ياسين الذي اشار الى ان الطرح والتفكير هذا اصله اوربي،وقال: في عالمنا العربي يصعب العثور على فرق جوهري بين الشاعرين، لان شاعر المدينة العربية اليوم ما يزال يعيش اجواء ريفية وقروية في المفاهيم والعلاقات وفي طبيعة الحياة، الا ترى ان اعراف القرية والريف مسيطرة على المدن ؟ نحن نعيش الان الفصل العشائري في داخل المدينة ونعيش روع الزعامة القبلية داخل المدينة للاسر، ونعيش غسل العار في داخل المدينة، واشياء كثيرة من اعراف وتقاليد ومفاهيم وتربيات الريف ما تزال مسيطرة على المدينة، فالشاعر الذي يعيش في هذه الاجواء لابد ان يكون ابنها فلا تتلمس لديه الفروق الجوهرية التي نتلمسها بين شاعر المدينة الاوربية والريف الاوربي، هناك هذه المقولة تتصل بحياتهم بمدنهم بأعرافهم هم، لان الفرق كبير والفكر مختلف وانعكاسه على الشعر مختلف ايضا بأختلاف الامر لدينا نحن العرب، فلا فرق بين الاثنين، ثم اننا نتلمس في شعر الشعراء اجواء الريف واجوائه وعلاقاته في قلب الشعر المنتج داخل المدينة والعكس بالعكس، فأين الفروق الجوهرية ؟، انها عندنا ذائبة.. لا وجود لها، ويصعب الوقوف عليها وتشخيصها بخلاف ما هو لدى الاوربيين من الفروق المعلومة.
واضاف: ان اصل الطرح والتفكير بفكرة الثنائية، شاعر ريف وشاعر مدينة، فكرة اوربية وليست عربية، اصلا لم تخطر على بال الدارسين والنقاد العرب لولا طرحها لديهم وتنظيرها عندهم، ولما كنا دائما متابعين، ننقل الينا ما لديهم فنقلنا هذه دون ان نتلمس مصاديقها على الارض كما هي لدينا.
فيما اوضح الشاعر خالد البهرزي، من احدى قرى محافظة ديالى، انه ملتصق بالقرية لذلك يكتب عنها وعن بساتينها، وقال: ربما لا يوجد فرق، ولكن شاعر القرية تجده اكثر التصاقا بقريته فتجده يكتب اعتزازا بقريته، فأنا مثلا لاعتزازي بقرية (بهرز) اكتب عنها دائما وأقرأ قصائدي (بهرزيات) في كل مكان وامسية شعرية.. حبا في بهرز، وانا من المعجبين والمحبين للشاعر (يسينين) الشاعر القروي الروسي، انا اعتقد ان الامر يتعلق بالشاعر نفسه، فهناك من يعتز بقريته او مدينته وتجده يكتب الشعر متغزلا او واصفا، انا قصائدي تتحدث عن البساتين، عن النخيل، عن الاشجار وعن الانهار والحنين، ويقول احد الشعراء البهارزة: ان البهرزي لا يستطيع ان يبات خارج بهرز ليلتين، وفعلا: انا حين حضرت مهرجان الجواهري في الليلة الثالثة غادرت، لذلك تجدني بعيدا عن المدينة وملتصقا بالقرية اكثر، فضلا عن عدم كتابتي للنشر منذ عام 1980 خوفا من ان اضطر للكتابة عن النظام السابق وهذا ما جعلني غائبا عن نشاطات المدن ولا يعرفني الا القليلون، واعتقد ان صخب المدينة لايخدم الشاعر بقدر ما يخدمه هدوء القرية وبساطتها.

اما الناقد علي حسن الفواز، فقال: العراق التاريخي الان لايمكن العثور على جغرافية محددة لقصيدة القرية او قصيدة المدينة، لان القرية بمفهومها الاجتماعي والديني والسياسي قد زحفت الى المدينة بالشكل الذي جعل اغلب رموز المدينة العراقية الان خاضعة لرمزيات القرية، ولو نجد الكثير من الالقاب والكثير من الشفرات تعبر عن ان رمزية القرية هي التي تهيمن الان على المدينة السياسية او المدينة الثقافية او المدينة الاجتماعية او المدينة الادارية، فضلا عن ان المدينة العراقي القديمة، المدينة التجارية القديمة، المدينة التي كانت شفراتها دائما تجد مرجعياتها مهنية، حينما تجد (القيمقجي، الشرشفجي، القبانجي،القندرجي،الصباغ،النجار وسواها الكثير ) كل هذه كانت القاب مدينية بالشكل الذي يجعل العلاقات اخل المدينة هي علاقات مهنية حينما تفكك المدينة تحت زحف الجنرالات او زحف العسكرة بعد عام 1958 تفككت المدينة وبدأت القرية تلامس الروح السرية للمدينة وربما اخضعتها، حتى ان شكل ما يسمى بالقصيدة الرعوية بدأ يزحف الى المدينة واصبح شكلا ضاغطا، وحتى السياب، في وجه من ملامحه نجد انه شاعرا رعويا، عكس البياتي الشاعر المديني او نازك الملائكة الشاعرة المدينية، لكن السياب كان شاعرا رعويا، ومع ذلك ظلت القصيدة الرعوية عند السياب هي القصيدة المهيمنة.
واضاف: اما الاختلاف فنجد اولا النفسية للقصيدة، تجد الاستعارات للقصيدة، تجد ثيمة الحنين، تجد حتى الرمزيات داخل القصيدة موجودة، قلق الشاعر الريفي يختلف عن صلادة وصلابة الشاعر المديني، هذه المركبات تدخل في صناعة مظاهر الشاعر الذي ينتمي الى المدينة، ولكن كما قلت: ان المدينة العراقية تحولت الى مدينة موحشة، مدينة تنتظر غزاتها القادمين من القرى، وبتقديري ان الشعراء في المدينة هم الضحايا، او هم المغتربون عن المدينة، لان اغلب الشعراء حينما زحفوا من القرية الى المدينة لم يستطيعوا ان يندمجوا مع بنية المدينة العمرانية، مع فضاءات المدينة الضاغطة، مع الهوية التجارية للمدينة، وبالتالي ظلت القصيدة الرعوية ساكنة وكثير من الشعراء حينما نقرأ لهم نجد روح القرية، الروح الرعوية، الروح الزراعية، الروح السحرية، ما زالت كامنة في قصائدهم.
ولم يعتقد الشاعر نصير فليح، بان البيئة تخلق فرقا لان الاف الكيلومترات صارت لا تفرق، وقال: من الممكن تصنيف الشعراء ان ينتمي كسكن الى القرية، ولكن لا اعتقد الان في عالمنا الشاعر اذا انتمى للقرية وهو يبعد نصف ساعة او ساعة عن المدينة ستختلف مواضيعه او تختلف بيئته الشعرية او يحدث انعكاس لهذه البيئة، وربما هو توصيف جغرافي، مكاني، ان هناك شاعر ينتمي الى القرية، ولكن عجبا لو انعكست بيئة القرية ببساطتها واجوائها ومن خلالها استطاع الشاعر ان يدخل الى عوالم اخرى، من الممكن ان نقول ان هذا الشاعر ذو صبغة قروية، لكن ما نعرفه الان.. ان القرى ما عادت تلك القرى القديمة وحتى البناء مثلا، اصبح يشبه بناء المدينة، ويبقى الاتصال بالطبيعة او الزراعة.
واضاف: سابقا كان هناك فرق كبير بين ابن القرية وابن المدينة، المواصلات صعبة، في السنة يأتي مرة او لايأتي، فبيئة الانسان مختلفة كثيرا عن بيئة الانسان في المدينة، الان ليس فقط اصبحت القرية بجانب المدينة بسبب نظام الاتصالات، بل العالم كله اصبح قرية صغيرة، وان من يكتب شعرا فيه طبيعة نقول ان هذا انعكاس الطبيعة في الشعر ولا نسميه شعرا قرويا، ونقول انه شعر الطبيعة، اي ان هذا الشاعر يهتم بالطبيعة عنما تكثر في شعره صفات الاشجار والخضرة والجداول والجبال والازهار، عندئذ يصنف هذا ضمن شعر الطبيعة وليس ضمن شعر القرية، وانا ضد مثل هذا التصنيف من حيث المبدأ، انا انظر الى شعر الشاعر، فان كانت السمة الغالبة عليه شعر الطبيعة يعتبر شعر الطبيعة واذا كانت السمة الغالبة عليه الشعر الاجتماعي فيعتبر شعرا اجتماعيا، انا لا اعتقد الان ان البيئة تخلق فرقا لان الاف الكيلومترات صارت لا تفرق.
واختتم الدكتور الشاعر محمد علي الخفاجي وجهات النظر بالقول: ان اكثر الشعراء متأتين من القرى، واحيانا يتعمد الشاعر ان يأتي بمفردات تدل على البيئة اذا تأثر الشاعر في اشياء او اراد ان يحاكي اشياء لها وجود في القرية اكثر من المدينة.
واضاف: وبالتأكيد.. كوني في العراق اختلف عن مكان اخر، وتأثير بيئتي موجود في شعري، فعندما كتبت اكثر موجودات شعري من بيئتي، البستان، النخلة، والدي، اكيد هناك تأثر، ولكن تبقى شاعرية الشاعر سواء في المدينة او الريف، وحسب استيعاب الشاعر لما حوله تتحدد نماذج القصائد التي يكتبها وربما الشخص يعيش في اوربا ولا يتمثل الثقافة الاوربية، وكذلك ربما هناك شخص كان شاعرا يعيش في بيئة زراعية لكنه لا يتمثل هذه البيئة وفي كل الحالات من البيئة ما يترك اثره على قصائد الشاعر، اما شاعرية الشاعر فهي مزيج من ثقافته وموروثاته ومما يلتقطه من الواقع انيا، ربما هناك فروق فردية بالاستيعاب وبالتلقي ولكن تبقى ثقافة الشاعر غير محدودة بالبيئة التي يقطن فيها.