حميد مشهداني من برشلونة: في كتاب مذكراته الاخيرة يكتب ldquo;لويس بونويلrdquo; 1900-1983 ldquo;هذا الفيلم كان نتيجة تعانق حلمين، rdquo;سلفادور داليrdquo; دعاني زيارته لبضعة ايام في منزله شمال ldquo;كاتالونياrdquo; وحال وصولي مدينة rdquo;فيغيراسrdquo; حكيت له حلما عشته قبل أيام قليلة، فيه رايت غيمة نحيلة تشرط وجه القمر، و سكين حلاق تجرح عينا ، وهو بدوره قص لي حلمه الذي يتزامن مع حلمي، وهو رأى في حلمه يدا مليئة بالنملrdquo;. قبل ذالك بعقود يكتب ldquo;داليrdquo; في مجلة اصدقاء الفن، في عام 1927 قصيدة نثرية سماها ldquo;صديقتي و الساحلrdquo; فيها يشير الرسام العبقري الى ايادي مقطوعة، وعين يشرطها موسى حلاق. و لكن الفيلم صنع في في عام 1929. عام الحلمين، لاحقا ساعود الى سوريالية التناقض هذا.
بونويل، بعد مشاهدته فيلم ldquo;أزنيشتاينrdquo; الرائع rdquo;المدرعة بوتمكينrdquo; خرج من دار السينما منتشيا، مستعدا لاقامة المتاريس في شوارع ldquo;باريسrdquo;مصابا بعدوى الجيل الضائع في حرية ما بعد الحرب العظمى و ترنح القيم و الاخلاق قابضا سلاح سلاح الاستفزاز الفني، ليشعل التصادم بين قيم مجتمعات ما بين الحروب الغارقة في أزمات ليست أقتصادية فحسب، و انما اخلاقية و ثقافية.
يصر ldquo;بونويلrdquo; دائما ان ldquo;كلب اندلسيrdquo; كان في اساسه ضد الطليعية، وهذا غريب في اعتبار العديد من النقاد و المحليلين الذين سموا الفيلم ldquo;قمة الطليعيةrdquo; في اربع الاول من القرن الماضي في تزامنه مع ينوع العديد من الحركات الثقافية و الفنية في تلك الفترة التاريخية مثل الدادئية، والسوريالية، و التعبيرية..... الخ. مبدعو تلك المرحلة كانوا في حالة غليان التحول الاجتماعي فيما بعد الحرب العظمى الاولى، و صدى الثورة الروسية الذي لم يترك مداعبة اذهانهم، فخلقت مختلف الحركات الفنية، و العديد من وسائل التعبير الجديدة التي تنازعت القيادة الثقافية، و لكلها كان صدى اجتماعي ساعد على صهرها كمفاهيم و قيم جديدة تأخذ من الحرية، و حرية الفرد، و ذاته شعارا رئيسيا.

للحديث عن فيلم ldquo;الكلب الاندلسيrdquo; علينا العودة بداية العشرينات في ldquo;مدريدrdquo; حيث يحدث لقاء العصر بين ldquo;غارثيا لوركاrdquo; الشاعر المرهف الاحساس و ldquo;سلفادور داليrdquo; البالغ في النرجسية و ldquo;لويس بونويلrdquo; الشاب القوي الشخصية العنيفة، هذا يحدث في ldquo;دار أقامة الطلابrdquo;العتيدة التي اسسها المربي الفاضل ldquo;فرانسيسكو خنير دي لوس ريوسrdquo;1839-1915 في الربع الاخير من القرن التاسع عشر. و هذه صارت ملتقى حر للعديد من المثقفين و الفنانين الاسبان، و في رصيدها 3 جوائز ldquo;نوبلrdquo; لطلابها، و حاضر فيها ldquo;اينيشتينrdquo;و عزف فيها ldquo;سترافنسكيrdquo; وسبقهم ldquo;بول فاليريrdquo; شاعرا. و اصبحت مركزا للنور الثقافي في كل اوروبا في فترة ما بين الحربين العالمية الاولى و الحرب الاهلية الاسبانية 1936، و بعد انتصار الفاشية الغيت المدرسة و نظام تعليمها الحر.
ولكن الاصدقاء الثلاثة التقوا في فترة ارتياح اجتماعي و سياسي، لم تعتد عليه اسبانيا منذ عقود، و كما نعرف الارتياح الاجتماعي و حرية التعبير هي اساس الابداع الفني و الخلق الثقافي، ففي دار الاقامة الطلابية هذه أطلق العنان للابداع في كل جوانبه، فصار ldquo;لوركاrdquo; شابا من أشهر شعراء أسبانيا، و صار ldquo;سلفادور داليrdquo; من أشهر رساميها، و ldquo;لويس بونويلrdquo; صار سينمائيا عالميا، و هنا سبب المقال عن فيلم ldquo;الكلب الاندلسيrdquo;الغامض، و الذي عنه كتبت الاف المقالات و عشرات الكتب، و يتسائل الباحثين سر هذا الفيلم و كيف ان واحدا من اكبر صناع السينما في تلك السنوات ldquo;شارلي شابلنrdquo; يقتني نسخة منه ليشاهده عشرات المرات، ثم استمرار عرضه في ldquo;باريسrdquo;لمدة اكثر من 8 أشهر متواصلة رغم الضجة الاعلامية التي سببها في الجمهور، ما بين معارض و مؤيد له،. كان ldquo;بونويلrdquo;على يقين من نتائج الحدث بسبب هذا كان يمشي شوارع باريس و جيوبه مليئة بالحصى كسلاح لمواجهة اي هجوم من قبل متعصب ديني، او متعصب سياسي.، و هنا كانت تكمن فكرة الفيلم الاساسية، ففي زيارة ldquo;بونويلrdquo; مدينة rdquo;داليrdquo;شمال ldquo;كاتالونياrdquo; و تبادل الاحلام الفنطازية نضجت فكرة صنع الفيلم و اثناء كتابة السيناريو اتفقا على ان افكار الفيلم، و لقطاته، و غرابته، يجب ان لاتعطي اي مجال للتفسير أو التحليل،، لا ثقافيا و لا ldquo;سيكولوجياrdquo;ثم فتح كل ابواب ldquo;اللامعقولrdquo;على مصراعيها،، و اتفقا ايظا على ان كل مفرداته، و كل لقطاته يجب ان تكون نوعا مسلسل ل ldquo;صدمrdquo;المشاهد دون رحمة، في ldquo;انطباعrdquo; مثير و غامض متعمدين في كل كاديرات الفيلم ليترك هذا في حيرة من أمره، و باعتقادي ان هذا هو سر الفيلم القصير الذي لا يتجاوز اكثر من 17 دقيقة.
اما عنوان الفيلم ldquo;كلب اندلسيrdquo; كان هذا أكثر حيرة، فهما الاثنين امتنعا تفسير معناه، الى يوم وفاتهما، و خلال العقود الثمانية الاخيرة يختلف النقاد في فهم معنى العنوان هذا، و كثيرا منهم اعتبروا في هذا اشارة لا تقبل الشك الى الشاعر العظيم ldquo;فيديريكو غارثيا لوركاrdquo; و علاقة هذا مع ldquo;داليrdquo; و أحباطه العاطفي مع الرسام، و لكن صانعي الفيلم نفوا ذالك التفسير ولكنهم لم يعطوا حلا للمحللين، فبقى هذا الامر مصدرا للعديد من الحكايات و الاشاعات، ولكن في البحث لا نجد تفسيرا الا بين ldquo;لوركاrdquo; الاندلسي و ldquo;خوان رامون خيمينيثrdquo; الذي يعتبر عراب جيل ال27، و هو ايضا من الاندلس،.
سلفادور دالي، قبل في مدرسةrdquo;سان فيرنادوrdquo; للفنون الجميلة مشاكسا، و طرد منها اكثر من مرة، كان قد اخترع تعبير ldquo;العفونةrdquo; و في مزاح قاسي أعتبر كل اكاديمي و موروث هو نوعا من العفونة و هنا يقصد بالذات الشاعر ldquo;رامون خيمينيثrdquo; و يعيد هذا بعد سنوات ليصف ldquo;لوركاrdquo; بنفس التعبير، بعد فشل الصداقة الذريع الذي كان سببه الطرف الثالث العنيف في هذه العلاقة الذي كان ldquo;بونويلrdquo; الذي اتفق مع دالي في تعبيره للعفونة، مشاهدة الفيلم تتيح فرصة بسيطة لتفسير عنوانه، فنشاهد الحمار ميتا على سطح بيانو.، لنتذكر ان ldquo;لوركاrdquo; كان عازف ldquo;بيانو ldquo; ماهرا، و واحدة من أشهر قصائده التي لحنها هو،كانت تتحدث عن اربعة بغال، وقد اشتهرت كثيرا في اسبانيا قبل صناعة الفيلم، هذا من جانب، و من الجانب الاخر هو تشابك و غموض الميول الجنسية لبطل الفيلم، فأحيانا نراه ldquo;خنثىrdquo; و احيان اخرى نشاهده يشحذ القوة لممارسة الجنس مع امراة. وهنا تكمن حيادية ldquo;داليrdquo;الجنسيةrdquo; فالمعروف عنه انه لم يضاجع زوجته ldquo;غالاrdquo; ابدا، و لم يمارس الجنس مع امرأة بسبب خوف من عدوى الامراض الجنسية منذ طفولته بعد موت عمه بمرض ldquo;السفلسrdquo; الرسام العبقري كان يمارس ldquo;الاستمناءrdquo; و الشاهد على ذالك العديد من لوحاته الشهيرة.
لست هنا بصدد تحليل الفيلم المركب بطريقة استفزازية و سريعة لم تسمح لاحد تفسيره، اتحدث عن انطباعي الشخصي، و قربي من هذه الشخصيات التأريخية. لم تتأخر كتابة السيناريو أكثر من اسبوع بين الاثنين في قرية ldquo;كاداكيسrdquo;على ضفاف المتوسط، و انتاجه كلف ثمنا بخيسا تبرعت والدة ldquo;بونويلrdquo; وهذا تصرف بهذا المبلغ بحرص شديد. حيث عاقد ممثلين من الدرجة الثالثة و غير معروفين، و هؤلا لم يقرأوا و لا صفحة من السيناريو، أدائهم كان باوامر من ldquo;بونويلrdquo; كان يخترعها كل يوم خلال الاسبوعين التي تم فيها التصوير الذي قام به ldquo;البرت دوفيرجيرrdquo; و الممثل الرئيسي كان ldquo;بيير باتشيفrdquo; مع الممثلة ldquo;سيمون ماريولrdquo;. و في الفيلم نرى بونويل و دالي في لقطات غاية في الاثارة، أستمر عرضه خلال 8 اشهر في دار سينما ldquo;ستوديو 28rdquo;في باريس، و كان سببا في العديد من الاحتجاجات من قبل أصدقاء و اعداء، و أيضا صار بطاقة انتماء للحركة السوريالية دون تزكية كما كانت العادة انذاك.
ولكن ldquo;داليrdquo; النرجسي الى حد اللعنة عاد ليعلن بعد سنوات في كتاب شبه مذكرات، ان ldquo;بونوبلrdquo; كان فقير الفكر سينمائيا، و انه كان ldquo;امياrdquo; في العمل السينمائي، و أعتبر نفسه في هذه المذكرات الخالق الاول للفيلم، و هذا سبب لبونويل احباطا كبيرا و هو كان يشق طريقا صعبا في صناعة السينما الاميركية في ldquo;هوليوودrdquo; لان دالي أشار في كتابه هذا الى ldquo;الحادrdquo; صديقه السابق، و لان دالي كان في قمة الشهرة في اميركا المحافظة انذاك أظطر سادة هوليوود تسريح المخرج العبقري من وظيفته لينتقل بعدها الى المكسيك حيث صور و أخرج أروع افلامه ليعود بعد سنوات الى ldquo;هوليوودrdquo; شاهراا في وجه هؤلاء جائزة ldquo;الاوسكارrdquo; التي فاز بها على فيلمه ldquo;سحر البرجوازية الخفيrdquo; في عام 1973.
أخيرا اود الاشارة الى الموسيقى، فالفيلم كان صامتا بدون موسيقى على مدى 30 عاما،، و في عام 1960 وضع له الموسيقى التصويرية، و هنا يضيف غموضا اخير في فهمه في اختياره مقاطع من ldquo;ترستان و يسولداrdquo; لrdquo;فاغنرrdquo; و موسيقى ldquo;تانغو أرجنتينيةrdquo;. هذا فسره النقاد على انه التناقض و الاحباط في الرغبات الجنسية التي تتصارع على طول الشريط، فيلم رائع رغم غموضه سجل انعطافا تأريخيا في صناعة السينما و ساهم في زيادة المهتمين بالسينما من جمهور، الى نقاد، الى دارسين في هذا الفن الجميل.