حلب: بخطوات وئيدة حذرة، ترافقت مع انحسار شعاع شمس يوم طويل على مدينة حلب، قَفَل أديبُنا عائداً إلى منزله في إحدى المناطق التي توصف بأنها آمنة، واختلطت أمامه ظلال المباني المتطاولة على الشارع الخاوي، مع أصوات الطبيعة الساكنة، وأشياء لم يعتد عليها سمعه ولا بصره. كان من المفترض أن يحضر سهرة شعرية في أحد مراكز الشعر المهمة في مدينة حلب، وأن يقدِّم تعقيباً على قصيدة من شاعرٍ أحب تفاؤله الذي يكسو به شعره، وتقريراً عن النشاط الفكري والأدبي في مدينة لا تزال تتباهى بأنها كانت يوماً عاصمة الثقافة الإسلامية لسنة 2006م.
تداخلت الصور بذهنه، وعيناه ترقبان الطريق المقفر، وقفز خياله إلى زحام تلك الجادة، وكثرة المارة فيها، ثم انعقدت المقارنات بطريقة لا إرادية في خياله بين ذلك الاعتذار المكتوب بخطٍ بدائي على باب المركز الثقافي عن تلك الندوة، والأسباب معروفة، وبين الحراك الفكري في السابق، والندوات الأدبية، والمحاضرات الثقافية التي كانت تموج بها الصالونات الأدبية في الجامعة والمراكز الثقافية ومسرح الوزارة الناشئ، وأيضاً في المكتبة الوقفية التي جُدِّدت وحُمِّلت آمالاً رائقة في ربط الحاضر بالماضي، ووصل التراث بالواقع.
كان يأمل دائماً أن تزداد الحركة الفكرية والشعرية في مجتمعه الحلبي، وأن يأخذ الأدباء والمفكرون منزلتهم اللائقة، ولكنَّه القدر المحتم الذي يربط النشاط الثقافي والأدبي والعلمي بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي على الأرض، ولعلّه كان يرغب بحضوره تلك السهرة الشعرية، أن ينقطع قليلاً عن أخبار الألم والمعاناة، ويرتحل بعيداً مع نبضات شاعره المحبوب، إلى فضاء فسيح حيث لامكان ولازمان، ولكنه حرم من هذا أيضاً.
والواقع إن بعضاً من روَّاد النشاط الفكري والشعري الاجتماعي في حلب قد دخلوا في مرحلة من الجمود والسبات الشتوي، فتوقفوا عن الكتابة والنشر، في حين أجهد آخرون أنفسهم في محاولة الاستمرار على وتيرة عطائهم السابقة، رغم صعوبة العيش وندرة أساسيات الحياة. وإن أشد ما أثَّر في الحراك الثقافي والنشاط الأدبي هو الانقسام الطارئ على المجمع الحلبي، وهو الذي تعشق الاستقرار والبهجة لأكثر من ثلاثة عقودٍ متواليةً، فكان من نتيجة ذلك أن آثر قسم واسع منهم الصمت والانكفاء على الذات مبتعداً عن مناخ رآه منافياً للإبداع الفني والشعري، واستمر آخرون في كتاباتهم الأدبية والشعرية، يقتنصون ما يتحصل لديهم من فرص اجتماعية ووسائل شعبية ليحافظوا على اطلالتهم وعطائهم ومنزلتهم، ولئن تراجع حضور الصحيفة والإذاعة والمنتدى والملتقى وغيرها من الوسائل المعروفة في المدينة، فإن الأدباء وجدوا في صفحات المدونات والمواقع الاجتماعية ملجأ ومتنفساً طيباً.
على أن السمة الأهم لعطاء الشعراء في السنة الماضية تحديداً، أن عادت النفوس إلى أصول نشأتها الاجتماعية والدينية، واطمأنت إلى موروثها الغيبي والفكري، فاتجهت إلى قصيدة الابتهال والدعاء بكشف الأزمات والملمات، وسلّمت بالقضاء والقدر، واحتفظت بشعاع الأمل في كشف الغمة. وبرز ذلك جلياً في القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة معاً. إلا أن كُتَّاب الشعر العمودي الكلاسيكي، فتميزوا بالمباشرة والصراحة والوضوح في إبراز المعاني في أعمالهم، خلافاً لشعراء التفعيلة الذين وجدوا في الإيحاء والتورية وسائل أخرى في التعبير.
ويمثّل لذلك شاعر حلبي كان قد تسلم إدارة المجلة الأدبية في جامعة حلب، هو الأستاذ حسام الدين دويدري، وقد امتطى صهوة جواد الشعر العمودي بمطالعه القوية، وألفاظه الرخيمة، وسبكه المتين، فحرَّك القلوب بمعاني مباشرة واضحة، تجلت في حب الله، والتصبر والتجلد، والرضا بالقدر، فقال:
الكُلُّ يَفنَى ويبقى الواحدُ الأحدُفهلْ عَسَاكَ بدربِ العيش تَتَّئِدُ
وتجعلُ الحُبَّ غَرْسَاً واعداً بيدٍتُجزي العطاءَ فيرضى الله والوَلَدُ
وليت تدرك أنّ المُبْتَلَى قدرٌيَقضي الصمودَ، وفيه الصبرُ والجَلَدُ
والعيشَ في زمنٍ الله قدّرهُونحن فيه خيوط النَسجِ تَتَّحِدُ
وتابع في ذات المعاني، خشوعاً وتضرُّعاً للذات الإلهية، يرجو حفظاً لأناس تداعت عليهم المحن والإحن، ويدعو رفعاً لبلاء ألمَّ بالبلاد والعباد، فقال:
يا رب صن بهدى الإسلام عزتناأطفئ بنورك ما في الخلق قد وَقَدوا
وارفع عذابك عن شعبٍ أتى تعِباًيدعوك يا خير من مُدَّت إليه يَدُ
وأما شعراء التفعيلة، فتوسعوا في الاعتماد على الرموز والتوريات، وتعمقت في قصائدهم الصور المبهمة والطلاسم أحياناً، ولجؤوا إلى معاني الضياع والتشتت، لتعكس مشاعر الألم العميق والخوف من قادم الأيام. فقال شاعرنا:
ردّي إليَّ حقائبي
ودَعي مواويلَ العِتابْ
ما عدتُ أذكر كيف تاهت في الصدى سفن الخطاب
إني أضعتُ مراكبي
و أضعتُ أيّامَ الشبابْ
و نسيتُ أحلامي بعيداً
بين أوراق الحسابْ
كذلك استخدم في مقطوعة أخرى الرموز والأساطير والأسماء العالمية، لكي يوصل معاني التوتر والتوجُّس والقهر والمصابرة إلى قارئه، فقال:
قلّبتُ أوراقي
رأيتُ الحبلَ مبتوراً... كجَدِّي
فحزمتُ أمري
واحتملتُ الصبرَ سيفاً صارماً
وكتبتُ عهدي... ومضيتُhellip;
في وهمي انتصارٌ quot; دونكِشوتيّ quot; التصدّي
هل كنتُ أبني في رمال الشاطئ السحريّ مهدي ؟!...
وأراد من قوله: دونكِشوتيّquot; الإشارة إلى: quot;دون كيشوتquot; أو quot;دون كيخوتهquot;، وهو معرَّب عن الاسم الإسباني: (Don Quixote)، وهو بطل الروائي الإسباني quot;ميغيل دي سرفانتس سافيدراquot;. والذي يرمز به إلى مثالية تتطلع الى العدل والخير والحق والجمال.
كما حاول الشاعر برموزه وسياقاته الغزلية أن يسكب أملاً على ألم، وأن يعكس حسرات على سويعات قضاها في حلم جميل وأمل قريب، فخاطب معشوقته مرتجفاً متخوفاً:
هل تذكرين hellip;؟!
غداة كنّا كالفَراش نجوب آفاق الرَغدْ
و نصطلي نار الجسدْ
و نشرب الكأسَ المليئة بالوعودِ
و بالرحيقْ
كيف اعترتنا نبضةٌ تجتاح أسوار الزمانْ
كيف انتشينا ساعةً
في سكرة الخمرِ العتيقْ
يوم انصهرنا في وعاء الصمتِ
و نسينا الطريقْ
وأما قصيدة النثر، فتكرست فيها الفوضى، وانتشر اللاانتظام في كتاباتها، وازداد كتابها إغراقاً في استخدام المفاتيح الشعرية، بطريقةٍ غير مفهومة، بما يتجاوز ديدنهم المعتاد في كتاباتهم.
وعلى أي حال، فإنه في ظل هذه الظروف التي عاشتها وتعيشها مدينة حلب، فقد تراجع الاهتمام بالأدب والشعر حتى من رواد المنابر الشعرية، وفرسان الكلمة والقلم، وذلك على حساب الاهتمام بأساسيات الحياة وضروريات المعيشة، وعدُّوا ذلك رفاهيةً تقف بوجهها صخور الواقع، فتوقفت حلب إثر ذلك عن العمل والإبداع ريثما ينبثق في الأفق أمل جديد، وكأنها قد استجازت الدهر والتاريخ أياماً عصيبة تمرُّ بها، علَّه يعفيها لبرهة سانحة من واجبها تجاه ما عودته من فنون وآداب، عسى أن تسترد عافيتها قريباً، وتعود غرَّاء نيرة كما كانت.