يعتبر ديوان شمس التبريزي، أو كما يسمّيه البعض quot;الديوان الكبيرquot;، أهم أعمال مولانا جلال الدّين الرومي شاعر القرن الثالث عشر (1207 ndash; 1273)، أو صاحب الطريقة المولوية، طريقة الدراويش الصوفية الإسلامية ذات السمعة العالمية الطّيبة، التي تجاوز أتباعها الملايين، و اجتذبت مريدين من المسلمين و غير المسلمين.
و ما تزال شخصية شمس التبريزي، أو شمس الدّين التبريزي، التي خلّدتها أعمال مولانا جلال الدّين، مثيرة لجدل كبير في أوساط الباحثين و الأكاديميين و المؤمنين، جرّاء الغموض الذي صاحب ظهورها و مسيرتها و موتها، إلى حدّ جعلها العقدة الأساسية في سيرة مولانا نفسها، التي تميّزت بعقد كثيرة منها ما هو عائد إلى هذا العظيم في شخصه، و منها ما يعود إلى تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها، بما انطوت عليه من تقلّبات و أحداث و أسرار محيّرة.
لقد قالت معظم السير أن شمس الدّين التبريزي كان درويشا هائما على وجهه في بلاد المسلمين، من تلك الفئة من المتصوّفة التي اختارت نبذ الدنيا وراء ظهورها و ترك المال و العيال و التنقّل في ملكوت الله الواسع و التأمّل في آياته في خلقه من بشر و شجر و حجر، و هي فئة وجدت لها نظائر في الأديان الإبراهيمية و في غيرها، خصوصا الهندية منها كـquot;الجانتيةquot; مثلا.
و قالت سير أخرى أن شمس كان شاعرا و حكيما فارسيا إلى كونه درويشا هائما، و أنه جاء إلى قونية السلجوقية التركية آنذاك، يبحث عن تلميذ بعينه ينقل إليه أسرار الطريقة و الحكمة، و أنه وجد في مولانا جلال الدّين ضالته، فكانت الصلة بين الرجلين أقوى من صلة quot;المتحابّين في اللهquot; المبشّرين بالجنّة وفقا لحديث النّبي (ص)، إلى صلة الشيخ بمريده و الإمام بتابعه.
و بحسب القصّة المشهورة، فإن صلة المحبّة هذه أثارت غيرة أتباع مولانا جلال الدّين و أوغرت صدورهم على الدرويش الغامض، فقاموا باغتياله في حادث طرق مثير على الباب ذات مساء، لم يظهر بعدها شمس، تاركا في قلب الصاحب لوعة أفاضت شعرا و فنّا و حنينا و حبّا ما يزال ملهما للسالكين إلى ساعة الخلق هذه.
لكنّ اختبار هذه القصّة في مختبر ذلك الزمان المليء بالغموض أصلا، يجعلها عاجزة عن الصمود في وجه أسئلة ليس بالمقدور لجمها، و التوائم مع معطيات تظهر بين الفينة و الأخرى لا يمكن تجاهلها، فأسرار ذلك الزمان ما تزال تجود بكنهها، إذ تحرّكت فيه الحدود الدولية في دورة تاريخية حاسمة، و التقى فيه أقصى الشرق (المغول) مع أقصى الغرب (الصليبيّون)، و انهارت فيه الخلافتان الإسلاميّتان العبّاسية و الفاطمية، و تلاشت فيه دول و دويلات و تجارب سياسية و دينية و روحيّة، و عصفت فيه بالمسلمين أزمة ثقة حضارية في النفس غير مسبوقة.
و في تقديري فإن أهمّ المعطيات التي لم تمنح ما تستحقّ من العناية في جلّ محاولات تفكيك العقدة المولوية، ربّما استجابة لرغبة مولانا نفسه، الذي تجاوزت كلمته حواجز الأديان و الطوائف و العقائد و الشعائر و الطرق و الشرائع، إلى كلمة التوحيد و العشق و الفناء في الذات الإلهية الجامعة للبشر جميعا بصرف النظر عن خلفياتهم و انقساماتهم و أجناسهم و أديانهم و طوائفهم، أليس هو القائل quot;تعال، كيفما كنت تعال..quot;.
إن معطى الأصل الطائفي لمولانا جلال الدّين الرومي، ربّما شكّل في رأيي أحد أهم قطع الصورة الضائعة، و هو معطى يحتاج كثيرا من التحقيق و البحث و التدقيق، فالحديث فيه ناهيك عن كونه يزعج مولانا في مرقده، ما دام هو قد تجاوز قولا و فعلا هذا المعطى، فإنه سينطوي في كل الأحوال على قدر كبير من المجازفة، و لن يسلم من اختراق أكيد لثغرات ستظهر في جداره لا يمكن سدّها لعوامل موضوعية لا قدرة للباحث على تجاوزها.
لا شكّ أن إقامة مولانا جلال الدّين في قونية خلال الجزء الأخير الغالب في حياته، جعله في نظر غالبية المسلمين السنّة علما من أعلامهم و جزءا من تراثهم الديني و الروحي، خصوصا و أن الطريقة المولوية، التي نشأت بعد وفاة مولانا كمؤسسة للحفاظ على خطّه و تياره و كلماته، لكن الرأي الأرجح في أصله أنه ولد و ترعرع و تربّى quot;مسلما شيعيّاquot; من أبناء الطائفة quot;الإسماعيلية النزاريةquot;، الممتدّ خط أئمتها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى وقتنا الحاضر ممثّلا في الإمام التاسع و الأربعين كريم شاه علي المعروف بلقبه quot;الأغا خان الرابعquot;.
و قد بدأت رحلة هجرة مولانا من أرض مولده قريبا من خرسان حيث كانت للاسماعيليين مناطق نفوذ شبه مستقلّة عن دولة خوارزم السنيّة، بعد بدء المغول زحفهم غربا، حيث جاء بصحبة والده و عائلته إلى بغداد عاصمة الخلافة العبّاسية، قبل أن يرتحل إلى مكّة و دمشق و كرمان، ليستقرّ به الحال في قونية التي كانت عاصمة الإمارة السلجوقية التركية، و واكب في حياته تدمير جيوش هولاكو للدولة الإسماعيلية النزارية في آلموت شمال فارس سنة 1256، و لبغداد عاصمة الخلافة العبّاسية سنة 1258.
و مما أورده الإخباريون أن أوّل من أثر روحيا و أدبيا في مولانا جلال الدين الرّومي هو الشاعر و عالم الدّين الاسماعيلي الكبير فريد الدّين العطّار، الذي قيل أنه انتبه إلى نباهة مولانا العرفانية و أهداه نسخة من ديوانه الشهير quot;أسرار نامهquot;، و هو الكتاب الشعري الذي يشترك مع أعمال الرومي في روحانيته العالية و خوضه في بحور العشق الإلهي و الذوق الربّاني.
و يقود هذا الخط البحثي صاحبه إلى الاقتراب من إحدى الروايات المهمّشة في فك لغز العلاقة بين مولانا و شمس التبريزي، فأهل هذه الرواية يتبنّون بكل وثوق النظرية التي لا ترى في الدرويش شمس الدّين التبريزي سوى الإمام الثامن و العشرين في سلسلة الأئمة الإسماعيليين النزاريين quot;شمس الدّين محمد بن ركن الدين شاهquot;، الذي مثّل والده الإمام ركن الدّين خيروشاه بن علاء الدّين محمد آخر قادة الدولة الاسماعيلية في آلموت (التي أسسها الداعية الإسماعيلي الفاطمي الشهير حسن الصبّاح) المنتهية على يد المغول سنة 1256 كما أشير.
و قد اضطرّ قادة الاسماعيلية بعد انهيار دولتهم في آلموت، إلى العودة إلى طور الستر و التخفّي، و اضطروا بعد ذلك و لقرون طويلة إلى ممارسة التقيّة و الاندماج في طوائف و طرق اعتقدوا أنها تشترك معهم في أسس كثيرة، مثل الشيعة الاثني عشرية و السنيّة الصوفية، التي بلغت ذروة تجسيدها السياسي لاحقا بإقامة الشيخ الشاه إسماعيل الأكبر سنة 1501 الدولة الصفوية، التي قامت في الأصل على حركة صوفية سرعان ما تبنّت العقيدة الإمامية الاثنى عشرية عقيدة رسمية للدولة الجديدة.
و سيفضى كل تمحيص للفكر الاسماعيلي و الفكر المولوي إلى الوقوف على مشتركات مذهلة، لعل من أبرزها إيمان كليهما بالتوحيد المتجاوز لانقسامات الأديان، و بالحبّ أصلا في تحقيق وحدة البشر، و بالإمام أو الشيخ مصدرا لكشف أسرار النصّ المقدّس الباطنية، كما سيساعد اقتران الدرويش شمس بالإمام شمس الدّين بن ركن الدّين المتخفي في هيئة درويش من بطش المغول، في فهم سر تعلّق مولانا بإمامه المستور.