quot;... الطيور تجر الغيوم من ياقاتها البيض ـ ابراهيم البهرزيquot;

زوجٌ من الحمام حطّ على شرفتنا في الطابق التاسع من أرض برلين، نبش التربة في وعاء الزهور: quot;سيضعان بيضاً و يحرمان علينا الخروج الى الشرفةquot;. لكن زوجتي قالت: quot;إنّما يبحثان عن الديدانquot;. بعد يومين، ثمة بيضتان تسطعان في دكنة التربة. نفتح باب الشرفة الآن بهدوء متوَجسين. quot;اذا فزعا سيهجران البيضquot;. على أن إنهما بقيا، كطبع اهل البلد، مطمئنين وادعين و لم يشعرا بالفزع رغم أن العيون الصغيرة البريئة الجميلة بقيت تتطلعان الينا بفضول و ترقب.
في ذاكرة القرية ترسخ خوف الطيور من الانسان و خوف الإنسان من الشرطي.
صباحا و انا على الحاسوب أسمع صوت ارتطامٍ بالزجاج و رفيفَ اجنحة. تنزاح عيناي تلقائيا عن الشاشة. إحد الزوجين يحرك رأسه ناظراً إلى الداخل باحثا عن أحد. تعود عيناي مجددا الى الشاشة. أسمع نقراً على الزجاج، مرة اخرى أصوب نظري نحو الصوت. هذه المرة على الجهة الاخرى من الشباك، لا زال ناظرا الى الداخل. حسبت أن عيني التقت عينه. عاود، و على مرأىً مني هذه المرة، نقر زجاج الشباك. لم اكن مخطئاً. قمت من جلستي فنظرت عبر الزجاج في عينيه، كانت عيناه ثابتين بتحدٍ لا يليق بمن ينتظر صغاراً.
قلبي الضعيف: quot;إنها الأم، إنها جائعة. لازمتِ البيض طويلا... اذا فتحتُ باب الشرفة ستفزع و تطيرquot;. أذهب الى المطبخ و أتطلع إليها من هناك. تنعطف صوبي سائرةً بخطىً ثابته. أعود إلى الوراء، إلى الخزانة التي خلفي، أغرف كمية من رز غير مطبوخ و أمد يدي بها من فتحة صغيرةٍ في الشباك، تنحشر يدي، احرر ما فيها، يسّاقطُ الرز على صفيح دكة الشباك محدثا نقراً متقافزاً. تتقدم الام بثبات و تلتقط الحب بنهم و سرعة. انتبه: في ساقها اليسرى حلقة خضراء و في الثانية أخرى بيضاء.
أتمتع بحزن داخلي حين أرقبها تلتهم الحب. الإحسان الحنون استجابة لحماماتٍ داخل القلب. يتجسد كامل الحنين لمن افتقدهم حمامةً جائعة.
أُلاحظ للتو حمامة اخرى بلون رمادي تحتضن البيض و تتطلع الى المشهد بعين بدت حزينة.أجد انني ربما اخطأت. أداري نفسي، لربما من عُنيتُ به ذكر الحمام؟ فها هو يطير الى حيث الانثي ، لكنها تطرده. يطير الى شباك الشقة المقابلة، تلاحقه حتى هناك. يهرب. تعود الى بيضها. اروي لزوجتي، تقول : quot;هذا متطفل ليس احد الزوجين، لا احد من الزوجين يحمل حلقة في ساقهquot;..
أشعر بالخديعة.
***
في قبوٍ في مديرية امن بغداد، معصوبَ العينين، اسمعوني صوتَ عصافيرٍ تزقرق مارحةً (على شجرة؟) من مكبر ضخم للصوت. حين تكون معصوبَ العينين عليك ان ترسم صورة تقع بين العين المغلقة و عتمة العِصابة ، صورة للمكان (إخفض رأسك، إخفض رأسك! و يدوسون رقبتي نحو الاسفل)، صورة للجلاد (الذي كان ينشد قصائد لنزار قباني بصوت مائع) ، صورة للأجهزة... أسمعوني قبلها صوتا هادرا لدراجةٍ تتجه بسرعة نحوي تكاد ترتطم بي، اطلاقَ رصاصٍ و عويلاً، صراخ اطفال يهدر مجسما كما لو كان حقيقيا. انكمش و اتكور على نفسي... ثم بعدها صوت الحياة: اطفال يضحكون بخفة، اصوات آدمية مرحة، زقزقة عصافير تتناجى على شجرة. أتخيل الحياة فوق، في شوارع بغداد. يقولون لي: quot;هذا ما لدينا لك و لدينا ايضا ماهو اسوأ.. الامر سهل! تبرأ و تمتع بزقزقة العصافير و مرح الاطفالquot;. أسترخي قليلا... اسمع الان صوت تيار كهربائي يعلو و يعلو متجها نحوي، يشبه صوت كنزة صوفية نضيت عن الجسد توا، يلسعني التيار تحت اذني، في رقبتي. أعود أنكمش، ازداد انكماشا. اتحول الى كرة.
في أمسية تَلَت، في اليوم الذي لا ادري من التعذيب، أخلي سبيلي، بدون نظارات و بلحية كثة، بجسد دون الخمسين كيلوغراما، طرقت باب بيت اخي... ظَهَرَ على الباب، قال: تفضل؟ ماذا تريد؟ قلت له: أنا منير!
أقول لعماد: ألم اكن معكم؟ طُوردنا معاً، أعتقلتُ انا و افلتَّ انت. ألم نكن على حافة الموت؟ يقول : إذهب الى المقر! ...كتبتُ مرة في صدر مقالٍ: quot;أنت و أنا لا نزال على قيد الحياة بفضل خطأ تكنيكي من السلطةquot; ..في السبعينات في غرفة حقيرة في حي النصارى قبل أن يتمكنوا مني قال لي: اذا قُتلتُ اذكرني في مذكراتك و اذا قُتلتَ انت سأذكرك في مذكراتي. لم يكتب احد منا مذكراته... لا شيء يستحق أن يقال. لربما يجدني غير جديرٍ بقول شيء... أقول لفائز تبوني: هل سأكون أعمى؟ لا يوجد رسام أعمى! يقول: لا شيء يستحق أن نراه. حقاً! لم يعد ثمة شيءٍ يستحق الرؤية!
لعقدين ونيف اؤجل كتابة quot;شجرة العصافيرquot;
***
في اليوم السابع للبيض أمطرت بشدة. الريح شرقية باردة في مثل هذا الوقت من السنة، تسوق المطر نحو الشرفة حتى يرتطم بزجاج الشباك راسما خطوطا ملتوية نحو الأسفل. تروي زوجتي، تتكور الحمامة على البيض. كيف يمكن ان نساعدها دون أن نفسد البيضَ بالمطر؟ يأتي الذكر فيقف بامتداد جسده حذاءها و يحول بينها و بين المطر.
هي تقول لزوجتي: إنكم محظوظون، حمامة تبيض و تربي صغارها في كنفكم؟! هذا جالب للحظ!
في العام قبل الماضي قالوا لنا أيضا: إنه لجالبٌ للحظ أن يبني السنونو عشا على جدار شرفتنا. بُعيدها بشهور و بسلوك بربري أكرهت السلطات الهولندية ولديَّ الاثنين على العودة إلى العراق. يحملون حتى الآن جروحا لا تبرأ مثل جروحي التي امنعها أن تكون كراهية.
اذهب الى مرسمي في الصباح غير الباكر. اترجل من الباص لآخذ القطار. المحطة في اطراف برلين. اسمع صوت ديك، ديك حقيقي، ديك حقيقي في برلين؟! في تلك اللحظة تمر صبية ترتدي سترة قصيرة. انظر في اثرها . على ظهر السترة صورة ديك. قد لا تمن الحياة عليك بواحدة من هذه و لكنها قد تمن عليك فجأة باثنتين.
في بهرز، في بيت جدي ناجي، على مرمى امتار من نهر ديالى، كانت الديك و الدجاج جزءا من العائلة. عمة أبي، النحيفة جدا حتى الممات، كانت تكلم الدجاجات و تقرّعها، كما قرّعتني مرارا، اذا ما اساء أحدنا التصرف. تاتي السنونوات كل عام لتبني اعشاشها بكثافة في كل مكان. لم نكن نفكر في الحظ، لم نكن نحتاجه أصلا في حقبة غياب السلطة. اقترب من الغرفة الطويلة الغامضة بحذر متوجسا خشخشةً مريبة، الآلاف من ديدان القز تزحف بنشاط قاضمة أوراق التوت. في نهاية الموسم و بعد استخلاص الحرير، احظى بفراشة القز كهدية، تترك في يدي مسحوقا ناعم الملمس و تبيض بكثافة بيضا اسود صغيرا و ..... تموت
هل هو اليوم العشرون للبيض؟ هناك على أرضية الشرفة الآن قشور بيض. نشعر بالنشوة و لكننا لا نتجرأ على الخروج. بعدها بأيام و بغياب الام نرى حمامتين داكنتين بزغب أصفر.
بدأت الام تترك صغارها لفترة قصيرة ثم لفترة اطول، نزهو بالثقة الممنوحة لنا. نتجرأ و نخرج الى الشرفة، نقترب اكثر فأكثر. الصغيران ينحشران ببعض. اوجه جهاز التصوير نحوهما، و بفضول الاكتشافات المبكرة، يحدقان في العين الواحدة المصوبة اليهما و يجفلان من صوت quot;كلك!quot;
****
اليوم هو الأحد. نحن في البيت. لم تأتِ الأم منذ الصباح و الصغار وحدهم في العش. خرجنا لساعتين. نطمّن انفسنا، ربما تكون جاءت اثناء ذلك. نشعر بالمزيد من القلق ان تكون الام قد هجرت صغارها.
****
قبيل المساء عادت الام و اندفع نحوها الصغار. تفتح منقارها فيدفع الصغيران منقارهيمها في فمها.
****
في المساء، عبر السكايب نسمع صوت رند و مصطفى العابر لـ 4500 كيلومتراً: quot;بيبي، جدو، شلونكم؟quot;.....

برلين/ في اليوم الثلاثين للبيض