بغداد: تباينت وجهات نظر عدد من المثقفين العراقيين في مسألة الحنين الى الوطن الام وفي الرغبة في ان يدفنوا في ارضه او في الارض التي عاشوا عليها السنوات الاخيرة من حياتهم.

& & بين الغربة او المنفى القسري للمثقفين العراقيين ووطنهم تحتدم المشاعر وتتشابك أكف الحنين فتصعد تارة على الرأس او تهبط الى العيون ، فهناك الكثير من الادباء والفنانين العراقيين توفاهم الله في الغربة ، فدفنت اجسادهم في البلدان التي ماتوا فيها فيما كان يصبو الى ان يلفظ انفاسه الاخيرة في البلد الذي ولد فيه ، وراحت بعدهم تتطاير في وسائل الاعلام مطالبات ان تنقل جثامينهم الى وطنهم الام ،فيما اوصى البعض ان يدفن في الارض التي مات فيها ، بمعنى ان هناك من لا يريد لجسده ان يغادر الارض التي عاش عليها لسنوات طويلة بينما تتطلع عيون البعض الى العراق وهي تحمل امنية ان يوارى ثراه ولكن يرى المسافة بعيدة والامنيات بلا جدوى ولا يعرف هذا البعض غير ان يطأطيء قلبه وجلا وحزنا لان الاسباب الموجبة غير متوفرة.
اعترف انني وجدت صعوبة في السؤال ، ان اسأل عراقيين لفتهم الغربة بلفائفها عن الوطن والموت ،فهذان هاجسان مزعجان وحساسان وتركيبهما على بعض يخلق نوعا من الاستفزاز &والرعب ربما ،خشيت لحظتها من انني سأحرك ساكنا في الارواح لا سيما ان القضية ليست سهلة ، كنت اراهن ان البعض سيجيبني بصراحة على سؤالي ولكن ربما سينظر الى عيون الناس التي ستتلقف كلماته وتجتهد في رسم صورة مليئة بالوان سوء الفهم.
هنا.. حاولنا ان نصل الى خلجات قلوب وارواح عدد من المثقفين العراقيين الذين غادروا العراق مهاجرين ولاجئين الى بقاع مختلفة من دول العالم&
&
لطفية الدليمي: &لا وطن لي ولكثيرين أمثالي
& & فقد اكدت الكاتبة الروائية لطفية الدليمي انها ما عادت اسيرة الحنين الى الوطن لانه خذلها وشردها على كبر ، وقالت: لايعنيني ان ادفن في البلد الذي يسمونه افتراضا " الوطن" -ماالوطن؟؟ الوطن كرامة عيش ودفع عوز وحماية ارواح ، وعلى هذا فلا وطن لي ولكثيرين أمثالي..وطني الانسانية والناس الذين يحبونني والبلاد التي تمنحني الامان والمأوى..
واضافت: ما عدت اسيرة الحنين الى بلد محتضنٍ لكارهيه ومخربيه و طاردٍ لمحبيه ومن أسهموا ببنائه ،خذلني في حياتي وشردني على كبر فهل ارجو منه خيرا بعد الحياة ؟ بضعة مقالات رثاء ؟؟!!
وتابعات: ليتني اعرف او اختار موعد رحيلي لأذهب الى الهند فأحرق على الطريقة الهندوسية ويُـذّر رمادي على مرج اخضر او حقل زهور فأحيا في زهرة او عشبة او في بحر شاسع لأمتزج بعناصر الطبيعة التي جُبلت منها / الطبيعة التي لاتنكرنا ولاتخذلنا فهي أخت الكون ومانحة النعم ، مرحى للهندوس.
&
حسن النواب: قبري لجوار امي وأبي &
& &من جهته اعرب الشاعر حسن النواب: هذا الأمر يشغلني على الدوام ، ان يكون قبري لجوار امي وأبي &، ولقد بدأت أدّخر اجور نقل رفاتي الى كربلاء منذ عام ، لكني لم اكمل تكاليف النقل حتى الآن ، برغم ان المقابر هنا ساحرة الجمال ، وملأى بالورد واشجار ترفل بخضرة دائمة ، اجل اريد ان يضم تراب أرض السواد جثتي عندما تعرّج روحي الى بارئها.
&واضاف: اما الحنين بالعودة الى وطني ، فهذا الهاجس لا يتخلى عني لحظة واحدة ، انتظر ولدي البكر تبارك ينضج وأستطيع الإعتماد عليه ، وسأتركه مع أختيه حُسنى وعليا ، وأعود مع ام تبارك وصغيرنا مُزكّى الى العراق.. هذا الهاجس يرافقني كل يوم.. لأن الغربة مهما بلغت من العطاء تبقى تشبه حنان زوجة الأب.. حنان منقوص ومفتعل ، خلافا للوطن الذي حنانه هو قلب ام رؤوم.
&
ستار كاووش: سأطلب أن أدفن في هولندا
& &اما الفنان التشكيلي ستار كاووش ، فقد اكدت انه سيطلب ان يدفن في البلد الذي يعيش فيه الان ، وقال: أشعر بحنين دائم طوال الوقت الذي مضى لبلدي وللمكان الذي ولدت فيه ودرست وتكونت شخصيتي الفنية وصداقاتي وكل الذكريات التي تخللت ذلك. لكن مع مرور هذه السنوات الطويلة وبعد 22 سنة من الاغتراب، مع كل التغيرات التي مرَّت والظروف التي صاحبت البلد والظروف التي مررت بها أنا شخصياً بدأت تفاصيل وأشياء كثيرة تتغير أو تأخذ مساراً مختلفاً، وأقصد هنا وبكل صراحة أن البلد يكاد يكون قد تغير بشكل كامل، وأنا تغيرت أيضاً، وأغلب الأشياء التي كانت قريبة من روحي وأحنُّ اليها، غير موجودة الآن على أرض الواقع بصراحة.
&واضاف: &لكني رغم كل شيء أحنُّ لذكرياتي التي بقيت هناك وحملت صورتها في قلبي دائماً، ذكرياتي هي كنزي الرائع الذي كنت ولازلت احمله معي في حقائبي أينما ذهبت.&
&وتابع: بالنسبة الى مكان دفني حين أموت، فأنا وبكل بساطة سأطلب أن أدفن في هولندا، في مقبرة المدينة التي أعيش فيها الآن. أن اكون قريباً من زوجتي التي أحببتها وأحبتني بعمق. هولندا لم تبخل علي بكل شيء، فلماذا ابخل عليها حتى بموتي؟ عموماً ليس مهماً أين أموت، لكن المهم هو ان لا أتنكر لمن احتضنني ومدّ يده لي بكل محبة. هنا في هولندا رسمت أجمل لوحاتي، فلابأس أن أرسم موتي هنا أيضاً.
&
نجاة عبدالله: لا أريد الموت غريبة
الى ذلك اكدت الشاعرة نجاة عبدالله انها لا تريد ان تموت غريبة ، وقالت: كل ما أحلم به أن أكمم فم غربتي وصراخها المرير بعودة جسدي إلى &وطني علني أستريح من تلك لمشاعر المخيفة التي تعيث برأسي وهذا الحنين المفرط لوطن.. إحن إليه واشتاقه وانا فيه.. أي جحيم هذا.. أنك حتى في وطنك تشعر بغربة.
&واضافت: ليس الخلل في محبتي الهائلة له وليس فيه ابدا لكن الخلل في روحي التي تشظت وتعذبت حتى أنها لم تستطع أن تجد الراحة في أي مكان.. &هذا ما اردده على الدوام أن أدفن في مقبرة العائلة قرب أخي وفي تربة أمير المؤمنين عليه السلام حبا لشخصه وعلمه وبلاغته.. وحبا بتراب العراق الطاهر.. وقربا ممن يود أن يقرأ لي سورة الفاتحة.. أين نجد كل هذا في أرض الغربة.. وهذه وصيتي التي أعلنت عنها كثيرا.. عشت غريبة ولا أريد الموت غريبة.
&
عبود الجابري: الوطن الحقيقي سيطالب بجسدي
فيما اكد الشاعر عبود الجابري ان الغريب ميت لا محالة ،وقال: لم أفكر بالموت بعد ، ربما علي الأعتراف أنني أتحاشى التفكير به لكي لا أرى صورة موتي في عيون أولادي ، أكثر ما يقهرني فيه هو صورة اليتم التي تلون حياة اولادنا ، لذلك لم أفكر أين أدفن بعد موتي ، أن يوارى جسدك بعد موتك في &بلادك هو آخر &نزع من نزوع الحنين الذي لا يمكنك أن تتذوق ثماره ، وهو شكل من أشكال الأستغاثة بالوطن حين يشعر الغريب إنه ميت لا محالة ، على اني أرى ان لاجدوى منه ، فلو كان لديك وطن حقيقي فأن عليه أن يطالب بجسدك حيا كنت أم ميتا.
&واضاف: أما الحنين فهو ما &يأكلني في كل &مكان من خلال ذاكرة الحواس ، حنين للأغاني ، حنين للأماكن والأصدقاء وحتى الروائح ، حنين هادر لايمكن لمن حولك أن يسمعه وتآكل لايراه سواك حين تتأمل روحك في المرآة.
&
هلال كوتا: قرب ناس عشنا معهم
من جانبه اكد الشاعر هلال كوتا ان يتمنى ان يدفن قرب ناس عاش معهم ، وقال: أنا مؤمن بان كل الارض مهد للإنسان وموطن له هذا اولا وبعدها لا يهمني أين وكيف تتم عملية دفني ما يهمني ان أبقى خالدا في الاذهان عبر ما اكتب لا عن طريق جثة لها وضيفة ثانية بعد خروج الروح منها فما يهمني نبضي داخل الحرف ومن جهة اخرى ارى من الجهل اولا ومن النرجسية ثانية ان يوصي إنسان ما مبدع كان ام سوى ذلك بان يُدفن بمكان ما وارى ذلك للمبدع شيء من النرجسية التي تجبره ان يوصي بهكذا وصية وكان القبر دالة عليه لا ما كتبه.
واضاف: نحن كمجتمع مؤمن بالغيبيات على الأغلب نرى في ذلك سيجلب الطمأنينة الى النفس في حين الدين والمُثل والقيم تؤكد ان الطمأنينة تأتي عبر العمل وعن نفسي ان كنت قليلا مؤمن بهكذا غيبيات تجلب الطمأنينة عبر الدفن قرب ناس عشنا معهم فاني لا يمكن ان أوصي بهكذا وصية لأنني مؤمن بان لي صديق أينما أُدفن سيجلبني قرب ضريحه هناك حيث سيد الروح وبعيدا عن الجثة الهامدة.
وتابع: أنا كنت على موعد من الموت في بلدي اكثر من مرة ومازالت بقايا شظايا في راسي من مسدس احدهم والآن وبعد ترك البلد مجبرا لا يشرفني ان تتم عملية دفني مع قتلة مدفونين هناك فلا يمكن ان اقبل ان أكون بنفس المنزلة مع قاتلي.
وختم بالقول: إيماني يكمن في ان أبقى خالدا لا مدفونا
&
يوسف ابو الفوز: "الحجر ثقله في مكانه".
الى ذلك اكد الروائي يوسف ابو الفوز على ان لا يهم اين سيكون مقر الجسد الفاني وقال: المنفى ــ للاسف ـ صار لنا وطنا ثانيا أجباريا، لكنه لا يستطيع ان يحل محل الوطن الام. واستطيع القول بتواضع اني اجتهدت خلال وجودي في المنفى، في فنلندا ، في بناء حياة مستقرة نوعا ما. اعمل حاليا كباحث في واحدة من اهم الجامعات الفنلندية، واساهم بشكل حيوي في الحياة الثقافية الفنلندية، واعمالي الادبية ترجمت الى لغة البلاد ومعروفة في الوسط الفنلندي، ولي شبكة علاقاتي الجيدة من اصدقاء ومعارف من اهل البلاد، ، ولعدة دورات انتخبت عضوا في الهيئة الادارية لمنظمة الكتاب والفنانين الفنلنديين ـ كيلا (تاسست عام 1936).
واضاف:: ورغم أني تطبعت بنمط الحياة في فنلندا واشعر بأرتباط طيب لهذه الارض التي منحتني الامان وفرصة العيش الكريم، فأنت وان رغما عنك أذ تظهر لك جذور جديدة ، وتكون لك ذكرة جديدة محملة بتفاصيل جديدة. الا ان كل ذلك لا يمكنه الغاء هويتك الاساسية ، وجذورك الاولى ، ولا يمكنه ان يمنع نوبات الحنين التي تداهم الروح في أي لحظة ، مع اي تفصيل بسيط ، مع اسم او اغنية او حدث.
وتابع: اعيش منذ عشرين عاما تحت سماء القطب الشمالي، اقرب الى السماء من اية بقعة على الارض ، لكن "السماوة" ، مدينتي الحبيبة ، واذ اجد ان احد معاني اسمها هو انها "المكان العالي " او "نافذة الى السماء" فانها انتقلت معي بكل درابينها وشخوصها وجعلتني اوقع مقالاتي &بعبارة "سماوة القطب" اشارة الى المكان.&
واضاف ايضا: جغرافيا.. انا موجود "خارج الوطن" &لكنه معي في كل خطوة ـ &لا احبذ استخدام كلمة "الخارج" واحيانا اشعر وكأنها شتيمة، اميل في حياتي اليومية وكتاباتي لاستخدام تعبير "خارج الوطن"ـ الوطن موجود معنا دائما في نصوصنا وفي نشاطاتنا وفي ذكرياتنا وفي طعامنا ولقاءاتنا وفي اغانينا. حين يقدموني في المحافل الثقافية الفنلندية فانا "الكاتب العراقي". وحين اعود الى بيتي واغلق الباب خلفي، فأكون دخلت "العراق الصغير"، فالاجواء واللغة والتفاصيل والطقوس بالغالب هي عراقية. شريكة حياتي من مدينة السليمانية، ومعا نتحدث العربية والكردية ، فتختلط عندنا التفاصيل بدون تخطيط وتكون عفوية، فنشعر يوما أننا في اجواء السماوة ، ويوما اخر في السليمانية ، ويوما في بغداد ، لكننا دائما في اجواء العراق.&
&واستطرد: افكر كثيرا بالمثل الكردي الذي يقول " به رد له جيكه ي خوي سه نكينه" وهذا يعني "الحجر ثقله في مكانه". من هنا اعتقد اننا كأبناء لوطن فقدناه رغما عنا ، فقدنا شيئا بأبتعادنا عنه ونحن احياء. نحاول تعويض ذلك باشياء مختلفة. في روايتي "تحت سماء القطب " صدرت 2010 في اربيل ، يلجأ احد الشخوص لتسمية الاماكن والاشخاص من حوله باسماء عراقية ، كاسلوب تعويضي. أن هموم الوطن لا زالت همومنا ترافقنا وترسم لنا خارطة ايامنا. واعمالي القصصية والروائية تجتهد لتكون اعمالا عراقية تتناول الموضوعات العراقية ، سواء داخل الوطن او خارجه.&
وختم بالقول: وان تحدثنا عن الموت، فما دام الموت هو نهاية لهذه المعاناة والفقدان ـ في المنفى أو الغربة سمها ما شئت ـ ، فاعتقد لا يهم اين سيكون مقر الجسد الفاني، فالوطن مرتبط بالروح قبل الجسد.
&