كثيرا ما يُنظر الى الانطباعية وغيرها من المدارس الفنية الفرنسية قبل عام 1900 وحواليه في اطار قالب نمطي مواضيعه زهور عباد الشمس وأكوام من القش واطفال وراقصات باليه مما قد يكون لطيفا على بطاقة بريدية أو جدار غرفة طلابية. ولكن فن الرسم الفرنسي الحديث ليس كله بهذه البراءة.


عبدالإله مجيد من لندن: كانت باريس في أواخر القرن التاسع عشر مدينة تمرّ بمرحلة انتقال اجتماعي وكان فن تلك المرحلة يذهب ابعد من تصوير الطبيعة. فهو كان يصور عالما جديدا بكل تعقيداته، ولا يتعفف عن شيء، حتى إذا كان تصوير المواخير في منطقة بيغال.&

الروعة والبؤس

افتُتح مؤخرا في متحف اورسيه في باريس معرض "الروعة والبؤس: صور من البغاء، 1850 ـ 1910".

وهو أول معرض كبير يتناول موضوعا يتبوأ موقعا مركزيا في فن الرسم الفرنسي الحديث. إذ كانت بائعات الهوى موضوعا أساسيا للفنانين في باريس.

ولعل أكثر الأعمال الفنية ثورية في تلك الفترة هما لوحة "اوليمبيا" العارية للفنان مانيه ولوحة "فتيات افينيون" للفنان بيكاسو اللتان تصوران عاملات في تجارة الجنس. إذ كان البغاء الذي انزوى الى الظل الآن، بنظر فناني تلك الفترة حقيقة من حقائق الحداثة.

وإذ كانوا يستلهمون نساء الليل فإنهم كانوا احيانا لا يرون ان المسافة كبيرة بين المرسم والماخور.& وصاغ شارل بودلير هذه المعادلة صياغة مكشوفة في يومياته حين كتب "ما الفن؟ انه عهر".&

البغاء من الحياة اليومية

وننظر الآن الى البغاء على أنه من الظواهر الاجتماعية المقيتة نتحدث عنه باشمئزاز إذا تحدثنا عنه اصلا.&

ولكن في باريس اواخر القرن التاسع عشر كان البغاء ركنا اساسيا من اركان الحياة اليومية، صفقة خاصة ذات تداعيات عامة.

وكان البغاء يُمارس بضوابط صارمة في عهد نابليون الثالث واستمر هذا الوضع حتى سنوات القرن العشرين. إذ مُنعت المواخير في عام 1946 ولكن تجارة الجنس ظلت مجازة رغم ان سجالا يجري حاليا في فرنسا حول تجريم المشتري، على غرار السويد.

معاناة بائعات الهوى

وكان افراد ما يُسمى فرقة مكافحة الرذيلة يتصرفون بعسف احيانا.

وكثيرا ما تتحدث وسائل الاعلام عن نساء اخترن الانتحار على مثولهن امام القضاء بتهمة الدعارة. كما كان على بائعات الهوى في القرن التاسع عشر ان يخضعن لفحوص طبية الزامية كل شهر، وهي عملية يمكن ان تكون مهينة أكثر من البغاء نفسه، كما يصورها انري تولوز لوتريك في لوحته "شارع الطواحين". إذ تبدو عاهراته منهكات ذليلات، ضحايا البيروقراطية أكثر من كونهن ضحايا الزبائن الذين يدفعون مقابل انتهاك اجسادهن.&
&
غانيات ومشاهير

وتأتي بمرتبة اعلى قليلا على السلم الاجتماعي الغانيات اللواتي يكون زبائنهن من الأثرياء، يبعن لهم اجسادهن الى جانب الفتنة وسحر الحديث والسمعة.

واصبحت غانيات كثيرات من المشاهير اللواتي تتابع الصحافة الاجتماعية اخبارهن وحتى اخبار زبائنهن.

ومن أشهر هؤلاء لا بيفا اكبر غانيات الامبراطورية الثانية التي ولدت في حي فقير ولكنها انتقلت الى شانزليزيه حيث كانت ترفه عن ضيوفها في قصر منيف في غرفة حمامه حنفية تتدفق منها الشمبانيا.

وحين توفيت عام 1884 حنط زوجها الأخير جثمانها وحفظه في علية البيت، متسببا باصابة زوجته الجديدة بصدمة.

كانت بائعات الهوى والغانيات على اختلاف طبقاتهن موضوعا يستهوي الفنانين والكتاب بصفة خاصة.

الرئيسة

وأقدمت الغانية ابولوني ساباتير المعروفة بين معجبيها باسم "الرئيسة" على تحويل منزلها الى صالون بورجوزاي يتردد عليه يوجين ديلاكروا وغوستاف فلوبير وخاصة شارل بودلير الذي كانت ساباتير عنده مصدر وحي برسم الايجار.

وتظهر "الرئيسة" في معرض متحف اورسيه مجسَّدة بتمثال "امرأة لدغتها افعى" للنحات الأكاديمي اوغست كليسنير، وهو عمل فني ما زال مثيرا للجدل لأسباب ليس اقلها ان الفنان نحت تمثاله من قالب لجسدها العاري.

مصدر وحي وإلهام

وكانت الغانيات يجلسن أمام الفنانين ويشكلن مصدر وحي للمبدعين منذ عصر النهضة.

وفي لوحة تيتيان التي انجزها عام 1538 فان& فينوس بنت اوربينو إلهة الحب هي في الحقيقة انجيلا ديل مورو، التي كانت من أغلى غانيات البندقية.

وبحلول ستينات القرن التاسع عشر سئم ادوار مانيه من مواضيعه وقرر ان يرسم مشهدا مألوفا للجميع أو على الأقل للرجل البورجوازي. وكانت النتيجة امرأة عارية مستلقية على السرير وشبشبها يتدلى من قدمها مع شريط حول عنقها وزهرة في شعرها.

لم تكن المرأة التي جلست امام مانيه حين رسم "اوليمبيا" من بائعات الهوى بل كانت زميلته الفنانة فكتورين موران.

ومع ذلك كانت الفضيحة التي أحدثها عمله حين عُرض في صالون باريس 1865، فضيحة لم يسبق لها مثيل.

وتحدثت الصحف عن نساء ينفجرن باكيات امام اللوحة.& فان مانيه الغى كل الحمولة الميثولوجية التي جعلت صور بائعات الهوى مقبولة في عالم الفن. والأنكى من ذلك انه فعل ذلك باسلوب جديد لا يغفر بصراحته.

وتنقل بي بي سي عن الباحث المعروف تي. جي. كلارك ان مانيه كتب ذات مرة "ان اللوحة تصر على ماديتها الخاصة ولكنها تفعل ذلك في نظرة العاهرة ومن خلالها". ومن خلال البغاء أو على الأقل صورة البغاء ولد الفن الحديث.&
&
الفن نوع من العهر !

ولم يكتف بودلير صديق مانيه بالقول ان الفن نفسه نوع من العهر بل كتب ان باريس نفسها ماخور عملاق.& وكما اظهر مانيه فان يرسم الفنان انما يغوي عين الناظر بالتستر على الحقيقة، بجعله الألوان على القماشة تبدو وكأنها حياة حقيقية. ولكن البورجوازي وحده الذي يمكن ان يذهب في اعتباره الذاتي الى حد مساواة فعل الابداع الفني بالكدح البشع من اجل لقمة العيش ببيع الجسد.&

ولعل الغانيات كن يرفلن بالمجوهرات والهدايا الثمينة ولكن غالبية بائعات الهوى كن نساء يائسات هربن من الأرياف الفرنسية، بلا نقود أو أمان، وكثيرا ما كن يقعن ضحية العنف.

واحيانا كان يتاح لزوار المعارض إلقاء نظرة على هذا الواقع البائس، كما في لوحة لوتريك عن الفحص الطبي لبائعات الهوى. وفي احيان اكثر كان الفنان الحديث يعمد الى تصوير "المومس السعيدة": مستقلة، لا تعتذر عما تفعله، بل تتمتع به بقدر متعة الرجال.&

كانت هذه فنطازيا، فنظازيا ضرورية للفن الحديث لكنها تبقى صورة كاذبة. ولم ينظر الفنانون، لا سيما الفنانات، الى واقع البغاء نظرة مجردة من الرومانسية إلا بعد مرور شطر طويل من القرن العشرين.

البغاء حاجة اقتصادية

وكتب الناقد جيسون فاريغو على موقع بي بي سي نيوز ان "جين ديلمان" فيلم السينمائية البلجيكية شانتال ايكرمان لا يصور البغاء على انه خيار شخصي مفضَّل بل حاجة اقتصادية، جزء من نظام لا تكون المرأة مستقلة فيه ابدا.

وهذه بصيرة ما كان حتى أكثر الفنانين راديكالية في القرن التاسع عشر قادرا على قبولها وإن لو كان يستطيع ان يراها في وجوه الفتيات البائسات.