"القصيدة تكتبني ...
ترسم حفيف مشاعري ...
تقرأني بهمس مجلجل، يقتحم فنارات التقصي عن الذات
وعلى قراطيس أيامي تدوزن تفاصيلها برحيق اللحظة
&الشاعرة
&إنه السر المجهول لكتابة نص ما "
تستوقفني كلمات الشاعرة فاطمة الزبيدي هذه التي جاءت في مفتتح ديوانها " أحاور الصدى " ، الصادر حديثا عن دار نشر " المتن " العراق - بغداد وبواقع 199 صفحة من القطع الصغير جعلني أطيل التفكير في كلمتيها " القصيدة تكتبني " بعدها سأنطلق في قراءة معمقة لنصوصها البالغة 84 نصا نثريا عراقيا ، وسأتوقف لاختيارعدة نماذج منها ستكون محورا نقديا لها ، لكن دعونا نعود لتلك الكلمات التي أرادت شاعرتنا من خلالها أن تقول أن النص الشعري يمكن أن يملي أغراضه ووظيفته كاملا على الشاعر على عكس المفهوم السائد بأن الشاعر هو من يكتبه ، لأن الإيحاء وهو الجزء المهم في صناعة النص الشعري يأتي دائما محملا بمعانيه وأحرفه ، بخياله وصوره ، وبحسيته الفنية العالية ليقول لكاتبه أو كاتبته : " ها أنذا جاهز لكي أكون نصك على الشفاه أو الورق ، لا ينقصك سوى أن تضع لي اسمك ليتعرف المتلقي أنك من قلت هذا فابدأ الكتابة " .
&هكذا تلخص شاعرتنا كل ما سنقرأه في مجموعتها الشعرية " أحاور الصدى " التي جعلتها أشبه بكتالوج يحوي صورا جميلة لأعمالها إضافة لما قد كشفته من شفرة سرها المجهول في كتابة نصوصها النثرية لأنها لا تريد أن يكون هناك حجاب يفصلها عما باحت به أو باح به إيحائها بعد أن عاشت حياتها بذات الشفافية التي طبعت روحها وأحاسيسها ، ولكي نكون قريبين مما قالته الزبيدي نقرأ ما تيسر من نصها الوجداني والعاطفي " لقطة من حكاية وردة " تقول :
سارا معا على ضفتي قلبيهما
كان يمسك بكفيها حد الشراهة
ويحتضن ظلها حد البكاء ..
&هي
تراوح على نبض التأوه حالمة
تداعب لمساته وثباً ...
فحبال حكاياها ...
تمتد لطفولة السرد
حين كانت القبل كبراءة الندى
والأكف كأجنحة الفراشات
نص شفيف قد لا يحتاج إلى تفسير معناه لأن لقطة الحكاية هنا هي ذات السيرة الذاتية للشاعرة التي ستتناولها في عديد نصوصها وهي أيضا سيرة كل امرأة أحبت وأخلصت لنصفها الآخر ، لكن هادم اللذات جعل من ذلك الآخر مجرد ذكرى ، وهي لن تزول بسهولة فالشاعرة وهي تدون على لوح الحياة الأيام والليالي ، الضحكات والأحزان ، الآمال العريضة في البناء والمستقبل الذي كانت تتمناه مع شريك كل هذه الخطى ، كان الإيحاء خلالها ينتظر منها أن تنتهي منه ، لكنها سرعان ما تبدأ من جديد بفتح صفحة أخرى من سيرتها معه تتذكره بكل ما تملكه من جوارح هذا ما وجدته يتجسد في نصها الآخر " مخاض فكرة " حيث نلاحظ اتساع لغتها بتوظيفها للموروث التراثي التي ربطت من خلاله الماضي بالحاضر وكأن الماضي لم تنتهي حكاياته تقول :
بعد هذا التشرد الموشوم على كتف الليل
تحت قبة فكرة ، بين شفة الماء وجبين ساحل ...
تخطف عشتار عشق الأساطير
تصغي لاضطراب السكر في عذوق النخل ...
والمويجات تبوح للساحل معارج ترحالها الطويل
تسرد حكايا السماء ، خفق الهواء ...
وضفائر الغمامة السوداء حين ترويها أنفاس الماء
وهنااااك ... أنا وأنت
أسطورة المغنى ...
فاتحة النص ...
جنيات العقدة ...
السرد والقفلة ...
وكل ما دونهما زبد
أرمي حجارتي في فكرة ساكنة
تتشاهق كلمات لؤلؤية التكوين
لتزهر ياقوتا في عقود الشمس
جمعتها من البحار السبع
وسندبادها المبحر أبدا .
تشعرني هذه القصيدة والأخريات منها كما لو أن الشاعرة تعيش لتروي حياة الكثيرين ممن صادفتهم في حياتها ، فهي تعيد اختراعهم مرة أخرى حتى وهي تعيش أحلك لحظاتها العاطفية والوجدانية والإنسانية معهم كما تحكي عن ذلك في قصيدتها " من أوراقي المتساقطة " التي تقول فيها :
في الساعة الواقفة عند منتصف الندم ، أجهشت ضحكا ...
علامات التعجب توارت خلف كوابيس الإدمان حيث السطور النازفة
أحترق صامتة ، كشمعة تسندها الدموع ...
كل من حسبتهم أخلاء عمري ... صبوا في فناجيني علقماً ،
أتوجس رعباً ممن أكونه ضياءً وآثره على نفسي
ما زلت أتحسس وشما ناتئاً على شغاف الروح ...
ومع تغير لهجتها تلك من نص إلى نص فهي تعيد تأسيس تراجيديا الموقف خلال تأثيث مقاطع تلك النصوص كما في " نقش بلا ألوان " :
الأبيض ... لوحة لم ترسم بعد ...
قصيدة لم تولد في أوانها ...
رسالة حب ، إرتعشت أناملها فتوارت خجلة
الأبيض ... قلبك الموشوم بالنقاء ...
روحك توشحت بضوء القمر ...
نجم فاجأته الشمس ، فأوهن النظر
وأنا ......... ليل أثقله الصمت ...
غرق لذيذ في العتمة
إنتظار على مصاطب الثلج
الشعر هو في نهاية المطاف جزء من تاريخ الأمم بشقيه البيئي والبشري ، ولأنه كذلك فتحصيله ووقعه المؤثر كبيرا عليهما فبدونه لا يوجد لكليهما أثر ومهما قرأنا من تدوين له يبقى في حاجة اكيدة إلى الشعر ، أوليست الملاحم الكبيرة كانت فجره عبر التاريخ لا نريد ذكرها هنا لأنها معروفة ، هذا الكلام وجدته يداعب أغلب مقاطع قصيدتها " إلى رجل فاقد الصلاحية " نقرأ فيها محاولة أخرى لتدوين التاريخ عن صفحة مظلمة يمر بها العراق على يد زمرة من القتلة ، هذه المحاولة وجدتها في عديد قصائدها ما يعزز ما قلناه ، لكن بطريقة ابتكارية خلدت من خلالها أنخيدونا أول شاعرة في التاريخ وهي ابنة سرجون الأكدي ، تقول فيها :
أيها الغارق في عفن الفكرة ...
لا تصوب صرخة التكبير نحو قامات النخيل
فسعفاتها قصيدة مقدسة
ألقتها الأميرة " أنخيدونا "
في معبد " أنانا " .
أيها الظامئ للدماء ...
أنت بلا ظل
وظلال نخيلنا ... رماح
في عيون الظامئين .
الإبحار في هذه المجموعة الشعرية للزبيدي سيأخذنا بعيدا وقد لا ننظر اليابسة إلا بنور فناراتها التي تعلن أننا اقتربنا من نهايتها ، لأنها نصوص مترابطة قد تحتاج إلى رحيل آخر لها كان لنا مع إيحاءاتها وهواجسها واستلهاماتها وقفات عززت من مكانتها كشاعرة متفردة في اشتغالاتها تلك .