&

&
لم أستطع إجابة الرجل الذي سألني:
- أين يقع "زقاق المَرجان"؟
- سمعتُ به. لكن لم أعد أتذكّر أين...
&كنتُ جالسا في رصيف المقهى. كان هناك، في الشارع، أطفال يتصايحون وهم يرفسون الكرة بأرجلهم على أمل أنْ يسجل أحدهم هدفا... إنّه شارع منعزل لا يعرفه كثيرٌ من الناس، بل حتّى الشاحنات أو السيارات لا تمر به إلا حين ترغمهم الظروف على ذلك. ولهذا السبب بالذات لم يشهد حوادث مأساوية، باستثناء حادث الموتوسيكل الذي كان سببَ شلل العجوز؛ قارئة البخت. كان الراكب شابا وكانت هذه هي المرة الأولى الي يمرُّ فيها بهذا الشارع... لم يدرِ أنّ أزقةً صغيرة تتفرّع منه... ففي اللحظة التي جاء فيها مسرعا على غير العادة، خرجت العجوز من ذاك الزقاق الضيق الذي تسكن فيه، فصدمها بكلّ قوة وقذفها باتجاه حاوية معدنية لجمع القناني الفارغة، ومن جراء اصطدام رأسها بالحاوية أصيبَت، على إثره، بشلل نصفي... وقد تظاهر سكان الشارع معبّرين عن سخطهم وحزنهم بل قرّر بعضهم انْ يمنعوا مرور أيّ موتوسيكل. وبالفعل لم أرَ بعد ذلك إلا بضعة موتوسيكلات تمرّ... أحدها يعود إلى صديق صاحب المقهى، ولا يأتي إلا مرة واحدة كلَّ شهر ويركّنه بمحاذاة المقهى. أظنّ أنه سيأتي بعد ثلاثة أيام؛ في الخامس من بداية كلّ شهر... لا جديدَ تحتَ الشمس... لا أزال جالسا في المقهى؛ في عين المكان الذي أجلس فيه، أحيانا، لساعات طويلة، خصوصا حين الطقس دافئٌ، كما اليوم... إنّه مكان استراتيجي بامتياز، فمنهُ أتفحّصُ كلَّ من لا معرفة لي به، وأتتبع بنظري كلّ من يمر، واسلّم على المارين من معارفي... نهضتُ وتوجهتُ إلى مشجب عليه جرائد مختلفة بحوامل خشبية، ليقرأها الزبائن مجانا، أخذتُ جريدةً أخرى وعدتُ بها إلى مقعدي وأنا أقلّب صفحاتها بحثا عن موضوع مميّز، جلسَ شخص أعرفه من بعيد، إلى جانبي... لا تمر محادثة معه دون أنْ يدَّعِي مَا لَم يحصل له من مغامرات مع النساء! "أهلا، ما أخبارك؟"، سألته. "اسمع، سأروي لك ما حدث لي أمس مع جميلتين، يا إلهي..." هكذا انقضت ربع الساعة مع هذا الصديق، هن توسلن به، وهو يجيبهن: "لي موعد مع أخريات"...! وحين انصرف وصار بعيدا، توجّس لي أنّي سمعتُ صوتَ طلقاتٍ نارية، رفعت عيني إلى الفضاء، كانت النوافذ كلّها مغلقة تقريبا، نظرتُ ذات اليمين وذات الشمال، لا شيءَ يُلفت النظر. وبغتة رأيتُ شابا يخرج لاهثا من مبنى لا يبعد غير بضعة أمتار من المقهى، وهو يحاول دسّ المسدس في جيبه، ثم راح يركض باتجاه محطة المترو. لا أحد يعرف ماذا حدث. وصل رجال الاسعاف والشرطة، بعد أنْ أتصل بهم حارس البناية تلفونيا... فأتضح الأمر أنّ شابا أطلق النار على شابة تقيم في غرفة صغيرة تقع في باحة المبنى... وضعَ رجالُ الإسعاف جثتها المغطاة، على نقّالة، وادخلوها سيارة الإسعاف، وانطلقوا بها مبوّقين. وتولّت الشرطة التحقيق في الأمر لإيجاد سبل القبض على الذي أطلق النار... فأخذوا يسألون القريب والبعيد، وبعد أنْ جمعوا بعض المعلومات، انطلقوا بسيارتهم السوداء... وتفرّق الجميع! تضاربت الروايات حول السبب الذي دفع شابا إلى قتل شابة في الخامسة والعشرين: بعضهم قال إنّ الشابة مُومِسة وقتلَها قوّادُها، بعد مشاجرة بينهما. وهناك من قال إنّها جريمة غسل العار، فالقاتل هو شقيق الشابة! أنا التقيتُ بها مرة، وهي بالفعل مُومِسة لكنّها شاعرة أيضا ولها ديوانان. على فِكْرة، هذه للمرة الثانية تأتي الشاحنة وتقف أمام محل بيع الأزهار لتزوّده بالأقحوان والنجميّات... خرجتُ من المقهى، ومشيتُ قرابة عشرة أمتار، ثم تريّثتُ أمام المبنى الذي وقع الحادثُ فيه، كان بابُه مسدودا، تابعتُ السير حتّى وصلتُ منعطف "زقاق المَرجان"... أوه، إنّه الزقاق الذي سألني شخص عنه! ما دهاني، حتى يغيبُ عن بالي إلى هذا الحد... على أيّة حال، ربما أرشده أحدٌ! وقبل أنْ أنزل الشارع إلى أسفله حيث تقع المحطة، وقفَ بصري عند امتداده فلاحظتُ أنّه بدأ يخلو من الناس، قليلا قليلا... حتّى كاد يبدو خاليا تماما، ولم تبق فيه سوى الكلاب السائبة تَتشمَّم وتُميّز الروائحَ المنتشرة في هذه الساعة المتأخرة من زوال الظلّ! فالجميع توجّه إلى باب الآخرة حيث كان الموتى يحتفلون بعيدهم، تغمرهم سعادةٌ بالغة، إذ صعد إليهم ساكنٌ جديد!&
&