&

قصة قصيرة&
&

خرجت مبكراً ذلك الصباح إلي الحقل ، دون أن أتناول طعام إفطاري ، لقد كنت غاضباً من أمي التى أخذت الأجرة كلها دون أن تعطيني منها شيئا ، علي الرغم من أنها ظلت تقنعني طوال الليل بأنها فى حاجة إلي هذه الأجرة كي تكمل بها ثمن كيلو اللحم الذي ستشتريه غداً من السوق بمناسبة موسم عاشوراء ، حتى نكون مثل بقية الخلق فلا يتطلع أحد من أخوتى الصغار إلي الناس وعلى الرغم من اقتناعي بالأمر وفرحي باللحم ، إلا أنني ركبت رأسي ، وفى النهاية رضخت ، فانسللت من المنزل قبل شروق الشمس آخذاً الطاقية وشمرة القطن فى صمت .. وجدت نفسي وسط حقول القطن البيضاء قبل أن يصل أحد من الأنفار ، كان الحقل الذي سأعمل فيه اليوم بالقرب من شجرة الشيخ علي ، وهي شجرة صفصاف عارية من الأوراق دائما ، يعتقد كثير من الناس أنها مبروكة وحتى هذه اللحظة لا أعرف سر الارتباط بين شجرة الصفاف والشيخ علي الذي يرقد فى مقامه الفقير عند مدخل العزبة ، والغريب أن الناس يعتقدون فى الشجرة أكثر مما يعتقدون فى المقام .&
كانت الشمس علي وشك الولادة من رحم الجانب الشرقي ، أخذت أتأمل هذه الكرة الملتهبة وهي تميل قليلاً إلي الصفرة ، ( لم تكن المرة الأولي التى أشاهد فيها شروق الشمس ) وفجأة قطع هذا التأمل تأوهات وربما همسات ، أنصت جيداً وأنا أمد بصري إلي بياض الحقول الشاسعة من حولي ، صوت امرأة ، أدعية تنتهي بعبارة : &"يا شيخ علي "، التفت علي الفور نحو شجرة الشيخ علي التى لم تكن بعيدة عني ، وجدتها أمامي عارية كما ولدتها أمها ، إذ كانت قد انتهت لتوها من وضع ثيابها فوق جذع الشجرة ، ثم جلست القرفصاء رأيت ظهرها الأبيض يلمع تحت قطرات الماء الذي تصبه من إبريق أسود فخاري وهي تتمتم بالدعاء ، انتابني فى البداية &خوف ماذا لو التفتت ورأتني أراقبها ؟ حاولت أن أبعد نظرى بعيداً ، فلم أستطع ! هل كنت مأخوذاً حقا بذلك البهاء الجسدى ؟ وإذا بها تلتفت ناحيتي ، ربما أحست بوجودي ، إنها تناديني ! تطلعت إلي الشمس التى ارتفعت قليلاً الآن ، فعادت تنادي من جديد ، ولكن فى صوت ودود &ومنكسر، مما أشعرني بالطمأنينة :&
- تعالي يا حبيبي .. قرب مني .&
كالسائر نائماً اندفعت نحوها ، ناولتني الإبريق بيد ، وفى الوقت ذاته وضعت يدها الأخري فوق قُبلها وقالت فى خجل :&
- &صب الماء فوق رأسي ولا تنس أن تسمي .
ثم أردفت مؤكدة ومحذرة :&
- إياك أن تقول لأمك يا حسين ...
فتذكرت علي الفور أمي ، ماذا لو عرفت ؟ كانت أمي تخشي من عين زينب ، وتعتقد أنها حسودة ، لذلك كانت تدعي أمامها دائما أنني مريض وكما كانت تمنعني من الذهاب إلي بيتها ، وعندما تقبلني زينب ، تكظم أمى غيظها وهي تتمتم ببعض كلمات من سورة الناس ، قلت فى انقياد وذهول معا:&
- حاضر .&
ثم نفذت ما أرادت ، لم يستغرق الأمر دقائق ، وعندما أنتهيت أخذت تتأملنى ، ووجدتني لأول مرة أتطلع إلي عينيها ووجهها ، كانت الدموع تنسكب بغزارة علي وجنتيها ، وكان صوتها مختنقاً بالبكاء وهى تبتهل :&
- يارب .. يارب أطمعني .. قل معي يا حسين&
بكيت مثلها و كأنها نسيت نفسها ، أسرعت إلي الجلباب وارتدته علي الفور وهي تقول :&
- لا تخف يا حبيبي .&
قلت :&
- أنا مش خايف .. لكن الأنفار نزلوا وخطي سيتأخر .
فضحكت، وهي تقول :&
- ولا يهمك سأساعدك .. المهم لا تقل لأمك شيئا .
ثم أخذتني في حضنها وأخذت تقبل خدي، وعند ذلك سمعت صوت المقاول الأجش يصيح فى غضب :&
- ولد يا حسين .. خطك تأخر.
أسرعت استلم خطى وأشرع فى العمل فى صمت وأنا أداري خجلي، ومع ذلك لم أسلم من سخريته :&
- ماذا كنت تفعل مع هذه المرأة المجنونة ؟&
لم يدعني أجيب ، فواصل سخريته ، وكأنه يعلم أنني لن أستطيع الرد:&
- كنت بتحميها .. ما استحمتش معاها ليه ؟ .. مدد يا شيخ علي يا بتاع النسوان .&
&وأطلق ضحكة عالية فجة ، تطلعت حولي فى سرعة ربما كنت أريد أن أتأكد من خلو الطريق أمامي ، وبأقصي ماأستطيع ملأت فمى باللعاب وقذفته فى وجهه ، فألجمته المفاجأة ،وعند ذلك أطلقت ساقي للريح ، وبعد خطوات سمعت صوته صارخا :&
- الأجرة يا ابن الكلب .. سآخذها من دمك .
لم استطع أن أذهب إلي البيت خوفاً من أمي ، وكدت أرجع إلي الحقل ، وقفت وسط الطريق الزراعية أتدبر الأمر، هل أرجع ؟ ولكنني خفت أن يضربني المقاول .&
عرفت فيما بعد أن زينب ذهبت لتساعدني وعندما لم تجدني وعلمت بما حدث ، نزلت مكاني وعملت بدلاً مني طوال ذلك اليوم .&
&