&
برهان سونماز كاتب تركي مرموق فاز بالعديد من الجوائز الأدبية، ولد في وسط الأناضول عام 1965م، وتعلم في صغره اللغتين التركية والكردية. ثم انتقل إلى اسطنبول حيث درس القانون وعمل بالمحاماة وأسس مركز للبحوث الثقافية والفنية. وعلى الرغم من بداياته الشعرية وفوزه بعدة جوائز شعرية في مسابقتين، إلا أن شهرته جاءت من أعماله الروائية حيث ُشرت رواياته في أكثر من عشرين دولة، وترجمت للغاتِ كثيرة منها الفرنسية والإيطالية والألمانية والدانماركية، روايته "شَمال" هي باكورة رواياته وقد نُشرت عام 2009، وروايته الثانية "الخطايا البريئة"، نُشرت عام 2011، وروايته الثالثة "اسطنبول اسطنبول"، نُشرت عام 2015.&
فازت "خطايا الأبرياء" بجائزة "سيدات سيمافي" الأدبية، وهي من أكثر الجوائز الأدبية أهمية بتركيا، ورُشحت الرواية كذلك لجائزة "رايتينج فور لاف" في إيطاليا عام 2014، وقد صدرت ترجمتها للعربية أخيرا عن دار العربي للنشر، وترجمها محمد أسامة..
تتناول الرواية قصة رجل وامرأة من دولتين مختلفتين يتقابلان في متجر أنتيكان في كامبريدج: "براني تاو"، ولاجئ سياسي كردي من تركيا، و"فيروز" التي هاجرت إلى المملكة المتحدة هربًا من الثورة في إيران. ببطء يبدأ حبهما في النمو. يساعد في نموه هذا قصص من تراثيهما، وحب مشترك للأدب، واعتراف مشترك بغربتهما في ذلك المكان الذي يعيشان فيه. يروي "براني تاو" قصصًا من تاريخ عائلته، حكايات حيَّة تعيد إليه ذكرى الأساطير القديمة: رعاة يضربهم البرق، جنود يعودون من الحرب محملين بكوابيسها الدموية. الانتقام الذي دمَّر عائلات، قرويون يبحثون عن أكوابٍ مسروقة، ومصورٌ يحمل الأخبار الي القرى عن طريق الصور التي يلتقطها. تلك الذكريات المظلمة التي ورثها من ثقافته، مختلطة بطبيعته الكئيبة، ومرض الأرض الذي يلا يشفى منه، كل هذا يشكل حملًا ثقيلًا على عاتقي "براني تاو" الذي يلجأ إلى المقابر ليتأمل ويخرج كل ما يعتمل بصدره بها. ولكن ومع دخول "فيروز" حياته، يبدأ في البحث عن مكان أكثر حرية بداخله. "فيروز" كذلك تخفي بداخلها أسرارًا عائلية حزينة، وعندما تعود فجأة إلى إيران لحادث عاجل، يعرف "براني تاو" ما عليه فعله.
&
من أجواء الرواية:
قبل مولدي بسنوات، منح "فرمان" قلبه لفتاة خجول تدعى "آسية". وفي اللحظة التي عاد فيها من خدمته العسكرية أرسل عجائز القرية لطلب يدها زوجةً له، لكنَّ أشقاء الفتاة رفضوا طلبه بقسوة عجيبة وأمطروا العجائز الذين لعبوا دور الوسطاء بالسباب. عندما بلغت الأنباء السيئة "فرمان" تذكر البحر الذي رآه خلال خدمته العسكرية، وأدرك أن خوفه من الفناء، ذلك الخوف المألوف لسكان السهول جميعًا، والذي هاجمه عندما لازمت سفينته البحر لثلاثة أيام متتالية، يوشك أن ينقلب واقعًا هنا في قريته، وعزم النية على اختطاف "آسية". لكنَّ بقرته لم تعد في اليوم التالي من المرعى، وعثروا على جثتها لاحقًا على جانب الترعة. وفي الليلة التالية اختفى عشرون حملًا من الحظيرة، كما أتت النيران على كومة القش المُعدّة للدرس. وعندما عثر "فرمان" صباح يوم ما على جثة كلبه تملؤها الطعنات، وذيله المبتور ملقى فوق السطح، أيقن أن دوره قد حان.
كانت ضغينة من هذا النوع المعتاد بين الصبية هي التي دفعت شقيقي "آسية" لمعاداة "فرمان" إثر مشادات تافهة لا يكادان يتذكرانها، كان يمكن لتلك العداوة غير المؤذية أن تستمر للأبد لو لم تقع أنظار ذلك الوضيع على شقيقتهما، مما حول الغِل إلى ميولٍ دموية وتهديدات. كانت سكينة الشرف الكامنة داخل كل قلب على أهبة الاستعداد لسفك الدماء. أما "آسية" التي بنت آمالها على حبها لـ"فرمان" طيلة أعوام، فصارت الآن يائسة كطفلة سقطت في بئر، تنتحب، بينما تبلغ مسامعها الأصوات قادمة من العالم الخارجي.
كان الشتاء يوشك على الانقضاء، والأرض يكسوها الجليد، عندما كان "فرمان" ينام في أثناء النهار ويختبئ بين الصخور المقابلة لبيته ليلًا، متأهبًا للهجمة التالية. وفي الليلة التي رأى فيها البندقية في يد أحد الشابين المقبلين من جهة منزل "آسية"، أيقن أنهما ينويان قتله. وجَّه "فرمان" بندقيته وأصاب أطولهما أولًا، ثم أصاب الآخر. يحفظ والدي قصيدة شعبية تروي قصة مشابهة. في تلك القصيدة التي اعتاد تأديتها محاولًا تقليد الأصوات الشجيّة لمُنشدي الملاحم في القرية، يتعارك فتى صغير مع عائلة الفتاة التي يحبها فيقتل ستة من أشقائها، تاركًا واحدًا فقط على قيد الحياة كي تستمر السلالة، قبل أن يحيا في رغد إلى الأبد مع الفتاة التي تدعى "كيجي". يُنشد والدي: "Kejê Mirzobege, gul sore, por drêje".
لكن ما أتعجب له الآن وأنا في عمري هذا، بعد أن سكنت مُدنًا مُزدحمة، ودرست في مدارس كبيرة، وسافرت إلى بلاد غريبة، أني لم أَمَلُّ في تلك الأيام قط من الاستماع إلى هذه القصيدة؛ حيث الرجال لا يترددون في قتل إخوة الفتاة التي يحبونها. كنت كلما استمعت إليها يغلبني النعاس، آمن بين أحضان التراث، مطمئن النفس كأنما أمسك بالقمر. لكنَّ "فرمان" لم ينم، لا في تلك الليلة ولا أي ليلة تلتها. لقد ركض مع الذين أيقظهم دوي الطلقات، ورأى أن الشخصين اللذين أطلق عليهما النار على الأرض كانا أخويه هو. وحسب رواية شهود العيان، فقد "فرمان" عقله في التو، وأخذ يعوي ككلب، قبل أن يبتلعه الظلام.
سافر شقيقا "فرمان" الأصغر سنًّا إلى "هايمانا" للدراسة. لم يكن لـ"فرمان" عائلة سواهما، ولمَّا كان فخورًا لكونه شقيق أول أولاد القرية الذين ذهبوا إلى المدرسة، أخذ يحلم بالمستقبل الواعد لهما، ولم يتوقع ظهورهما هكذا فجأة في إحدى الليالي. قطع الأخوان في أول أيام عطلتهما المدرسية نصف المسافة في عربة يجرها حصان، ثم قضيا الليلة في بيت صاحب العربة قبل انطلاقهما في اليوم التالي مع بندقية أعارهما إياها الرجل لتقيهما الذئاب الجائعة. سار الأخوان طوال اليوم، وكانا على وشك الانهيار من شدة البرودة عندما لقيا حتفهما على يد شقيقيهما.
لم يذكر أَحَدٌ أسماء أي من الإخوة قط، لا إخوة "آسية" القساة، ولا أخوي "فرمان" اللذين رحلا قبل قراءة كل تلك الكتب المدرسية. كانت ذكراهما عابرة في أحاديث المساء، كشواهد قبور بغير أسماء. يعجزون عن إقناع الحضور بأنهم أبطال القصة الحقيقيون.
عاش "فرمان" لسنوات في الكهوف، والوديان، وبين الصخور. كان خوفه من النوم في الظلام يدفعه للصراخ من ألم فاق آلام جرحى الحروب الذين شاهدهم في طفولته يتغنون بالأغاني الحزينة. تتراءى التوابيت لشاعر "آسية" ذي الصوت الرخيم في أثناء الليل؛ فلم يكن بعيدًا عن حبيبته فحسب؛ بل كانت يداه ملطختين بدماء أخويه أيضًا. وحول رقبته يلتف مصير نخشاه جميعًا أكثر من الموت، كوشم لا يزول. ينشد "فرمان" في إحدى مراثيه قائلًا: "لا أدري من أين تطلع الشمس - ولا أين تغرب الآن".
"مجنون" هو الشخص الممسوس، وكانت تلك الكلمة تستعمل لوصف من سلبهم العشق رشدهم، هؤلاء الذين جنحت بهم السفن إلى أشد ضفاف الحياة تطرفًا. ولو أن الحب مس مجنون ليلى فأفقده عقله وأرداه في الصحراء قتيلًا، إذن فنصيب "فرمان" من الجنون مضاعف، بعد أن سقط ضحية لشياطين الحب والموت. هام "فرمان" بين كل كهف، وجبل، وبقعة مهجورة من السهل، متخبطًا في الظلام ولا يستسلم للنوم إلا فجرًا حين ينفك طوق الشوك المحكم حول قلبه شيئًا ما. يدعو "فرمان" السماء طمعًا في تخفيف آلامه وهو يحدق في النجوم. لم يكن يومًا قديسًا، ولا تلبَّس بتلك الأفكار عندما فقد عقله وخرج إلى السهول؛ بل كان - ببساطة - ممسوسًا من قبل الحب والموت، يحيا مع شياطينه وينتظر نهايته في ظلمته، أو كقول الشاعر:
"أتحسب نفسك خالق الكون
فقط لأنك تكد وتكدح طول الليل والنهار؟
استمع لقصص الأولين الذين انقلبوا غبارًا
ترى القدر سيّدًا على القلوب جمعاء
يفتح كل باب ويُغلقه في طرفةِ عين"
بينما المصور "تتار" يعبر الجانب الشرقي من جبل "مانجال" في أحد أيام الصيف، صادف "فرمان" نائمًا خلف صخرة فميَّزه، لا من مظهره؛ بل - كسائر أهل الإقليم - من مصيره، فظل واقفًا في الحر المتقد قليلاً دون حراك. ولمَّا أدرك انتفاء كل دواعي الخوف، أخرج الكاميرا من حقيبته.
عندما استيقظ "فرمان" من أحد كوابيسه المأساوية على صوت الكاميرا، جفل الرجلان، وكأنهما جنديان أعداء، التقيا فجأة أثناء الحرب التي دارت على هذا الجبل منذ خمسة وعشرين عامًا مضت. وقف الرجلان يتنفسان بعمق أسفل الشمس الساطعة كما لو أنهما سافرا تلك المسافة معًا؛ لكن ما إن تلاقت عيونهما، حتى أدرك كل منهما أن صاحبه لن يضره. حكى "تتار" لـ"فرمان" كيف قضى العامين الأخيرين في السهل يتنقل من قرية إلى قرية، يلتقط صورًا بأسعار مُخفّضة، وأنه الآن في طريقه لتسليم ما التقطه الصيف الماضي. أما "فرمان" فلم يتلفظ إلا باسم "آسية".
وصل المصور "تتار" إلى القرية في المساء وتوجه إلى منزل "كيفي"، متجاهلًا النظرات الفضولية للفتيات والعرائس الشابة في وقفتهن إلى جانب النافورة. كانت جدتي "كيفي" تجلس، ومعها آخر أزواجها "حجو" أسفل شجرة التفاح. جلس "تتار"، ثم أتى على ذكر "فرمان" وكيف حملق في الصور مذهولًا، يحسب أن مرآة ما ستظهر أسفل كل واحدة لتعكس له صورة وجهه الذي ما عاد يذكره، بعد أن رأى من عرفهم وقد تبدَّلت أشكالهم وهرموا. كم كان العالم بسيطًا حين كان يسكن القرية؛ حيث تدور الحياة في مدارها الأزلي يومًا بعد يوم؛ لكنه الآن تائه، يتنقل من مكان إلى آخر كنجمة لا تعرف لها مستقرًا.
قال "تتار":
- عندما رأى صورة "آسية" تجمد في مكانه كأنه جزء من صورة هو الآخر، ثم ترك بقية الصور على الأرض، ونهض واقفًا قبل أن يسير مبتعدًا، تاركًا بندقيته ومِخلته خلفه. عندما أخبرته أني سأغادر لم يرد ولا لاحظ أني تركت ما كان في حقيبتي من خبز وجبن وتبغ إلى جوار مِخلته. في تلك اللحظة رأيت الخيول السوداء خلف الصخور.
كانت الصور التي أمسكت بها يد "فرمان" الهزيلة، والتي تفحصتها عيناه على مهل، غريبة ومخيفة كتلك الليلة الشتوية التي أطلق فيها النار على أخويه قبل ستة عشر عامًا. كان يأمل في الهرب من هول ماضيه عبر الانتقال بعيدًا، فقد كان يؤمن بأن المكان يقهر الزمان، وأن الزمان يقهر الألم، كل ذلك قبل أن يدرك أن الماضي سيظل يطارده إلى الأبد. دفنت القرية شقيقي "فرمان" في غيابه وأغلقت منزله، وكما لو كان الزمن يقدم كفارة، توفي والدا "آسية" الواحد تلو الآخر في غضون شهر، والجراح القديمة التي حاولا على مدار عمريهما إزاحتها إلى زوايا الذاكرة المظلمة، حاضرة في ذهنيهما حتى آخر لحظة. في تلك الأزمنة كان تكفيرك عن خطايا أبنائك فضيلة. أما عن "آسية" التي بدأت تعاني من نوبات الإغماء فقد توقفت عن التحدث إلى شقيقيها، فقاما بدورهما بهجرها، واختارا الانتقال إلى أرضٍ نائية، بدلًا من العيش في ذعر خشية وقوع انتقام "فرمان" في أي لحظة، وسرعان ما مُحيت أسمائهما من ذاكرة القرية. فعلى الرغم من خضوعهما في أول حياتهما لأعراف المكان الذي ولدا وكبرا فيه، فإنهما التحقا فيما بعد بأمثالهما من جاحدي الجميل.
&