&
تطل علينا جوليتا هذه المرأة المنعزلة عن العالم لتكتب قصة حياتها الذي جعلها القدر مختلفة مليئة بالمآسي، تعاني قسوة ألم فراق ابنتها الوحيدة، عندما بلغت البنت الثامنة عشر عاما ذهبت إلى رحلة ثم غادرت وقطعت صلتها بأمها ويبدو أنها حملتها ذنب موت والدها، توشك جوليتا على مغادرة مدينتها لتذهب مع رفيقها لكن بالصدفة تلتقي مع رفيقة ابنتها وتسمع خبرا مفرحا، ينتعش أمل الأم في فهم ما حدث وتقرر تتبع خيوط ضعيفة ربما توصلها إلى لقاء البنت المختفية التي هجرتها وسببت لها الكثير من الوحدة والوجع وعذابات يصعب وصفها.
جوليتا لا تريد أن تظل وحيدة وهي تشعر أن قطار العمر ينطلق بها إلى دهاليز العجز بعد تخطيها ال 55 عاما ولذلك تكسب عرض رفيقها بمغادرة مدريد لتستقر معه في البرتغال، تقرر ترك ذكرياتها الموجعة فهي منذ سنوات تطرح على نفسها عشرات الأسئلة ولا تجد جوابا ينقذها تأنيب الضمير بعد غرق زوجها الذي كان يخونها، كانت تعلم بخيانته وتلتزم الصمت، أغلب الشخصيات هنا في زنزانة الصمت وليس كبقية أفلام بيدرو ألمودوفار، هنا جوليتا تشبه المخرج وتحمل الكثير من سماته.
في هذا الفيلم نجد كثافة رومانسية تم خلقها وفق كيمياء وخبرة سينمائية نضجت مع عشرين تجربة سينمائية تتخذ من صورة المرأة وحضورها الفاعل كمرتكز أساسي لرجل كثيرا ما يصرح (كل شيء من أمي)، هنا جاءت القصة كما رحلة إلى الأمام، ولكن في الماضي. الشعور الذنب هو القوة الدافعة غير المتوقعة من الفيلم. جوليتا تشعر أن مشاعر صغيرتها تبدلت نحوها منذ موت الأب، هناك الكثير من التحديات &الغير مرئية رغم محاولات الوضوح والبوح ، نعيش التقلبات الميلودرامية وتتغير مصائر الشخصيات كأننا نعاصر تراجيديا اغريقية مفجعة، &فنرى ومضات كثيرة لصخب ومنغصات الحياة اليومية الصغيرة &مثلا البحث عن تكسي المشي بالشارع وركوب القطار وغيرها &يتخذها المودوفار كذخيرة حية &ويعيد تجميعها وعبرها تحدث الصدف وفي إطارها تحدث متغيرات جسيمة.
لا يخفي المخرج &الأسباني بيدرو ألمودوفار تأثره الكبير بسينما هتشكوك ويفتخر بهذا كوه هتشكوك المغذي الروحي لمئات السينمائيين حول العالم، القطار الذي كان مسرحا لأول حالة وفاة لرجل غريب لا أحد يعرفة، هذا الحادث يترك أثره الصادم في حياة جوليتا، ولكنه أيضا أول ليلة من الحب، كثيرة هي أشباح هيتشكوك والمفارقات الغير متوقعة وكلها تصب بشكل مبتكر.&
ذلك القطار في البداية هو أيضا كناية عن الحقيقة حول جوليتا أي مرور الزمن، ثم زوال الروابط وتلاش من تلتقيهم أو ترتبط بهم وكل لقاء أو فراق يرمي بظلاله على حياتها، وأحيانا قد يكون الفراق دون كلمة وداع واحدة، الفراق طبيعة أنسانية لكنها قد تكون مؤلمة وخنجرا يدمي القلب هذا التسلسل الزمني للفيلم يزج بنا في مستنقع الذهول عبر ومضات الفلاش باك، &كل شيء يقول أن الحياة عبارة عن سلسلة متوالية من الخسائر والوداع، يمارس المخرج أسلوبا ساخنا ومتسارعا ويفضل الحذف ليحضنا على المعايشة والمشاركة.
ألمودوفار مزج عدة عناصر جميلة ووضع عثرات في طريق جوليتا ليجعل المتفرج في حالة من الترقب والأمل، ومصير جوليتا يرسمه هذا القدر الذي لا يشرح قرراته ولا يمكننا معرفة توجهاته ونياته، نلاحظ لعبة السرد الذكية فتفاصيل الماضي تهيمن على الحاضر وهذا الحاضر ملوث بالماضي، ووقعت في فخ مصيرها فهي تتخبط أو تندفع لخيارات لم تحسب ماديا، هنا العاطفة تلعب دورها ولكنها تزج بها إلى الألم، جوليتا تلتقي &في القطار مع هذا الرجل الغامض الحريص على الدردشة، ولكنها تختار الفرار إلى عربة أخرى، ثم يصبح عشيقها وترضخ لإغراء هذا الشاب رغم أن له وزوجه على فراش الموت.
شيء وحدث يسحب شيئا وحدثا وهكذا تتكون سلسلة لتصبح هذه الشابة حبيسة ومادة درامية لا تقدم لنا بطولات ولا نهايات سعيدة، فالشخصية تتعرض لهذة العواصف كموت الزوج وفقدان البنت ومرض الأم وصدمة تهتز من خلاله صورة الأب وصدمة في الصداقة ثم تدفع ثمنا باهضا من سعادتها ورغم ذلك تظل فاتورة الأخطاء تلاحقها.
جوليتا يبدو أنه الفيلم الأكثر مأساوية للمخرج بيدرو ألمودوفار، فهو هنا يُغلق على البطلة كل الطرق فلا منفذ ولا وسائل مفرحة يمكن اللجوء إليها، منذ البداية يحضر اللون الأحمر يغطي التمثال البرونزي، الفيلم يعطي جو اللعنة، جوليتا تتحدث إلى ابنتها المفقودة وتغترف من الذكريات وكأنها لا تفهم منها أشياء كثيرة ولكنها تحمل وزر الخطايا كما هو الحال دائما مع ألمودوفار، يظل بطل الفيلم محاصرا بماضيه وصعب عليه الهروب.
قيود الماضي لا يمكن الإنفصال عنها وتظهر في شكل الفلاش باك الذي يأتي كمنقذ وكجزء ضروري كي نفهم طبيعة مصيرها العنيد، يستدرجنا المخرج ببراعة ويفرش الأحداث بتدرج مشوق ويدعمها بمخادعة وكسر تواقعاتنا والكثير من الرموز تنبت هنا وهناك.
"جوليتا" ذكريات وندم أيضا
من تلك اللحظة، عندما نرى جوليتا الشابة (ادريانا اوغارت) ترتدي ذلك الزي كأننا مع فيلم &الرعب النفسي تبدأ حياكة &تنظيم مأساة رهيبة في محطة القطار، ثم الكارثة البحرية وموت الزوج ثم فقدان أعز شيء في حياتها،كل هذه المعطيات ليست مجرد ملامح، المصائب لها شكلها المادي وتنال من جوليتا، أم مجروحة ولا شفاء من هذا الجرح، &نعيش الحزن النقي جدا.
في فيلم جوليتا يوجد أربعة وجوه نسائية جميعها مهمة جوليتا الشابة (ادريانا اوغارت) ثم جوليتا بعمر الخمسينات (إيما سواريز) أفا (إينما كويستا)، بياتريس (ميشيل جينر)، وكذلك ماريان (روسي دي بالما)، الشخصيات النسوية حضرت بقوة ولها دورها الفعال والنشط وكل شخصية تترك أثرها المدهش، تنوعت هذه الشخصيات لتشكل لوحة ساحرة فيها ما فيها من الغموض والغضب والحزن، بيدرو يعتني بممثلاته وشخصياته النسوية ويبذل جهدا خاصا في كل تفاصيل الملبس وكيفية الظهور وهو يميل إلى اللون الأزرق والأحمر والبرتقالي ويقول عن نفسه أنه طفل الستينات لذا يحب الألوان التي تجعل المتفرج يهتز ويرتعد لذلك يميل إلى الباروك ويبالغ في حضور الألوان البهيجة ويرى أنها تعبر عن غضبه تجاه اللون الأسود الذي لبسته أمه ثلاث سنوات خلال حدادها على والده بسبب أن العادات والتقاليد تُرغم النساء على ذلك.
وبخصوص معالجة رواية الكاتبة الكندية (أليس مونرو) فالمعالجة متحررة، فهنالك معالجة وجهد وبصمة المخرج واضحة ونفهم من كلامه في مهرجان كان (2016) أن الرواية كانت المنطلق وأنه لم يخلص لها وكان حلمه أن يصور الفيلم كله في قطار ولكن صعوبات كثيرة تعيق ذلك خصوصا الفضاء داخل القطار محدود للغاية وقضى ليالي وأيام طويلة يفكر ويكتب ويحذف ويضيف إلى أن وصل لهذا السيناريو.
كما كشف المخرج ألمودوفار أنه كان ينوي تصوير الفيلم في كندا ثم نيويورك وفعلا وجد ممثلة أمريكية مشهورة رحبت بالفكرة لكنه في الأخير أصابته بعض الشكوك ففضل التصوير في أسبانيا كون مفهوم العائلة وقيمتها مقدسة والأبناء لا يقطون صلتهم أبدا بالعائلة مهما كان البعد الجغرافي وهذا لا نجده في أمريكا.
وفي حوار مع المخرج بعد عرض فيلمه جوليتا بمهرجان كان الأخير ووضح أنه يجد لذة كبيرة في خلق شخصياته النسائية وهنا في جوليتا الشخصية مختلفة جدا ويتطرق الفيلم لهذه المرأة وكذلك موضوع الأمومة الذي دائما يجذبه، كما أن موضوع الشعور بالذنب فهذا الشعور ينسكب ويتفاعل بشكل كبير وهو هنا لا يرتبط بالدين بل شعور علماني ولا ديني ويأتي عندما نتعرض لمصيبة وصدمة في حياتنا ونحس بمسؤوليتنا لما حدث.
في الختام نسرد أسباب بيدر ألمودوفار في تقسيم شخصية جوليتا ووجود جوليتا الشابة (ادريانا اوغارت) ثم جوليتا بعمر الخمسينات (إيما سواريز)، فهو لا يستحبذ المكياج الذي يُظهر تقدم الشخصية في السن ويرى أن النظرات مهمة جدا ويعجز أي مكياج خلق النظرات لذلك كانت ادريانا اوغارت لتجسيد جوليتا في شبابه خصوصا أن الشخصية متحررة ومنفتحة وتتواق إلى المغامرة وعندما تبلغ الخمسينات نحن مع شخصية مكسورة وضحية لذلك الماضي وتلك النكسات فكانت الممثلة إيما سواريز جديرة بالدور لما تملكه من خبرة حياتية وقدرة إبداعية مدهشة.
&