ليس من الأمر اليقين أن ما يحدث في سورية هو أمر واقعي لأن الإنسان لا يعيش حياته في الواقعي فقط بل يتداخل معها التخيلي والوهمي، وستكون كذلك، بطريقة ما، من الأحلام والأوهام حتى لو كان الجرح واضحا ملموسا. عنف الصدمة وعصاب الهولة يحولان شدة الواقع الى حلم، إلى تيه لا يُبحث فيه عن مخرج إنما عن تأكيد الغرائبية التي يعكس فيها الإنسان، من وقت إلى آخر، وحشيته وحيوانيته.&
إن الثورة- الحرب في سوريا التي لن تمر كما أراد لها الشعب، يواجهها النظام السوري بمؤازرة الأنظمة العالمية بالتجويع والحرمان، القتل والاغتصاب واذلال الذات ومحقها، وبطش الأنا وفظاعة الإنتقام تتجلى مرئية في محاصرة الأعزل الذي تريده ميتا، ليس الهدف هو موت الضحية بل شهوة الانتقام ورؤية موت لا ينتهي، أن لا تموت الضحية إلا على مهل، بتؤدة، حتى يرتوي البغض والحقد وترتوي الظلمات.
&لن توصل الكلمات الصورة الحقيقية إلى وجدان القارئ، أن تنقل له انعكاس مايجري على الروح والجسد السوري. إنها تجربة انسانية في التحمل والى اي مدى يستطيع مقاومة الجوع ومواجهة الكوابيس اليومية التي تتمثل في طائرات تحلق في السماء، سوف تطلق صواريخها وقنابلها وتلقي براميلها بعد قليل، وعلى أي حي ياترى ستكون اليوم ومن ستكون الضحايا، لم يعد الموت كما كان في السابق وبالتأكيد فإن حزمة الأخلاق والرؤية الوجودية للكائن السوري مع العالم قد تغيرت.&
هذه التراجيديا التي لم تأت بمثيلها الاساطير القديمة كيف ستخلق اسطورتها الخاصة وكيف ستنقلها الى الأجيال القادمة؟
مازال الآوان مبكرا لنقل التراجيديا كما هي في وجدان السوري الى العالم، ولن أقول سوف يصاب بالذهول، هذا الذي اسمه العالم، وسيعيد حساباته التي دوما يعيدها بعد فوات الآوان. &&
إنه عالم "النيجر " وهي كلمة لا تطلق على الزنوجة بل تطلق على كل فكرة وسلوك فيهما فوضى وسوء خلق وجشع وعهر، صفة يحملها الإنسان المتحول الى شيطان ولا شأن لها باللون.&
كيف سيقول الأدب عما جرى من أحداث وفواجع، بأي لغة سيكتبها، وبأي تعاليم وأدوات؟
كان هناك في بداية الثورة السورية استعجال ابداعي يطمح إلى حيازة قصب السبق فظهرت روايات وأفلام تحدثت عنها، كانت على سبيل المثال رواية السورية "مها الحسن" طبول الحب –كذلك ظهرت في مصر، حيث أن الثورة السورية ليست ثورة قطرية بل هي جزء من ثورة شرقية، ظهرت تجليات فنية تكلمت عن ثورة ساحة التحرير، الثورة المصرية كانت قد حدثت في المرآة ولم تحدث في الواقع حيث اجهضت في مولدها، وستنتظر الثورة السورية حتى تجني ثمارها البعيدة كي تبدأ بدايتها الواقعية، ظهرت في مصر ايضا مذكرات ناجحة لمنى برنس "اسمي ثورة" رصدت فيها ماجرى، كتبتها بلغة مباشرة –عامية احيانا- &"في المترو يبدأحديث تلقائي بيني و بين شباب كانوا في مظاهرة شبرا. شاب اسكندراني يعمل بالقاهرة يخبرنا بأن الآلاف خرجت في شوارع الاسكندرية. شاب فرنسي سعيد جدا لأن الحظ حالفه فجعله يتواجد في القاهرة في هذا الحدث العظيم.. " أسير باتجاه دار ميريت و قد اختلطت على الشوارع. و في الطريق ألتقي بعض الأصدقاء الذين كانوا معي في المظاهرة. نطمئن على بعض. و يسألونني،&
" انتي ليه ما جريتيش اول ما شفتي الأمن؟"&
" أنا جريت، لكن لقيتهم ماسكين شاب صغير و عمالين يضربوا فيه، فشتمتهم."&
أما رواية طبول الحب فلم اقرأها لإيماني أن الكاتبة تسرعت في الكتابة عن الذي يحدث في سوريا فلا يمكن التعبير عنه من خلال رواية فنية – يجب أن تمضي سنوات قبل أن يكتب الأدب انطباعاته عما يحدث اليوم في سوريا- كل من يتسرع فإنه سيجني على حقه في الأدب والفن.
كتب نوري الجراح قصيدته الطويلة "الأيام السبعة للوقت" قبل أربع سنوات وكان الناقد صبحي حديدي قد بالغ في الإطراء عليها قائلا عنها: أنشودة طافحة بالقوّة الأخلاقية، قبل الشجن والأمل والألم، وفيّة لكلّ الجماليات الفاتنة التي اتسمت بها قصيدته..." لكن قراءتها المتمهلة الصادقة تكشف عن حمولة ثقافية تدور حول المركز الأنوي للشاعر والذي يغذيه توهم مسبق عن انتظار القراء لقصيدته. "دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر..." يمكن العودة إليها في صحيفة الحياة العدد 17941 – 18 أيار 2012
هنا نهاية القصيدة: "...والكلماتُ مقيدة بسلاسل الكلمات \ العين الغريقة \ في صورة \ اغرورقت بالدم\ خذ هذه الصورة من عيني، وخذ جرح العين \ المئذنة تتقصف وتهوي في سورة الفاتحة \ وطوال النهار\ طوال النهار \ يداي مبلولتان وخبزي مبلل بالدم \ وكلماتي تنظرني \ دم من هذا الذي لطخ يديك وكلماتك أيها الأعمى؟ \ أنا لا أكتب قصيدة لكنني أشم القميص لأبصر.
يُلاحظ من قراءة القصيدة أنها قصيدة مغذاة بالبذل الثقافي – أبعدت الشاعر عن إبداع الصورة الشعرية، "اغرورقت بالدم ... يداي مبلولتان وخبزي مبلل بالدم" لم تأت القصيدة من وجدان الشاعرولا من معايشة الثورة والتي ماتزال طازجة في الشارع، لو عايش الثورة لكان صمت لأن ما يجري مازال أكبر من الكلمة. تفاصيل الموت والخوف تنسحب في القصيدة انسحابا معرفيا ميثولوجيا قديما مع أن الثورة بحد ذاتها هي انتاج حديث لميثولوجيا حديثة كان على الشاعر أن يكتبها، لكنه يعترف منذ البداية أن قصيدته عمياء وصوته أعمى ولا يملك سوى الكلمة – لا يبحث الشعر عن الكلمة بقدر بحثه عن الحياة فمنها يأتي الشعر وليس من الكلمة ولا من المعرفة. لكن ماذا يفعل الشعراء إن لم يكتبوا، حتى لو لم تكن كتاباتهم من مستوى الحدث؟ الكتابة عن الثورة هي كتابة المستحيل واليوم لن تنجح كتابة فنية عنها.
نشرت القدس العربي 12 كانون الاول 2016 قصة قصيرة "زينة" لديما الحرستاني افتتحتها بهذه الكلمات "أحب العد.. أعرف القراءة أيضا ولكنها صعبة، بعض الأحرف لم أعد أذكرها. العد أسهل. خمسة.. خمسة.. خمس وعشرون..عشرة. هذا يكفي لشراء اثنتين من الفطائر.." وتسترسل استراسال حرا موفقا، شديد الفنية يحكمه الوجع السوري من جوع وتشرد وفقد. تتكلم عن فتاة من منطقة تلبيسة تخرج سالمة من تحت الأنقاض مع اختها بعد أن فقدت أمها. في القصة تتناسى الطفلة اللغة ويصبح الهدف الأساس لها الأرقام، فطيرتا زعتر، فطيرتا سبانخ، الأعداد لها قرابة مع الجوع، مع الواقع أكبر من الكلمات. لكنها تختتم القصة وقد خف التوتر الفني قليلا واستحالت الى قصة واقعية نأى عنها الاسترسال الذي توهج في البدايات.&
ليس هدف الأديب هو الكتابة، بل استخراج المعاناة الصادقة الوجدانية التي نسيت الثقافة ومايأتي منها من اندفاعات غير فنية. في هذه المعمة ربما سيكون من الموفق رصد الواقع بكتابته كما هو، بتصويره وتوثيقه من دون أدب أو شعر، أن يروى ما يحدث بصمت حتى من دون أن يقول الكاتب رأيه. أصدر خلف علي الخلف في عام 2015 ديوانه "يوميات الحرب القائمة". يفتتح المجموعة بقصيدة ضيف: الحرب تطرق الباب؛ \ البرد قارس في الخارج \ افتحوا لها كي تتدفأ \ قدموا لها الدم الساخن كي تهدأ رجفتها. \ الحرب مسكينة : \ لا تجد ماتأكله؛ فتأكل الجثث."
يدخل الشاعر إلى موضوع الثورة – الحرب في سورية من باب التهكم والسخرية. يحول المجازر الى مناسبات والقتال الى ترفيه "مرحبا ايتها الحرب! \ الطاغية يرسل سلامه إليك؛ \ ويقول: تأخرت.\ ..وخطب بنا مهددا: بأنه سيشعلك، ولن ينتظرك طويلا" الغضب وقد تحول الى سخرية حيث هي الوجه الآخر لغضب وقد استدار من الشدة. وهنا يلاحظ أن السخرية مما يجري هي الطريق الأسلم في التعبير عن الأهوال التي تواجه السوري، فإما الصمت وإما السخرية، والسخرية هي كلام الشارع النابض وابنة وقته ولا تحتاج الى فترات كي تتخمر في باطن الفنان إنها الآني وهذا هو نجاح خلف الخلف في كتابه عن الشعري عن الحرب.&
بالإضافة الى ذلك، لا بد أن أشير الى كتابات الياس خوري ومقالاته، أغلبها في صحيفة القدس العربي، والتي نهجت نهجا وجدانيا فنيا ذا حساسية عالية مليئة بالتدفق الشعري وبموسيقى النضال والثورة، قل مثيلها بين المقالات والكتابات. جاءت بهذا المستوى العالي لما يحمله الكاتب من صدق ورؤيا وحمى للتحرر. من الواجب ضمها بامتياز إلى أدب الثورة.&
ماتزال الثورة السورية في بداياتها، في طفولتها، ولها الطريق الطويل حيث الهدف ليس تحرر سورية فقط بل هو تحرر الشرق بأكمله، فمتى نالت سورية حريتها نالتها البلدان الأخرى وهذه ليست نظرة طوباوية وتوهم ذلك لأن المنطقة برمتها هي نسيج واحد فمتى جدد طرفه جدد الباقي حيث الحجارة تعمل من مغذئ واحد وثمة تكامل في الحال والأنساق.&
&