&
كثيرا ماأطاحت فؤوس اللوم والتقريع على رؤوس مترجمي الشعر حتى وصل الأمر الى توصيف ناقل القصيدة بالخائن وهي تهمة اقلّ مايقال عنها اتخذت طابع القسوة المرّة والاتهام الأكثر شراسة وصلفا&
ومع ان ترجمة الشعر فيها من المخاطر والجرأة والاقتحام بما يُشبّهها البعض انها دخول حذِرٌ في الأرض الحرام بين لغتين تتقابلان وجها لوجه في نزاعٍ يكون ضحيتهما القصيدة ، وفي الأعم الأغلب يخرج جنين الترجمة ميتا لاروح فيه في عملية إسقاط او ربما يكون النصّ الشعريّ خديجاً لم يكتمل نموّه ؛ ونادرا جدا ما يولد ذلك النص المترجم يتنفس الصعداء بعد مشاق وتعب شديدين ترافقها أوجاع مخاض وعسر ولادة ونزف دم من جسد المعنى وتشوّهات خفيفة هنا وهناك قد نستطيع تقبّلها مادام النص الشعري خرج حيّا بعد عملية أقلّ مايقال عنها انها خطيرة وقد يكون هذا المترجم الذي أرغم على قبول اقلّ التضحيات أدنى خيانةً من الشاعر الأصل الأول الذي لم يحسن صياغة اللحظة الشعرية كما خالجت فكره تماما ولم ينقل لنا تلك الشحنة التي أرجفـتْهُ وهزّت مخيلته ولا أغالي لو نعتناه بالخائن رقم / 1 بعد الخائن الثاني مترجم النصّ الشعري فكلاهما خائنان لان الشاعر لم يكن أمينا تماما على نقل اللحظة الشعرية في داخله نقلا سليما مثلما فعل المترجم الشيء ذاته ولم يوفّق ايضا في نقل المناخ الشعري بكامل طقسه ورياحه العاتية ودرجة حرارة أجواء القصيدة والحالة الشعرية التي شعر بها سواء كانت حارة ملتهبة وربما ساخنة ام باردة قد تصل الى حدّ الانجماد&
كثيرا مايخفق الشعراء وتضيق عباراتهم حينما تتوالى الرؤى الشعرية وتهطل بزخّات كثيفة وكيف له ان يجمع هذا السيل العارم من الرؤى وأنّى له الحنكة والبراعة ان يوائمها ويستدرجها لتهنأ وتنسجم مع قريناتها في لغة مطواعة ليّنة المراس وسهلة القياد وهنا تَبينُ مهارة الشاعر في نقل الحدث الى لغته بتوئدة مثل وليد نائم في مهده دون ان توقظه وتسبب تعكيرا لمزاجه ،ويحضرني هنا بيتان جميلان قرأتهما قبلا قد يجاري تلك الحالة :
أينقلُ الحرفُ رفيـفَ الضحى ---- أو سـدفة الليلِ اذا ما احتلـك
عذراً اذا جارت عليك اللغى ---- هيهات هذا الحرف لن يعدلك
ولو فشل الشاعر كان حريّا بنا ان ننعته بخائن اللحظة الشعرية&
يأتي هنا في المرتبة الثالثة في الخيانة هو المتلقي نفسه قراءةً أم إنصاتا مركّزا لا استماعا عابرا كما يحدث في محافل الشعر الصاخبة ومنابر الخطابة التي لا أغالي لو أسميناها هي زعيمة خائني الشعر وحاملة لواءها ويبقى الشعر والقصيدة ضحية هذه الألسنة النزقة المهذارة السليطة العالية الصوت وهل أكثر خيانةً من هذا الذي يجري في المهرجانات الصاخبة التي يلقى فيها الشعر وكأني بالقصيدة تمدّ عنقها لتذبح علانية أمام مريديها بسكين أعمى ولعمري ان تلك الحالة الهمجية تفوق الخيانة خزيا ووحشية&
وبعيدا عما يجري في محافل الشعر -- ولأسميها مجازر الشعر -- يقوم القارئ وحده لانتقاء مايريد ان يقرأ من تراجم منتقاة غير انه يفتقد حالة التماهي بينه وبين النص الشعري وكأنه عابر سبيل مارٌّ مرور الكرام غائب البال مع انّ عليه أن يكون أثَرِيا حاذقاً يرى في الآثار ما لايراه السائح المتعب من التجوال حتى يحلّ لغزها ويعرف مكامن جمالها وردحها النفسي والزمني وقيمتها اللغوية والغوص في أعماق جمالياتها وعالمها وتكوينها وصياغتها ولبوسها وحلّتها الجديدة عندما تترجم ، تلك اذاً هي جريرة الخائن /3&
الخائن الرابع هو الناقد ويحق القول فيه هذا التجريم لا الاتهام فكم من الحلبات رقصَ فيها الناقد وأثار استهجان مريدي الشعر وعارفيه وكم من دعوات شهادات الزور وُصِم بها ، هذا اذا أغفلنا وتجاهلنا سماتٍ اخرى اتصف بها مثل المحاباة والمعاداة واسترضاء ذلك الشاعر طمعا في حظوة او مال او الاستعداء على اخر حسَدا او ضغينة ووقع ضحية مزاجٍ عاثر ورؤى غائمة وسمعٍ ناشز وأضحى الذوق الادبي مريرا بحلْقهِ وصار النص الشعري الباهر شخابيط بقلمهِ الفاحم السواد فاختلط في اجواء نقدهِ الصحوُ والمغبرّ والضحى بالدجى والسمين بالغثّ الناحل ، ولو قيض لي لعددته أول الخائنين وأول من يقدّم ويعاقب امام مقصلة الشعر&
كأني بمثل هؤلاء النقّاد مثل طبيب تجميل لايحسن صنعته تماما فيأخذ امرأة على شيء من الجمال المطمر إلى صالة العمليات لابراز محاسنها وصقل اشراقتها لكنه يُظهرها على غير مفاتنها ويعمل فيها تشويها لتخرج بوجهٍ آخر غير طلعتها المألوفة&
هكذا تستمر الخيانة وتتواصل ويظلّ الشعر وحده هو البريء الأمين مهما نالت منه نِبالها الحادة الموجعة وهل هناك كلام أصفى واكثر سحرا من الشعر من كل الفنون الادبية لكنّ ممتهنيه يرخصونه ويدنون منزلته وهو السامي الرائق العالي الهمّة الوثّاب الى النفس ليصقلها بكلماته وصوره الفائقة الجمال&
آه كم نحزن ويصيبنا الوهن والالم والخيبة والنكوص حينما يسلخ الشعر في مجازر الكتابة والنقد والتلقِّي والترجمة الرعناء
فلترحموا عزيز فنّ وأدب أذللتموه&
&
&