حسونة المصباحي: هل ويليام شكسبير مؤلف التراجيديات الشهيرة التي لا تزال تثير اعجاب وتقدير ملايين احباء المسرح في جميع انحاء العالم شخصية حقيقية أم مجرد ممثل حصل على شهرة هائلة بفضل خيال، وعبقرية شخص آخر قد يكون خيّر أن يظلّ متخفيا عن ألأنظار، ورحل عن الدينا، ومعه رحل سرّه؟

سؤال لا ينقطع البعض عن طرحه منذ قرون عدة. والأجوبة عليه تأتي مختلفة، ومتناقضة، ومحيّرة!

فالفرنسي الكسندر دوماس مثلا ذهب الى القول إن شكسبير هو "الخالق الاكبر بعد الله". وقد أثارت هذه القولة سخط أولئك الذين يصعب عليهم أن يتقبّلوا أن الخلق الالهي يمكن أن يتجسّد في كائن بشري!وأحد هؤلاء قال: ”ليس من الممكن على الاطلاق أن يكون شكسبير الصغير الذي عرفناه في مسقط رأسه "ستراتفورد-أوبون" المنارة التي تشعّ على عالم المسرح والشعر، وعلى الفكر الكوني". وحاول بعض المؤرخين أن يثبتوا اعتمادا على أدلة تبدو غير قابلة للدحض، أن مبدع التراجيديات العظيمة، وشاعر الرباعيات الشهيرة لم يكن غير الفلسوف فرانسيس بايكون المولود عام 1561 والمتوفي عام 1626، والذي كان مستشارا مهاب الجانب، أو قد يكون الفيكونت ادوارد دي فيري، الكونت السابع عشر لأكسفورد، والذي كان مقربا جدا من الملكة اليزابيت. وقد أغوت هذه الفكرة فنانين ومفكرين كبارا من امثال شارلي شابلن،واورسن ويلز، وسيغموند فرويد، وهنري جيمس. لذلك حاول المخرج رولان ايميريش تجسيد هذه الفكرة من خلال فيلمه:”Anonymous" الذي أثار ضجة هائلة عند عرضه عام 2011. ووصف روبرت غرين شكسبير ب"الغراب الانتهزاي الذي يحبّ أن يتزيّن بريشنا"، مخفيا قلب النمر تحت جلد حرباء".

في المقابل، نجد آخرين يقدمون هم أيضا أدلة قاطعة تؤكد على أن شكسبير لا يدين لأي أحد بشيء صغيرا كان أم كبيرا. وهو عبقرية زمنه،بل هو أحد العبقريات التي عرفتها الانسانية عبر تاريخها المديد.

اخيرا أصدر البريطاني بيتر اكرويد كتابا حاول من خلاله أن يقدم أدلة ساطعة على أن شكسبير كان شخصية حقيقية، وليست مختلقة .لذا فإن التشكيك في عبقريته يصبح أمرا مثيرا للإستغراب. وعبقريته الجامحة هي التي أتاحت له أن يبتكر شخصيات رهيبة ومرعبة مثل ريتشارد الثاني، وعطيل، وماكبث، وهاملت، ويوليوس قيصر، والملك لير وغيرها.

وأبطال تراجيدياته ليسوا فقط حكاما وملوكا ونبلاء ومحاربين بل أيضا سحرة ومشعوذون وكائنات خسيسة وماكرة وجواسيس وقتلة مأجورون وعاهرات بشعات ومعتوهون ومجانين.

وتعكس تراجيدياته الداناءة البشرية، والخيانة، والدسائس والمؤامرات التي تحاك في الخفاء. كما تعكس الغيرة القاتلة وقصص الحب الفاشلة والمستحيلة والخوف من الموت.

في تراجيدياته، ينقلنا شكسبير من المدن الايطالية وهي تستقبل الفجر الوردي الى حصون بريطانيا الرمادية الكئيبة ،ومن الدانمارك الرومانسية الى حدائق "توسكانا" العطرة. وفيها نسمع صياح الديكة، ونسمع نقيق الضفادع، وهمس العشاق في الخمائل، ونحيب ألأرامل، وصراخ الجرحى، وأنات المحتضرين، ودمدمة الجبابرة لحظة السقوط المريع. باختصار &يمكن القول إن شكسبير عكس في تراجيدياته أفضل ما تميزت به تراجيديات كبار الاغريق والرومان.ورغم أن صديقه اللدود بن جونسون الذي كان من أرفع المتخصصين في اللغة اليونانية في زمنه أكد أنه لم يكن يعرف من اللغة اللاتينية الاّ القليل ، وأقل منها بالنسبة للغة اليونانية ،فإن شكسبير تمكن من أن يأتي على مؤلفات اوفيد وأسخيلوس ، وسوفوقليبس، وأريستوفان ، واوريبيدوس ، وبلوتوس ،وسيناك وغيرهم.

ولد شكسبير في "ستاتفورد-اوبزن "عام1564.وكان في الثامنة من عمره لمّا آلتحق ب"المدرسة الملكية الجديدة" بعد أن كان قد تعلم مبادئ القراءة والكتابة في المدرسة الابتدائية.وفي فترة الطفولة كان يميل الى الاستماع الى أهله يروون أساطير الجن وأغوال الغابات المظلمة، وقصص الساحرات ، والمغامرين في البحار. كما كان يحب أن يستمع الى اساتذته يقرؤون على مسامع التلاميذ مقاطع من مسرحيات اغريقية ورومانية.&

ويشير المؤرخون الى أنّ الطفل ويليام كان في الخامسة من عمره لما شاهد برفقة والده عرضا مسرحيّا في المدينة قدمته فرقة جاءت من لندن. وفي نهاية العرض، وقف الجمهور ليدعو للملكة بطول العمر، ثم تعالت الهتافات من جميع انحاء القاعة للتعبير عن اعجاب المتفرجين بالمسرحية. ومنذ ذلك اليوم، دأب الطفل ويليام على مشاهدة كل العروض الفرجوية التي تقدم في المدينة بين وقت وآخر.

عند بلوغه سنّ الثامنة عشرة، اكتسب ويليام ملامح فتى نبيل ووسيم فتعلقت به فتاة تدعى آن هاتاوي كانت تكبره بثمانية اعوام. ورغم ذلك تزوجها بعد أن وافقت عائلته على ذلك.

في تلك الفترة، كانت بريطانيا تعيش نزاعات دينية. فقد قام البابا بفصل الملكة اليزابيت عن الكنيسة. وكان اليسوعيون يجوبون البلاد لحث الناس على الثورة. وقد يكون والد ويليام تعاطف مع المتمردين لذا فقد البعض من امتيازاته، غير انه ظل محتفظا بحسه التجاري، وبقدرته الفائقة على تدبير شؤون عائلته. وأما ويليام فقد آزداد تعلقا بالكتب، وبالمسرح. ولم يكن يغفل عن حضور العروض، بل قد يكون شرع يفكر في الانتماء الى عالم المسرح بصفة فعلية. وعندما بلغه أن الفرق المسرحية في لندن تشهد نموا متسارعا، وأن عشاق المسرح يزدادون عددا، ترك مسقط رأسه وآنطلق الى المدينة الكبيرة ليبدأ مسيرته الحقيقية في عالم الفن الرابع. وها هو في حيّ "سوريدايش" الذي يتجمع في حاناته مشاهير كتاب المسرح من امثال كريستوفر مارلو الذي كان قد لمع نجمه بعد عرض مسرحيته عن الطاغية تيمور لنك، وتوماس كايد صاحب مسرحية "التراجيديا الاسبانية"، وبن جونسون الذي كان يستهويه أن يستعرض معرفته بالتراجيديات الاغريقية التي كان قد التهمها مبكرا. ورغم أنه كان قد بدأ يتمتع بشيء من الاعتراف في الأوساط المسرحية بعد أن كتب بعض المسرحيات، فإن &شكسبير كان يراقب ما يجري من حوله في صمت، وبكثيرمن الحذر. ونادرا ما كان يكشف عن أفكاره. ولم يكن يتخلى عن تحفظه الاّ عندما يكون بين الممثلين الذين كانوا يحبونه لأنه كان يتعامل معهم وكأنه واحد منهم. وفي ليلة من الليالي عاد الى بيته بعد سهرة صاخبة، وفي الحين شرع في الكتابة عازما هذه المرة على أن يكون الافضل، والاشهر في المدينة الكبيرة. وها المسرحيات تتابع وتتلاحق.وها الجمهور يتسع ويكبر يوما بعد آخر.وها الحساد والاعداء &يتكاثرون، ويصبحون فظين وشرسين. حتى الذي كانوا يكنّون له الود في البداية، بدأوا يكيدون له، ويخططون لضربه الضربة المميتة. مع ذلك، ظلّ شكسبير الذي بات يحظى باحترام &وتقدير أهل السلطة والنفوذ محافظا على رباطة جأشه، وعلى سرعته ومهارته المدهشة في ابتكار الشخصيات والعوالم السحرية كما لم يفعل احد من قبله أبدا. ومن وحي التاريخ القديم والحديث كان يستمد موضوعاته. لذلك كان المتفرجون يزدادون تعلقا به لأنه يمنحهم فرصة قراءة ماضيهم وحاضرهم من خلال ما يبدع من مسرحيات كانت تنفذ بسرعة عند صدورها في كتب. وفي الجامعات المرموقة، كان الطلبة يتماهون مع أبطاله، مرددين مقاطع من مسرحياته، ومن رباعياته الشعريه مظهرين شغفا خاصا بجملة هاملت الشهيرة:”To be or not to be" وعندما اتسعت &شهرته، وحصل على ما يبتغيه من الجاه والثروة، قام شكسبير بانشاء مسرح خاص به وحده. وبعد وفاة الملكة اليزابيت عام 1601، قرر الملك جاك الاول أن يتكفل برعاية الفرقة التي يشرف عليها شكسبير. وهكذا أصبحت هذه الفرقة تقضي اوقاتا طويلة قد تمتد الى أسابيع &أو الى أشهر في القصر الملكي، وهي التي ساهمت في الاحتفال الضخم الذي أقيم احتفاء بعودة ابن الملكة ماري ستيوارت. وكانت مسرحية "عطيل" من أشهر المسرحيات التي عرضت أمام الملك جاك الاول وزوجته الدانماركية التي كانت مغرمة بالمسرح اكثر من الملكة اليزابيت.

كان شكسبير في أوج مجده وشهرته لما قرر ترك لندن نهائيا ليعود الى مسقط رأسه. ورغم أنه كان انذاك في السابعة والأربعين من عمره، فإنه كان يشعر بأنه أصبح عجوزا، وبالتالي لن يقدر على مواصلة مغامرته المثيرة في مجال المسرح والشعر. وقد أمضى السنوات ألأخيرة من حياته في هدوء وسكينة روحية.وكان يقضي أوقاته مستعرضا في صمت وحدته ذكريات الماضي البعيد، وصورة والده، وآبنه الذي مات وهو صغير، وأيام وليالي لندن في البداية والنهاية. كما أنه حرص على أن ينآى بنفسه عن كل ما كان يشغل الناس في مسقط رأسه.وظل محافظا على هذا النسق الى أن توفي في الثالث والعشرين من (ابريل) نيسان 1616.&

&