ترجمة حسّونة المصباحي:&في الثاني عشر من شهر سبتتمبر 1981،توفي الشاعر الإيطالي الكبير اوجينيو مونتالي قبل شهر من آحتفاله بعد ميلاده الخامس والثمانين.وفي الرابع عشر من نفس الشهر والسنة،أقيمت له جنازة رسميّة في مدينة ميلانو أشرف عليها أسقف المدينة،وحضرها رئيس الجمهورية ساندرو بارتيني،وسبادوليمي،رئيس مجلس الشيوخ.كما حضرها آلاف من الشبان والشابات بينهم طلبة،وشعراء .وقد تأثر مونتالي كثيرا بدانتي وعنه كان يقول:”أمام دانتي لا يوجد شعراء آخرون".كما كان معجبا بشكسبير ،وببورخيس ،وبإيطالو سفيفو الذي تبادل معه رسائل كثيرة نشرت في مجلد ضخم لتكون شهادة على جيل ،وعلى عصر.وخلال مسيرته تعرف مونتالي على مشاهير الشعراء والكتاب الإيطاليين والأجانب من امثال اونغراتي،وكازيمودو،ورني شار،واودن،وت.س.اليوت،والبير كامو،واندريه مالرو وويليام فوكنر ،وآخرين.وفي عام 1948، زار اوجينيو مونتالي بيروت ودمشق وتدمر وطرابلس مصحوبا بجوليان هكسلي ،شقيق الكاتب الشهير الدوس هكسلي ،والمدير العام لمنظمة اليونسكو آنذاك ...
&
وقد توجت أعمال اوجينيو مونتالي الشعرية بجائزة نوبل للآداب عام 1975.
&
ولم يكن اوجينيو مونتالي يعير آ هتماما كبيرا للمشاهد الطبيعية كما هو الحال بالنسبة للشعراء الرومانسيين.كما انه لم ينشغل بالقضايا الكبيرة سياسية كانت أم فلسفية أم غير ذلك.لكنه كان يحب أن يكتب عن طفولة ضائعة ،أو عن وردة ذابلة،أو عن أرنب مذبوح،وأو عن صورة باهتة وجدها بين اوراقه لتثير في نفسه ذكريات قديمة عن زمن ولّى،وعن أصدقاء رحلوا،أو آختفوا من دون أن يخلفوا أثرا...
&
هنا ترجمة لخمس من قصائده...
&

-1:نهاية الطفولة

هادرا يغوّر في الضفّة المقوّسة

بحر مختلج ،مُسطّر بأخاديد ،

مجعّدا،ونديفا بالزبد .

بمواجهة مصبّ

سيل فائض

الموج كان يَصْفرّ.

في عرض البحر تتموج طحالب متشابكة

وجذوع أشجار يجرفها التيار.


في الخليج المُضيف

للشاطئ ،

فقط بعض المنازل

من الآجر القديم ،أرجوانيّة،

والشعر النادر

لشجر الطرفاء الذي يزداد شحوبا ساعة بعد ساعة

مخلوقات منحرفة المزاج

ضائعة في هلع الرؤى .

لم يكن من السهل

أن يُنْظر اليه من قبل من كان يقرأ

في الظواهر المشتبه فيها

موسيقى الروح تقلق من لا يتخذ قرارا.


هضاب رائقة تحيط

بالشاطئ وبالمنازل

مغطاة بأشجار زيتون متفرقة مثل قطعان

أو دقيقة مثل دخان ضيعة صغيرة

منتصبا مثل شراع

في مواجهة الوجه الأبيض للسماء .

بين بقع عنب وغابات صنوبر

تظهر كتلة الأحجار

عارية وصلبها محدّب

بالسكاكين:عندما يمرّ رجل من هناك ،مستقيما على ظهر بغله ،

في السماء الزرقاء ا النظيفة سيظل مطبوعا

الى الأبد-في الذاكرة.


نحن لا نذهب ابدا الى القمم القريبة جدا

للجبال .حتى ذاكرتي المتعبة

لا تجرؤ على آجتيازها.

أعلم أن هناك طرقات كانت تركض فوق الحفر المحصورة

وبين العوْسج الذي يصعب آجتثاثه

تقود الى فرجات غابات ،ثم بين الوهاد ،

هي تبتعد بآتجاه زوايا مُخبأة رطبة من العفن ،

مغطاة بالظلال وبالصمت .

ثمة واحدة أفكر فيها مبتهجا ،

فيها كل آنطلاقة بشريّة

تظهر مخبأة

في نسيم له ألف عام

نادرا ما تنفذ هبة ريح

الى زاوية العالم تلك

والتي تبقى منذهلة من ذلك.


غير أننا كنّا نعود من طرقات الجبال

وكانت هي تنفتح على سلسلة

غير مستقرة من المظاهر المجهولة

لكن النغم التي يتحكم فيها كان يفلت منّا.

كل دقيقة كانت تحترق

في اللحظات المستقبلية من دون أن تترك أثرا.

أن نعيش كان بمثابة مغامرة جديدة للغاية،

ساعة إثر ساعة ،والقلب يدقّ ،

ولم تكن هناك قاعدة

ولا أخدودا ثابتا ولا نقطة مقارنة

للتمييز بين الفرح والحزن.

لكن أثناء العودة بين الدروب

بآتجاه منزل على البحر،بآتجاه

الملجأ المغلق لطفولتنا الذاهلة ،

سريعا يجيب

في كل حركة للروح تواطؤ خارجي :الأشياء تلبس

أسماء ،وعالمنا يصبح له مركز.


كنّا في تلك السنّ التي تسبق البلوغ

حيث السحب لم تكن لا أعدادا ولا إشارات

لكنها أخوات جميلات ننظر اليها وهي تسافر.

منحدرة من بذرة أخرى،

مغذّاة من نسغ آخر،

ليس نسغنا ،

اكثر ضعفا ،كانت تبدو لنا الطبيعة .

فيها الملجأ،وفيها

النظرة المنتشية ،هي المعجزة

التي لم تحلم ،أو لم تحلم أبدا ،ببلوغ

روحنا المملوءة باللبس والحيرة.

كنّا في سنّ الاوهام.


وطارت السنوات قصيرة مثل الأيام ،كل يقين غرق في بحر مزهر

ونهم كان يمنح مستقبلا مظهرها المريب لشجر الطلحاء المرتجف .وكان على فجر أن ينبثق مثل

شعاع نور على عتبة

مضيئة ليعلن عنّا مثل مطْرَة،وبالتأكيد

نحن هرعنا لنفتح الباب

الذي يصرّ على حصى الحديقة .

الوهم كان واضحا .

سحب ثقيلة ،على البحر المضطرب،تغلي بالرذاذ ،سرعان ما ظهرت.

في الهواء كان آنتظار

الحدث العنيف .هو يبتعد أيضا مرتع الطفولة الذي

يستكشف

باحة آختيرت كما لو انها عالم!

بالنسبة لنا نحن يأتي أيضا زمن التحقيقات .

الطفولة ماتت في دوريّة.


آه أن نلعب لعبة آكلي لحم البشر في القصب ،

أن تكون لنا شوارب من النخيل،وأن نلتقط،يا لها من متعة،الكبسولات المطلقة !

إنها تطير سنوات الطفولة الجميلة ،مثل المراكب الصغيرة على سطح البحر ،بكل أشرعتها.

بالتأكيد نحن ننظر صامتين في آنتظار

اللحظة العنيفة ،

ثم في الصمت المزعوم

على الماء الذي يحفر

كان لا بد ان ترتفع ريح.


-2:الأموات

متكسّرا على الشاطئ الذي يرتفع

يثير البحر دوّامة من الزبد

يمتصه الأتساع .هناك

ألقينا ذات يوم على الساحل المعدنيّ ،

أشدّ لهاثا من الموج،أملنا!-والهوة العقيمة آخضرت

مثلما في الأيام التي رأتنا فيها أحياء.


في الساعة التي فيها ريح الشمال تسطّح الدوّامات المضطربة

للتيارات المالحة ثم تعيدها الى

حيث أنبثقت ،ليس بعيدا البعض يعلقون

على غصون المُنْسَغات خيوطا تمتدّ

على الطريق الذي ينحدر

الى ما وراء البصر .

خيوط باهتة اللألوان تجففها الملامسة المرتخية

والباردة للنور.وكثيف فوقها،

بلور السماء الأزرق الذي يرقص

ثم يسقط في قوس الأفق

المُسَاط .

أكثر من الطحلب المجرور في

الغليان الذي ينكشف لنا،حياتنا

مُحرّكة من قبل جمود مماثل ،يدور

فينا كل ما هو،خاضعا الى نهاياته،توقف ذات يوم

بين الخيوط التي تربط الغصن بالآخر يتخبط القلب

مثلما في البحر

الجرانتيّة التي تنقلب جانبا بين الخيوط

وساكنين،تائهين ،يشدّنا ثبات مجمّد؟

هكذا

للأموات ليس مسموحا أيضا بأي آستراحة ربما في الحقل:ثمة قوة منه تجتثهم ،

أشد قسوة من الحياة ،وخلال ذلك ،

أشباحا تؤلمها الذكريات الإنسانية،

تدفع بهم حتى الى تلك الشواطئ ،أنفاسا

من دون مادة ولا صوت

خانتها الظلمات ،طيرانها المعاق يلامسنا راهنا،

بالكاد أنفصلت عنّا، وفي منخل البحر تغرق.


-3:سوريا

بحسب أقوال الشعراء القدماء الشعر

يرفعنا الى الله.ربما ليس هكذا

كما أنت تقرؤني.لكنني عرفت ذلك في اليوم

الذي فيه عثرت من جديد على الصوت،ذائبا

في قطيع من السحب والماعز

ينزل تَلْعَة لكي يرعى زبد

الأشواك والأسل ،والوجهان الضامران

للشمس والقمر يختلطان ،

كانت السيارة قد تعطّلت وسَهْم من

الدّم على صخرة كان يشير

الى طريق حلب.
&

-4:في 38


كنّا بضعة أصدقاء

في الإحتفال الذي يعقب "الباليو"

وكنّا قد توقفنا لكي نأخذ صورا للإستعمال .

لا زلت أحتفظ بواحدة ،صفراء وسخة ،تكاد تكون قطعا ممزقة ،

لكن هناك وجهك الرائع والمدهش .

كان ذلك في 38.

وقد قيل في ما بعد

أنك آنحرفت "الى اليسار"

إلاّ أن الخبر لم يفاجئني

إذ كنت أعلم أن الكائن

ليس له آراء أو له آراء كثيرة

بحسب نزواته

والذي ليس بآستطاعته متابعتها

يكون ملاحقا بسببها.

كان ذلك في 38.


-5:التاريخ

-1

التاريخ لا يحدث مثل سلسلة من الحلقات التي لا تتوقف.

مهما يكن

ثمة حلقات لا تنشدّ الى أخرى .

التاريخ لا يحتوي

لا على ما هو قبل

ولا على ما هو بعد:لاشي فيه يخرّ

على نار هادئة .

التاريخ لم يُصْنع من

قبل من فيه يفكر،ولا حتى

من قبل الذي يجهله.التاريخ

لا يشقّ طريقه ،هو يعاند،

يمقت القليل القليل ،وهو لا يتقدم،

ولا يتأخر ،هو يغيّر السكة ،

ووجهته ليس مشارا اليها

في جدول الأوقات.

التاريخ لا يبرهن،

ولا هو يتأسف أسفا شديدا ،

التاريخ ليس داخليا ،

بما أن في الخارج ،التاريخ لايدير

لا مداعبات ولا ضربات سياط .

التاريخ لا يعلمنا

شيئا يخصّنا.

والوعي بذلك لا يفترض أن

نجعله أكثر حقيقية أو اكثر عدلا.

2

والتاريخ ليس

الجرّافة المدمرة كما يقال .

هو يترك أقبية،ومدافن،ومخابئ،وتجاويف.البعض يظلون على قيد الحياة .

بل أن التاريخ يكون متسامحا وعطوفا :هو يدمر

كل ما بإمكانه أن يدمره :وإذا ما بالغ ،بالتأكيد

يكون هذا أفضل ،إلاّ أن التاريخ ،محروما من الأخبار ،لا يستطيع أن يكمل كل اعماله الثّأرية.


التاريخ يحكّ العمق

كما لو أنه يجرّ شبكة صيده

ممزقة هنا وهناك -أكثر من سمكة تفرّ منها.

أحيانا نلتقي الطبقة الهيولى البرّانيّة

لسمكة ناجية : هي لا تبدو سعيدة بصفة خاصة .

هي تجهل انها في الخارج،ولا أحد اعلمها بذلك.

السمكات الأخريات ساقطات في الشبكة ،تعتقد

أنها أكثر حرية منها.

&