في كتابه "لقاء"،أعاد الروائي التشيكي الكبير ميلان كونديرا الإعتبار الى الكاتب الفرنسي الكبير أناتول فرانس(1844-1924) ، ظلّ على مدى عقود مديدة ضحيّة للإهمال والنسيان.ويشير صاحب "خفة الكائن اتي لا تحتمل " الى أن تقديره لأناتول فرانس الذي لعنه السورياليون ،ونعته اندريه بروتون ب"الجثّة المتعفنة" يعود الى انه ساعده من خلال روايته "الآلهة عطشى" على فهم ألاعيب النظام الشيوعي الذي حكم بلاده من نهاية الحرب الوطنية الثانية وحتى آنهيار جدار برلين في خريف عام 1989.
&
وينتمي اناتول فرانس الى عائلة متوسطة الحال من قرية صغيرة على ضفاف نهر" اللوار".وعند آنتقال العائلة الى باريس،فتح والده مكتبة في رصيف"مالاكي" متخصصة في الكتب والوثائق المتصلة بالثورة الفرنسية.وفي سنوات الشباب الأولى،تأثر أناتول فرانس بالشاعر لوكونت دو ليل ،الذي كان يتزعم تيّار "البارناسيّة"،وكتب قصائد من وحي حبه للمثلة الجميلة اليز ديفويد غير أنها صدته عنها ليعيش بعد ذلك خيبة قاسية ظلت لسنوات مديدة بمثابة الجرح في لقلب والروح.مع ذلك واصل الكتابة بحماس ليصدر عام 1888 رواية بعنوان:”جريمة سيفاستر بونّار" التي خولت له الحصول على شهرة واسعة.وآبتداء من ذلك الوقت،أصبح يعدّ واحدا من أهمّ كتاب "الجمهورية الثالثة".وفي بداية القرن العشرين،ناصر الزعيم الإشترااكي جان جوريس الذي آغتيل عشية الحرب الكونية الثانية،مطالبا مثله بضرورة فصل الدولة عن الدين..وفي بداية آندلاع الحرب المذكورة،كتب العديد من المقالات المناصرة لوطنه،غير أنه سرعان ما تراجع عن ذلك لينضم الى المناهضين لتلك الحرب"القذرة"قائلا:”هذه الحرب ليست للدفاع عن الوطن،وإنما لخدمة مصالح البورجوازيّة الصناعيّة".
&
وفي مجمل كتاباته كان أناتول فرناس متأثرا منذ البداية بكبار الكلاسيكيين الفرنسيين مثل فولتير وروسو وديدرو وفلوبير وروشفكو ومونتاني.كما أنه كان منجذبا الى حد كبير لفلاسفة الأنوار ،وبأفكارهم سوف يستعين للدفاع عن القضايا الانسانية الكبيرة،والرد على الرجعيين والمحافظين الذين كانوا يشنون عليه هجومات عنيفة عقب كل اصدار جديد.ولعل روايته"الآلهة عطشى" التي يعتبرها جل النقاد اهمّ اثر تركه ،والتي آنتقد فيها الارهاب الفكريّ الذي شاع خلال الثورة الفرنسية،وبعدها من أفضل الأعمال ألأدبية التي تنبأت بفشل الثورات التي شهدها القرن العشرون.وفيها رسم المصير الفاجع لرسام يتحمس للثورة،ويصبح من انصارها المخلصين غير انه يكون في النهاية من ضحاياها،ومع آخرين يشنق في الساحة العامة بتهمة خيانة الثورة!ولم يكن يتردد اناتول فرانس في التدخل في الأحداث السياسية في بلاده ،وفي آنتقاد الأحزاب والقادة السياسيين الكبار.والى جانب اميل زولا ،كان من المدافعين الشرسين عن الضابط اليهودي دريفوس الذي حوكم بتهمة الخيانة الوطنية.كما أنه وقف للدفاع بآستماتة عن العديد من القضايا العادلة الأخرى.وبسب الشهرة العالمية الواسعة التي حظي بها،حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1922،وآنتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية.وعند وفاته عام 1924،شيّعه الى مثواه الأخير آلاف من الفرنسيين تماما مثلما كان الحال بالنسبة لفيكتور هيغو.لكن عقب وفاته بسنوات قليلة ،شرع الحداثيون في التشنيع به،وفي شنّ هوجمات عليه وعلى مواقفه معتبرين أعماله غير لائقة بالعصر الحديث.وعندما آنتخب بول فاليري مكانه عضوا في الأكاديمية الفرنسية ،تحاشى ذكر آسمه في الخطاب الذي ألقاه في تلك المناسبة ،وتعامل معه كما لو أنه غير موجود في تاريخ الأدب الفرنسي!
&
وبعد أن اعاد اليه ميلان كونديرا الاعتبار ،قامت دور النشر الفرنسية بإعادة طبع مجمل اعماله مولية آهتماما خاصا بروايته "الآلهة عطشى" التي آحتفت بها وسائل الاعلام آحتفاء هائلا.وقد يعود ذلك الى أن التاريخ أثبت بالأدلة القاطعة أن الثورات ،جلّ الثورات العنيفة منها بالخصوص،سرعان ما تنحرف عن الأهداف النبيلة التي قامت من أجلها ،لتتحول الى سلسلة من الكوابيس المرعبة ،وليركبها الإنتهازيون ،ولصوص الإيديولوجيات الرماديّة لخدمة مصالحهم الخاصة،ونواياهم السيئة .وهذا ما حدث مع الثورة البلشفية،أول ثورة في القرن العشرين،وجل الثورات التي أعقبتها.وهذا ما حدث أيضا في ما سمي ب"ثورات الربيع العربي".وكان اناتول فرانس يقول :”عندما نريد أن يكون كل الناس طيبين ومعتدلين وسمحين وعاقلين ،فإننا نكون قد آستدرجنا انفسنا حتميّا الى قتلهم جميعا!”.ومعنى هذا انه كان قد ادرك قبل اندريه جيد أن الأدب الحقيقي والأصيل لا يصنع من العواطف النبيلة ،وأن الدعوة الراديكالية الى الخير لها نفس الضرر الذي يكون للدعوة الى الشر!
&