&في الشهر المقبل باذن الله سوف اعيد طباعة رواية "ينزلون من الرحبة" التي مر على كتابتها 12 عاما.&

حين قرأتها بعد تلك السنوات للمرة الأولى فوجئت بالقدرة وبالطاقة الروحية التي فيها ...كيف قدر لي أن أكتب مثل هذا العمل، لا أدري!&
لم يكن هدفي أن أكتب عملا معقدا مركبا بهذا الشكل، وأنا أكتبه كنت أظنه عمل سهل بسيط.
من لا يستطع التعرف على الهارموني التي في الرواية من الصفحات الأولى فستغلق أبوابها في وجهه ولا يجد بدا من القائها في اقرب سلة مهملات.
هذه الراوية تريد قارئا جادا، لأن العلاقة مع العمل هي علاقة عكسية أي أن القارئ هو الذي يستولدها...
قرأتها كناقد او قارئ، وهنا يحسن لي أن أتمهل ولا أضع رأيي النهائي فيها حتى أنهي قراءتها.....
سأوضح المغاليق والأقفال التي فيها من وقت الى آخر وسأجعلها متوفرة في ملف بي دي اف للجميع.&
هنا احد الفصول الهامة في الرواية وفيه نجد التزامن النفسي أو التوافق الهارموني بين بطل الرواية صوفي وبين الجد الاول سنان وتوضيح من هو سنان الذي شبهه احد النقاد بآدم ....حين كتبت هذه الرواية لم اضع في ذهني مطابقة الاساطير وفلان هو ادم وفلانة هي حواء ، كتبتها بروح اعتمدت على التأمل الخالي من الثقافة والتثاقف. وأعتقد أن إحالتها الى الاساطير هو ضعف نقدي وإشارة الى خلو النقد من الفكر.
في هذا الفصل العام 1980 يخشى البطل من القبض عليه من قبل قوات الأمن الذين ينتظرونه في سكنه الجامعي...ثم عملية تهريبه الى حي الميدان في مدينة حلب....ولمحة عن قصة نزول سنان الى البئر للتخلص من الحب الذي شل عقله...احدى بطلات الرواية هي زهرة الحاج سلطان التي قابلها صوفي في بلدته حين كان مراهقا لكنها في كل خطوة هي معه في كل مكان يصل إليه...البحث عن الحب هي تيمة العمل ايضا...
بالطبع سيكون الفصل غامضا في الفقرات التي تشير الى فصول أخرى وتوضح مناح فيها.&
الرواية جاءت من 45 فصل وهنا&

فصل 33:
الشعور والقدرة والروح التي تخللت سنان جعلته يغير خطته. لن يصعد إلى السطح بل سيبقى في باطن البئر يكشف العالم الجديد. أحس أن الدنيا القديمة تنحدر من بين أصابعه انحدار الماء. التفت إلى الرجل الثعبان وقال له أصعد، اليوم هو يومك، اصعد كي يطمئن الأهل والأحباب، قل لهم إنك سنان.
في أعماق الظلمات طفق ينقب عن بذرة الحياة الجديدة. أحس بالوقع الذي كان يعانيه فيما سبق: مساكين الناس، حتى الفرح لديهم هو حزن وخراب. إنها ليست فلسفة وتصوف بل هي حقيقة العالم الذي على السطح.&
رفعت عيني نحو الطريق الصاعدة إلى السكن الجامعي، كان الناس ينتظرون وصولي. مدير السكن جالس مع الجماعة على الرصيف. لوحة يرسمها في الأعالي لؤي كيالي عن الجالسين في إنتظار طالب جامعي. سنان يضع يده على ذقنه ويسرح مع أفكاره الجديدة. رأسه مشبع بعبق لا يعرف طعمه. رأى كيف يمثل الرجل الحية صعوده إلى سطح البئر. إنه يجيد التقليد. وهو قد غاب في بئر شمر تتبعه الظلمات.&
(كنت أحاول أن أدرك المساحة التي يتحرك فيها سنان والرجل الحية وأناس السطح لكنني وجدتها لا تُدرك.)&
بعد الجهد الذي قدمته أسندت رأسي للاستراحة وشرب الماء ورؤية الجداول والطيور. كانت المشاهد مشاهد موسيقى مع ألحان لم أسمع مثلها من قبل.&
النوم على أمل الإستيقاظ بعد إستعادة القوى.&
ليس بسبب التعب والإجهاد بل بسبب الصدمة الجديدة التي خلقت عالما غير مألوف- حساب الحلم. لم يصدق سنان أنه أمام هذا الكم من الخلق الغريب. كان الزمان أو النبض الخارجي هو موسيقى، لم يكن ساعة وشمسا. في الليل تصمت معزوفة الوقت ويعرف الناس عندها أن النوم قد حان. المحيط الذي حوله مقيد بالحركة وبالاحاسيس إلى خطوط الموسيقى المسموعة تلك. أمامه شواقة. المرأة البدوية الملثمة ونار وشجرة نخيل عارمة ميساء ينحني جذعها لارتفاعها الشاهق. المرأة هنا نار، تطوقها سيوف وترداد لصوت بشري يناغم الموسيقى: شواقة هه هه، شواقة هه هه. ميساء تدور ملثمة حول النخلة على علامات الموسيقى ويدور الرجال حولها. ظن أنهم يرقصون معها رقصة النخيل لكن حين أمعن في الأمر وجد الرقص هو تجسيد آخر لما يسمعه. لا يقفون لأن طبيعة هذا الزمان الغريب لا تسمح لهم به، مادامت المعزوفة قائمة فهم يدورون ويرددون تعزيمة واحدة (شواقة هه هه، شواقة هه هه). الموسيقى هي التي ترقص وليس الرجال، وليست البدوية حول الشجرة العارمة، بل الزمان. نظر إلى مصدر الموسيقى فوجده قادما من باطن الأرض، من قلبها، مع ثيلان النار والشظى والحب والفن فتذكر زهرة، لماذا تحرق جسدها. حرقت مؤقه عبرات الحب الأزلي التي عاناها بينما كان يسير في الشوارع يتبع خطوات زهره الخابورية تنشر فساتينها في الشارع الخلفي لشارعهم وتبتسم للخيال الذي تفعله الشمس حين يمر بالقرب منها هائما، خيالا لا جسدا يبحث عن امرأة.&
حين كنت أطرق باب أهل المطقطق نظرت نحوي مبتسمة وثوبها نصف ركبة وجسدها هالة حسبته هدية الشظى، واقفة عند الباب تهمس قائلة: تريد محمد، هلأ ما بيطلع لنحو ساعة وي! ثم رقصت رقصة وهي تستدير إلى حوش المنزل.
لم يكن حبا. هل رأيت يا سنان الهالة الراقصة؟! لم يكن حبا لأنني لم أمر بها سوى مرتين وكانت هي ( It ) منحة لزيارة الطيبين والأهل الصالحين في قاع الموسيقى حول الشجرة العارمة. ضوء قمر يرسل شبه غناء لرقص، لأول الرقص حين بدا العالم وظهر.&
تلك الثواني لم تكن ثوان زمنية بل كانت موسيقية لحساب زمن قاع البئر، بئر شمر وسنان يحدق بعد الإستيقاظ بعد أن نسى أهله ونسى طعم الهيل. صاحبة قهوة الهيل التي ودعها يصعد الآن نحوها رجل الحية كي يعقد عليها في اليوم التالي. تضحك خود وهي تدلل جنينها يا جنيني أسميك مدّاد الذي سيضيع في البراري الغربية.&
الحب الذي كان يريده من الفتاتين لا قيمة له أمام شواقة ودرب النخيل والرقص.&
مرت سيارة طوني حنا بشروالها القديم ساكتة محنية عند صلاة الصبح أسمع التكبير من (جامع الفرقان) ... التكبير الكهربائي خافتا واهٍ كأن التكبير إطفاء. ترتعد مفاصلي وأنا أصعد نحو الوحدة السكنية الغرفة المدير التعب وكل من ينتظر قدومي.&
سنارة غزل لعقد الليل مع الضوء الخافت في حوالي العام 1980 والأحياء حول السكن الجامعي تمد لها يد الشغل.&
في مكاني درجة الحرارةهي 72 فهرنهايت والساعة تجاوزت العاشرة والربع. كم هي عدد المرات التي يمر فيها العالم بالعاشرة والربع ليلا عند الدرجة 72؟ تكرار للزمان الأرضي العاشرة والربع ليلا. ما هي عدد المرات التي يمر العالم فيها بتلك الساعة وبتلك الدرجة، ليست تلك الساعة بل تلك اللحظة: تك عند بداية خلق تلك اللحظة الدرجة. العاشرة والربع ليلا خُلقت في سبعة أيام!&
هذا بيّن!
أخرت خطواتي قليلا إلى الوراء كي لا تراني عيون (هذا بيّن).&
الكهرباء التي مرت في جسدي هي كهرباء عمودية. بئر. أدركت أن مصيري محتوم، لا ثمة محاولة للهرب. سأكون مع الناس الذين ساقهم الزمان دراجة أمامه.&
توقفتُ للحظة موسيقية على رصيفي الذي لا يبعد كثيرا عن مكان الرجال الذين عقدوا سحناتهم ينتظرون وصولي. أتأمل. من الذي سينقذني من هذه الورطة؟ لو أنهم أحسوا بحجم الخوف الذي وقع علي لتركوني أمضي وشأني. لم يعد هناك فسحة لمتابعة سنان. هو الآن منشغل بلحظة الكشف وبالعالم الجديد. كان علي منذ بداية الخطوة الأولى أن أفتح عينيّ على الطريق كي أرى الذي يدور حوالي وبالتالي أخطط للهروب. لكن حتى إن فعلت هذا فإن المكان الفسيح... أراضي السكن برار ٍمفتوحة لا مقدرة لي على الهرب فيها. سيتبعونني وسيصطادون الطير برمية حجر. فما الذي سأفعله؟ هل ستكون نهايتي كنهاية مدّاد في براريه؟ الفرق هو أنه كان مطاردا بالسحر بينما اليوم أطارد بالرجال الواقفين بالمرصاد. سحر وشعوذة البراري التي تخلق صورها وتغيرها مع تغير العصور. فكرت في الفرق الذي بيني وبين مدّاد: لقد رحل إلى البراري من أجل حبيبته هجع، كان مكشوفا، كما هو أمر محمد المطقطق... بينما أقع أنا بين الأقدام من دون حب وحبيبة، من دون هالة كشف. على الأقل كان مدّاد في لحظاته الأخيرة راضيا مطمئنا، الموت من أجل حبيب سكينة، لا يقارب الموت من أجل لا شيء. كنت أريد أن أشرح لهم مدى فقري وعذابي. أن أبين الفرق لكن لم يكن هناك وقت.
شروال جدك يا جدي توقفتْ.
قبل أن تتوقفْ جاءني إلهام رطب. تذكري لمدّاد وضياعه في البراري جعل رطب يحضر.&
هذه السيارة الطالعة النازلة وحسبتها سكرانة ترقص على موسيقى طوني حنا! كان فيها معنى.&
زحطت عندي، على رصيفي، قال أحدهم يسأل: أنت من يبحثون عنه؟ ولم ينتظر جوابي، جرني إلى الداخل وخلف وراءه غمامة ضياع.&
دخلتْ في الحارات، عبرتْ شوارع حي الشهباء. أستدارت إلى ناحية كان فيها ثلاث سيارت أخرى بالإنتظار. اختلطت السيارات وضعنا بلمحة بصر. لم يعد الرجال الصابرون المنتظرون يعرفون وجه المطلوب. لقد اخطأوا وجهتنا وشتت ضوء السيارات الباهر صوابهم، غضب أحدهم وطلب بصوته أن تقف السيارات. تقف صفا وراء بعضها البعض للتفتيش والبحث.&
كنا قد قطعنا آنئذاك مسافة عنهم، ورحنا ندور على مهل في حي الميدان.&
هذه حلب الميدان في الليل مستلقية نائمة تنضح بالبخور. تعبق الشوارع بالزمان. لا نكاد نعبر شارع أو زاوية حتى يظهر لنا أنه على هيئة أنس. زمان لابسا قناع المكان.&
مضت السيارة على مهل وكنت قد أسترجعت أنفاسي. رحت أسأل نفسي عن الذين في هذه السيارة. لم يتكلم أي منهم. ظلوا يراقبون الطريق بيقظة وحذر حتى توقفت السيارة عند مبنى من أربعة طوابق. طلب مني الذي جرني من الصعود وحدي على مهل إلى شقة (الحاج أبو محمد المزعل) في الطابق الثالث. ثم ودعوني مبتعدين. لا أعرف من هو الحاج ولا أعرف ماذا ينتظرني في الطابق الثالث. وقفت عند المدخل ثم دلفت في البهو أفكر بأقدار البراري.&
أنا أصعد ورجل الحية يصعد بينما يبقى سنان الأصلي نازلا في مكانه. البئر. ممر سلالم الطوابق ضيقة لا فسحة فيها للتأمل. أكاد أشم رائحة البهو الرطب- القهوة البرية- السلالم تحمل انطباع الإنتظار الذي خلفه أبو محمد المزعل في حجَره، حجر السلالم. لقد مرت أقدامه فوق هذا البلوك المسقى بالبيتون آلاف المرات. كأنني أعرف كنه هذه الدرجات الأبو محمدية الصاعدة، ففيها، في مثقال كل منها، هناك إنتظار للقاء. سوف أجد بابه في الطابق الثالث مواربا حيث لا يتطلب مني سوى دفعة خفيفة حتى أدخل، وهناك سيكون على كرسي الخيزران ومسبحة صلاة في يده، تسبيح بداية السحر. أو أنه مازال على المصلى طاويا ساقيه مطأطئاً نحو حضنه يسبح بالحمد وبالذكر.
جاءني تلفون من سارة تنقل لي خبر رحيل عبد الرحمن منيف...&
أو أنه ينتظر عند الباب. بالتأكيد هناك حياة جديدة تنتظرني. ستفتح أبوابا أخرى أمامي. هذا رطب. شكرا لك، شكرا للحماية القضيبية التي أمنتها لي. أظنك مازلت تتأرجح، تبتسم بغموض. ولو أنه مر زمان زمان لم أتصل بك. لم تمر في خاطري على ورق الكتابة- على شاشة الكتابة، في الكلمة. كنت أبحث عن بوابة تصلني بك لكنني لم أجدها كما وجدتها الآن. لقد... أو أظن أنني أتصل بك ولكني لا اتصل إلا برغبتي في النجاة من هول طلعة السكن الجامعي، بيت الطلبة. كيف أستطيع التخلص من شعور الفقدان الذي حل بي؟ عبد الرحمن منيف كنت أتصور أنك ستصل إلى الثمانين والتسعين. في موقع الصفحة الثقافية لجريدة تشرين وقعت على خبرين في صفحة واحدة: الخمسة والعشرون على رحيل فنان حلب لؤي كيالي ثم يغيب الموت الكاتب العربي عبد الرحمن منيف! وانا أصعد بدقدقات صولجان على سلالم الدرج أفكر بالفقدان وبالمسألة الحلبية وبمزعل، هل هناك قرابة بينه وبين العمة عند النهر تحت شجرة الجوز منذ مئات السنين؟ الحاج أبو محمد، هذا هو، يطل مبتسما ولا يجيبني عن الأسئلة التي تشغل ذهني. يمسكني من يدي ويجرني نحو غرفة خلفية. هذا هو المخبأ إلى أن يحين الفرج. لكن أين هو الفرج؟ وددت وأنا أصعد نحو الحاج أبو محمد أن أنكص، أرمي نفسي عن السلالم سقوطا حرا إلى منحدر نحن فيه. مرت سيارة مراقبة تحكي لهجة أهل الساحل، فبدا لي أنهم أمسكوا بالخيوط الأولى لمكاني: قرد ولو وين راح؟ صوتهم مع أنفاس السحر يصعد فيخترق المكان. حين يبحث عشرون رجلا مسلحا عن (طبطوب) مثلي فإنهم بالتأكيد في دائرة الخوف. ربما أنا أقوى منهم ولهذا فقد جمعوا هذا العدد كي يلاحقوني. لم أهرب. لقد كنت أمشي نحوهم من دون خوف أو محاولة تراجع. كان هناك عملية تأخير فقط ذلك لعزة سنان وقصصه الحلوة في البئر وقصة رؤيته لأمنا خود وهي تعطيه قهوة الهيل. منذ يومين قرأت في صحيفة عن ترجمة التيه إلى الألمانية! فكيف يموت الآن؟ كان عليه أن ينتظر قليلا... على الأقل عشر سنوات أخرى! كي يرى تتمة الفصول في العراق! ثم وقف عند الباب يمد يده مبتهجا: يا خاي أهلا وسهلا نورت والله! هذا هو الحاج أبو محمد. أنت الحاج أبو محمد. دق رجله ثلاث دقات طاحونية أنا الحاج وصلت إلى الأمان فزمرت السيارة الناجية وخلفها سيارة المراقبة ضائعة تبحث عن مخرج. والدرج، درجة تصعد فوق أختها الدرجة حتى توصلني إليه. كان هناك عند المدخل وحل وطين علق بعضها بالحذاء فهززت قدمي كي تتطاير إلى السيارة الضائعة. وأنا أصعد الدرج أحسست في الطابق الثاني بشبح حلبي يطبق الباب، طبقة أنثوية. كانت تراقب صعودي ثم حين وصلت بالقرب منها طبقت الباب. هل هو تجسس يا حاج؟ أجاب الحاج: كل أهل البناية يعرفون الأصول. هذه زهرة بنت الحاج سلطان أطبقت الباب. فوقف قلبي للإعلان.
ألــمّ بي أرهاق. حين وصلت بين يدي الحاج وقعت مغمى علي. كان لي مع الحياة يوم طويل طويل فمنذ نزولي مع العمة إلى شارع التلل كي أريها حلب المعلقة إلى هذه اللحظة... أمضيت الوقت كله مشيا بمشي ولم أسترح إلا قليلا في الحديقة العامة أقابل تمثال البحتري. لقد تعبت ونزل علي الثقل مرة واحدة فوقعت بين يديه غائبا عن الوعي.&
الدنيا جميلة. حين أغيب عن الوعي أبدل طراطيش هذا العالم بعالم صلب جديد، واسترجع كل معالم الضياع وكل معالم الموت. يكون ورود خبر موت عبد الرحمن منيف هو الهراء بحد ذاته. ضحكت من كل قلبي لهذا الخبر. ثم خمسة وعشرون سنة انقضت على رحيل فنان حلب لؤي كيالي! ما الذي تفعله الصحافة، ما الذي يفعله هؤلاء الناس في دنياهم حين يوردون الأخبار! لقد ماتوا في قلب أخبارهم وهم مازالوا على قيد الحياة يجرون خلفي في نصف مجنزرة تطوف حلب. بالعكس لقد كانوا هم الذين ماتوا فيّ. ولم يمت أحد سواهم. لقد رأيت هدى فجأة. أتمت صلاة التراويح وأتت نحوي كي تجلس قريبة لتحكي عن ذكرياتها. بالحق لقد أحبت راغب. حين رأته أول مرة يصعد نحو الشقة وقف قلبها. وحين لمحها راغب، لمح علامات الحب في عينيها، بعث لها بإشارة مماثلة. ابتهجت ثم بنت في تلك الليلة أمنيات حب للبراري. فتحتْ نوافذ الغرف كي تطل منها على الامتداد الفسيح. وضعت راديو الترانزسستور على خطرنا على بالك لطوني حنا وراحت تكر الأغنية، تسمعها في الليل والنهار. ثم راحت تحب زي النهار ده كان حبك. ثم راحت تبحث عن أشرطة قديمة بعض الشيء لعبد الحليم أهواك واتمنى لو انساك وهي تطير من حائط إلى حائط تعلق قلبها بالسقف مهجة تعمر خيالا وصرحا لا ينتهي بالموت.&
لا تحبي مرة أخرى! حين تعود هدى إلى دنيانا مرة أخرى عليها أن تشيح بوجهها عنه لأن الموت كنت أحسبه مقيما على شواطئنا فقط لكنني وجدته هنا أيضاً في هذه البنايات الحلبية المعمرة تطبق على مهل أنثوي بابها السلطاني هذه زهرة بنت الحاج سلطان كانت تراقب صعودي المتردد الخائف بقلب يريد الحب. فوقعت عند قدميه أدور في فراغ وعدم.&
هذا هو العدم كما يقال كي أرى دنياي به.&
تنقر نقرات رقيقة على باب الشقة فيفتح لها راغب: ادخلي! يهمس في أذنها ثم يخلخل شعرها ويكتشف بجسدها طبيعة الحب. يريد أن يجعل منها جملة مفتوحة على عالم النحو، هذا إعراب أن يكف ويضع نقطة على الأصل. الخلخلة كي تساعده على الدخول: إن دخول الحب هو نقطة لا حرف لها. لأن حوالي العام 1980 في حلب كانت الدنيا واقفة على فاصلة. تمر ذكرى الثورة ونحن في قلب الثروة. هذا يبتسم إبتسامة نور تعال يا بني ادخل.&
في العام 1980 انتهت دنياي. انكسرت جميع القوى ولم يعد هناك داع لحساب عامل الزمن.&
بعد العام 1980 لا يحسب قضائي وقدري كما كان يحسب قبل تلك السنة ولا تربط علائق العلل بالنتائج كما كانت تربط قبل تلك السنة. أمست الدنيا خلخلة. لهذا كما اظن فإن وقوعي عند أقدام الشيخ الحاج أبو محمد كان وقوعا صرف مجردا لا تربطه بالواقع رباطات مدنية. كان الوقوع هو وقوع لبراري في حالة بحث عن حبيب. إنني بطبيعتي أشبهكم فلماذا قتلتم أصدقائي؟ نزيه الضويحي ومحمد المطقطق وأيسر الرغوة وحمزة المخشّف وقاسم الرحبي...ثم أخيرا أنـا. ليس أنا بل نحن. لا يمكن ليد الله أن تعيد لي يقظتي! بعد أن غبت عن الوعي حاول الحاج أن يقرأ فوق رأسي. ثم فكر كثيرا في طريقة ناجعة لشفائي لكنه كان قد نفض يديه بعد مرور أشهر أو قل سنة كاملة. هذا ليس غيابا بل ضياع لا يعرف أحد طريقه. عليه أن يعود بنفسه، نحن لا نستطيع أن نعيده. فرفعت يدي اضعها على رأسي أقرا كلاما نسيت أغلبه ثم شعرت بالغثيان كيف لي قابلية أن أعود مرة أخرى كي أرى هذا العالم؟&
لا لن أعود يا رطب. وهو يهز، ثم أمي تدفعني برفق وحنان، تعال أدخل يابني يا محبوبي الصغير: شوفوا ما به شيء. أمر بين الخالات والعمات عمة واحدة كبيرة معمرة ماتت منذ قرون لكن زاويتها ظلت باقية. نظرت إلى فوق كي أرى شعر أمي المكزبر الأسود الشهي أم موديل حنون لو تعلم بالذي سيجري لما دفعتني إلى الخارج بل لأبقتني في داخلها نقطة: حين كنت نقطة في بطني يا حبيبي الصوفي...! لا أحد يستطيع أن يغامر ويتبع ال (د ن أ ) يتبع سحر الخلق والعلقة والمضغة لأن الكل الصغير معلق بالكل الكبير عشائر وسلطة قوة. نفضت أمي جسدها تعبث في أرض الدار تدور في الفراغ لا تصدق أنهم وراء ابنها الصوفي دبابة نصف مجنزرة تدور تبحث عنه فعيونكِ لن تراه مرة أخرى. هذا تعريف الأم: متوسطة الطول قياسا إلى الأمريكيات، طويلة قياسا لي، أراها مثل نصب فني لا أصل اليه مهما رفعت أصابع قدمي وتطاولت فوق كراسي النار
&
تفاعل مع الكاتب عبر هذا الايميل:
&
&
&