&نعرف انّ الكاتب الفرنسيّ الكبيرأندريه مالرو(1901-1976 كان مغرما بالسّفر منذ مطلع شبابه.ففي عام 1924،وكان عمره آنذاك 23 عاما،آنطلق إلى ما كان يسمّى في تلك الفترة بالهند الصّينيّة(فيتنام اليوم).وفي عام 1925،عاد إلى نفس البلاد ليشرف على رئاسة تحريرجريدة كان ينتقد فيها سياسة فرنسا الإستعماريّة الشيء الذي أغضب سلطات باريس التي آعتقلته حال عودته متّهمة إيّاه بسرقة تحف أثريّة ثمينة من معابد كمبوديا البوذيّة،ولم تطلق سراحه إلاّ بضغط من كبار المثقفين الفرنسيين الذين تعاطفوا معه ،وهبّوا لنجدته.ومعتمدا على أسفاره في الهند الصينيّة كتب أندريه مالرو روايته الأولى "الطريق الملكي"،ثم روايته الأخرى "الوضع الإنساني" التي خوّلت له شهرة عالميّة واسعة،وبها نال جائزة "غونكور" .وعند آندلاع الحرب الأهليّة الإسبانيّة عام 1936،آلتحق أندريه مالرو بالجمهوريين المعادين للجنرال فرانكو ليحارب في صفوفهم.ومن وحي تجربته الإسبانيّة ،كتب روايته"الأمل" التي وصف فيها الأوضاع المأساويّة التي تخلّلت الحرب الأهليّة في بلاد سارفانتس.وخلال الحرب الكونيّة الثانيه ،آنضمّ صاحب "الوضع الإنساني" الى المقاومة الفرنسيّة ليكون قائدا عسكريّا لمنطقة "اللأزاس-”. ولمّا آنتخب الجنرال ديغول رئيسا للجمهورية عيّن مالرو وزيرا للإعلام،ثم ناطقا رسميّا بآسم الحكومة ،ثم وزيرا للثقافة عام 1959.وقد مكث في هذا المنصب حتى عام 1969،وهو نفس العام الذي تخلّى فيه الجنرال ديغول عن السّلطة بعد ثورة الطلبة في ربيع عام 1968.وخلال هذه الفترة ،آهتمّ مالرو بإنشاء العديد من المتاحف للحفاظ على الثروة الفنيّة .كما زار بلدانا كثيرة مثل مصر،و الهند،والصّين، ليلتقي بالزعماء الكبار من أمثال جمال عبد الناصر،وجوال لال نهرو،وماوتسي تونغ.وإلى جانب الرواية،كتب أندريه مالرو العديد من الدّراسات الهامّة عن الفنون جمعها في ما بعد في كتاب حمل عنوان "المتحف المتخيّل" الذي يعدّ من أرفع الكتب التي ألّفت في مجال الفنون في القرن العشرين.وكان أندريه مالرو قد اصيب بآرتجاج دماغيّ عام 1972.ومنذ ذلك الحين بات يعلم ان أيّامه أصبحت معدودة.غير ان ذلك لم يمنعه من السفر إلى جزيرة هايتي عام 1975 معلنا للمقرّبين منه أن تلك السّفرة ستكون الأخيرة في حياته.وكان هدفه الإطّلاع على الفنون التشكيليّة في الجزيرة المذكورة ،والتّعرّف على فنّانيها الذين كان قد آكتشف البعض منهم عام 1966 حينما دعاه صديقه الرئيس الشاعر ليوبولد سيدار سنغور لحضور مهرجان الفنون التشكيليّة الزّنجيّة الذي آنتظم في داكار .ومنذ ذلك الوقت ،أبدى مالرو ميلا واضحا لخفايا الفنون الزنجيّة.فالفنّ كان بالنسبة له الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون له سلطة الدين.وما كان يستهوي أندريه مالرو في الفنون التشكيليّة في جزيرة هايتي هي الجوانب البدائيّة ،والسّاذجة فيها.ثم أن الفنّانين التشكيلييّن هناك كانوا مجهولين،ولم يكن يهتمّ بهم أحد،لا المتاحف،ولا دور النشر التي تصدر الكتب الفنيّة المرموقة.وقبل أن ينطلق إليها مالرو،كانت جزيرة هايتي التي سحرت الفنان الفرنسي الكبير غوغان فرسم نساءها الزنجيّات شبه عاريات ،قد عاشت تجربة فنّيّة فريدة من نوعها أطلق عليها آسم "الشمس المقدّسة".ففي عام 1972،قام فنّانان من فنّانيها بجمع أطفال ،ونساء،ورجال من مختلف ألأعمار،بينهم مهنيّون ،وعاطلون عن العمل،وطلبوا منهم أن يرسموا ما يمرّ بخاطرهم بكامل العفويّة والحريّة.وقد كشفت تلك التجربة الرائعة عن مواهب مدهشة ومثيرة.وكان مالرو يرغب في التعرّف على أصحاب تلك المواهب.وحال وصوله إلى الجزيرة،قدّمت له اللّوحات التي أنجزت ضمن تجربة"الشمس المقدسة".وقد لاحظ صاحب "الأمل" أن تلك اللّوحات لم تكن ممضاة ،وبلا عناوين،فالفنانون الذين رسموها قاموا بعملهم بشكل طبيعيّ تماما مثلما تنبت الأشجار ،وتشرق النّجوم.وخلال ٌإقامته في جزيرة هايتي ،كتب مالرو العديد من النصوص عن الفنون التشكيليّة فيها .كما حضر حفل عشاء أقامه على شرفه الديكتاتور دوفالييه.

&
وعند نهاية الحرب الكونيّة الثانية ،وبعد آستسلام ألمانيا في الثامن عشر من شهر مايو-أيار 1945،وصل الكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو سيلفا المعادي للفاشية الى باريس مبعوثا من قبل "الناسيونال" التي كانت تصدر في كاركاس .وكان هدفه اجراء إجراء مقابلات صحفية مع شخصيّات فكريّة وأدبيّة بارزة.وكان اندريه مالر واحدا من تلك الشخصيّات.. وفي بداية تحقيقه كتب ميغيل أوتيرو سيلفا يقول:”ليس من السهل العثور على أندريه مالرو في باريس.إنه عسكريّ نشط بفرقة عسكريّة تحت أوامره.وفي كلّ مكان يجد نفسه مجنّدا طوال الوقت.وليس له عنوان قار.وهو يسكن مؤقّتا في بيت صديق له اطفال كثيرون.لذا كان على هذا الصديق ان يقلّص من المساحة المخصّصة له ،ولهم لكي يتمكّن من آستضافة الروائي الكبير.وفي هذا البيت آلتقيت صاحب رواية "ألأمل".حدث ذلك عند الظهيرة .جلسنا في صالون ضيّق.وعلى مدى ساعتين كاملتين ،ظللت أستمع اليه بينما كان ألأطفال يلهون من حولنا.وكان هدفي هو أن أعرف القصة الحقيقية لأندريه مالرو المحارب،والبطل منذ بداية الحرب وحتى نهايتها"”.
&
وأثناء الحوار قال مالرو لميغيل أوتيرو سيلفا بإنه لا يؤمن البتّة بأن هناك ثقافة أوروبية أصلا!وأضاف قائلا:”من المؤكد انه في فترات معيّنة من التاريخ ،وجدت ثقافة أروربية ذات ملامح فضفاضة ،مرة انجليزية-فرنسية،ومرة فرنسية -انجليزية.وكان ذلك في القرنين السابع عشر،والثامن عشر.أما ما نعنيه اليوم باوروبا فلا علاقة له بذلك العصر ،ولا يمتلك أبدا ثقافة متجانسة.لكي نعرف أوروبا ،فإنه يجدر بنا أن نستعمل صيغة سلبية :ما هو غير آسيا".وواصل مالرو حديثه قائلا:”مع ذلك أعتقد أن هناك ثقافة أوروبية هي الآن في طور التكوّن والتبلور.أعني بذلك ما أنا أسميه ب"ثقافة لأطلسي".لقد عرفنا خلال الحقبة الرومانية ،وخلال الحقبة البيزنطية ،ثقافة متوسطية.وهذه الثقافة لم تكن ثقافة أوروبية بالمعنى الدقيق للكلمة.والى هذه الثقافة الأطلسية التي لم تتحدّد ملامحها بعد،سوف ينتسب الجزء الغربي من أوروبا.وأعتقد ان فرنسا سوف تتوجه نحو هذه الثقافة رغم أنها تخشى الهيمنة الأمريكية.غير أن الأمر لا يتعلّق فقط بهيمنة.ليس فقط لأن الهمينة تفترض نوعا من التقابل (اليونان،وروما،وبلاد فارس،وبلاد العرب)،ولكن لإن الثقافات الجديدة ليست هي مجمل الثقافات التي سبقتنا ،وإنما تحولاتها".ويمضي مالرو في تحليله لهذه المسألة قائلا بإن هذه البانوراما لا تعني أن السياسة الفرنسية سوف تكون مجبرة على أن تكون أطلسية.فالسياسة في نظره تلعب دورا كبيرا في تطور الثقافة غير أن ذلك يتمّ بطرق غيرمتوقّعة.،وليست عقلانية تماما.ويرى مالرو أن مسائل الثقافة تطرح بمفهوم المصير .أما المسائل المتصلة بالسياسة فمختلفة تماما حتى ولو أن نابليون كان يظنّ ،خطأ بطبيعة الحال،أن السياسة هي المصير”.
&
وفي حواره مع ميغيل أوتيرو سيلفا قال مالرو بإن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تكون العمود الفقري لهذه الثقافة الأطلسية ،غير أن تأثيرها سوف يكون روحانيّا،وغير مباشر.ونحن نعتقد أن مالرو كان محقّا في هذا التصور.فالثقافة التي وصفها ب"الأطلسية" غزت أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين.وحتى وإن سعى بعض المفكرين والسياسيين من امثال الجنرال ديغول الى الحدّ من توسّع هذه الثقافة ،وتقليص تأثيرها خصوصا على الأجيال الشابة، فإنها ظلت مهيمنة بشكل كامل تقريبا.وتحت تأثيرها سقطت الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا،وفي ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي.
&
وفي سنة 1956،وهي نفس السنة التي نال فيها كلّ من المغرب وتونس آستقلالهما،في حين كانت الجزائر لا تزال غارقة في حرب مدمرة،تحدث اندريه مالرو عن الإسلام قائلا:”إن طبيعة الحضارة هي ما يتفكّك ويتفتّت حول دين مّا.وحضارتنا عاجزة على أن تبني معبدا أو قبرا.وستكون مجبرة على أن تعثر على قيمة أساسية وجوهرية،أو أن تتفسخ وتموت.والظاهرة الكبرى في عصرنا تتمثل في الصعود الإسلامي.وهذا الصعود الذي لا يهتمّ به معاصرونا كثيرا،يتماثل مع بدايات الشيوعيّة في عصر لينين.والنتائج المترتبة عن هذه الظاهرة لا تزال غير واضحة،وغير متوقّعة.وفي بداية الثورة الماركسيّة،كان هناك اعتقاد بأنه يمكن ايقاف هذا التيار بحلول جزئيّة.لكن لا المسيحية ،ولا آتّحادات الأعراف والعمال تمكنت من أن تجد الجواب الملائم.واليوم،ونحن نعيش نفس الوضع.والعالم الغربيّ يبدو وكأنه غير مستعدّ لمواجهة مشكلة الإسلام.نظريّا ،الحل صعب للغاية.وربما في الممارسة،إذا ما نحن توقفنا عند الجانب الفرنسي،كان بالإمكان أن يكون هناك حل لو أنه وجد رجل دولة حقيقي فكر فيه وطبقه.والمعطيات الراهنة تجعلنا نعتقد أنّ هناك أشكالا مختلفة من الديكتاتوريات الإسلاميّة ستبسط نفوذها تدريجيّا على العالم العربي.وعندما أقول "اسلامية" فأنا أفكر في البنى الدنيويّة المترتبة عن النظرية المحمدية أكثر مما أفكر في البنى الدينية.والآن نحن نعاين ان الملك محمد الخامس قد تمّ تجاوزه.ولن يتمكن بورقيبة من الحفاظ هلى الحكم إلا عندما يتحول الى ديكتاتور صغير.وربما تكون هناك حلول جزئية كافية لإيقاف المد الاسلامي لو أنها طبقت في الوقت المناسب.أما الآن فقد فات الأوان.و"البؤساء" لن يفقدوا بالأحرى إلاّ القليل.هو يفضلون العيش داخل مجموعة مسلمة.ومصيرهم لن يشهد تغيّرا من دون شكّ.ونحن نمتلك عنهم رؤية غربية.وهم يفضلون مستقبل جنسهم على المنافع التي يمكن أن نقدمها لهم.وما أظن أن افريقيا السوداء ستظل في مأمن من هذا المد.وما نحن قادرون عليه هو أن نعي خطورة هذه الظاهرة،وأن نسعى الى عرقلة صعودها وتطورها"...