قرأنا كثيرا عن المتخيّل من عوالم الخير والطهر والنقاء الإنساني وأحلامنا نحو مدن فاضلة نعيش بها هذا الأمد القصير من الحياة بلا منغّصات وبلا دعاوى التضليل ومساوئ الخلق وسيادة النبل والسمو الإنساني في مدن نعتناها بالفاضلة وحلمنا بها في الشعر والفن عموما ، نشدنا وسعينا الى التطهير والنقاء كفكرة جاذبة وحلم مؤنس فبدأنا بمدينة افلاطون الفاضلة مع ان هذا الفيلسوف الاغريقي طرد الشعراء والشعر من مدينته اليوتوبيا لا لشيء سوى انه نوع اخر ولسان يختلف عن ألسنة الادب والفن الاخرى ؛ غير ان ارسطو رحبّ بالشعراء في كتابه البويطيقيا ( فن صياغة لغة الشعر ) واعتبر الشعر اعلى منزلة واكثر اهمية لانه يعبر الجزئيات ويرقى الى الكليات وهي الصفة الخالدة فيه&
هو ذا الشعر الذي يستحيل ترويضه وتراه يخترق الآفاق محلّقا مرةً وغائرا اخرى وتائها في مسالك ودروب لاحصر لها عصيّا عن التجزئة والتمزّق&
واذا كان التاريخ يذعن لنظرية التعاقب ( succession ) والكاتب المؤرِّخ مرغم على ان لايتجاوز المراحل فان الشاعر يجنح بعيدا محلّقا مرة الى فضاءات لاتحدّها حدود وأخرى يغور عميقا في بواطن الارض ويتحسس جذور الانسان ويرى اسس بناء اولى الحضارات وينبش في عقول الأقدمين والمحدثين والأكثر حداثويةً &ويترك وراءه فكرة التتابع لينشغل بها المؤرخ والعالِم وحدهما&
فالشاعر الحقيقي لايقف طويلا على ارض الواقع المعاش الحالي ولا يرضى ان يكون مهيض الجناح منكسر القوى عائشا في قشرة محيطه ولايبرحها ؛ انه يحمل ولع الاختراق الزماني والمكاني ؛ يعشق الانزياح والالتفاف والإحاطة ويمد عنقه فضولا اينما وصلت عيونه الحاذقة ويوسع بصره مخترقا الحجب والأسوار فهو اذاً عكس المؤرخ المنزوي في مرحلة تاريخية ولايغادرها الاّ بعد ان يشبع فضوله لينتقل الى مرحلة تاريخية اخرى ويستكنّ فيها امدا قد يطول ردحا من الزمن&
تلك اذا هي نظرية التتابع التي ميّزها ارسطو وعرف تماما مهمة الشاعر مثلما عرف ايضا مهمة المؤرخ وشتان شتان بين الاثنين&
هنا لا اخفي حيرتي حينما يتعثر الشعر الان في هذا العصر المليء بالشرور والآثام بحقّ الانسان والبيئة والمخلوقات الاخرى التي تتشارك في العيش معا وأرى متحسّرا تثاقل خطاه وخفوت أضوائه امام ميديا الحداثة والعصرنة&
&ترى هل الشعر كان مأنوسا مرحّبا به ماضيا ؛ ومنبوذا ونأنف من الاقتراب منه حاضرا ؟؟&
كيف يتكيّف الشعر ويعيش عصر الكوننة الحالي غريبا لا ناصر له وقد كان القدح المعلّى في السابق وأضحى مهملاً قليل الفائدة في اللاحق ، هل ثمة بلاهة ولامبالاة بهذا الغرّيد الجميل الصادح بعد ان تصحّرت نفوسنا ولم نعد نصغي الى ألحانه في عصر الانهماك نحو الربح والثراء وتطويع كل شيء الى سلعة مربحة بما في ذلك كل أشكال الادب والفن باستثناء الشعر الذي يتمرد ولايخضع لعنجهية القانون الاقتصادي الرأسمالي الحرّ ( اسما لا صفةً ) ومن المحال اعادة تدويره ليحقق ربحا او تسويته كسلعة قابلة لان تكون ذات فائدة مالية كسبا للجيوب واضافة لرصيد المال المخزون ؟؟
وهل غدا الشعر خردة عتيقة من مخلفات العهود الغابرة ؟؟ ، قد يكون الامر صحيحا طالما ان الشعر يأبى ان يرضخ ويكون بضاعة مدرّة للأرباح في هذا العالم المادي الذي يلهث وراء الربح ، فما الذي يقدمه الشعر من ثروة مالية في عالم المال والأعمال وشهوة الاستحواذ على كل شيء لجعله سلعة مربحة ؟؟&
واذا كان البعض قد تجرّأ وغامر لترتيب وإعداد برنامج شعري تنافسي متعدد الحلقات مثل " شاعر المليون " للتكسب بواسطة التصويت التلفوني والرسائل عبر شبكات الاتصال المتعددة على حساب الشعر تماما على غرار برامج ( The Voice ( فان هذا البرنامج التلفزيوني بحلقاته المتعددة رغم صبغة التشويق التي اضيفت له لكنه لم ينجح النجاح المرجوّ بل صار احيانا مثار تندّر الكثير وسخريتهم ممن يهتمّ بالشعر ذي اللغة السامية مثلما وصفها ارسطو ... وربما يكون مثل هذا البرنامج مستساغا مأنوسا في الكتابة الشعرية الزجلية او النبطيّة المسفّة ؛ فمثل هذه الاشعار القريبة الى الفولكلور منها الى الشعر كما نعرف يمكن تشبيهه بالقاطرة الاكثر صخبا وعربدة فارغة ولاتمتّ الى الشعر الحقيقي الاّ بالايقاع والوزن وحده دون ان تباريه في الرؤية الشعرية الحاذقة البعيدة المدى ، ف( الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلّمُهْ --- اذا ارتقى فيه الذي لايعلمهْ --- زلّتْ به الى الحضيضِ قَـدَمُهْ )
واذا كانت الموسيقى واللوحة الفنية والسينما وحتى الرواية المنتقاة يمكن تطويعها وزجّها تجاريا لتحقيق الارباح في سوق الفنّ فان الشعر مهما توقّدت فنيته ورسخت إبداعاته يتمرّد ان يكون سلعة مدرّة للمال&
هو ذا خطل الرأسمال وأهله ممن يلهثون وراء المادة والثراء والغنى والاكتناز تاركين ما للنفس من هوى وميل الى الشعر الذي لم يعد يجدي نفعا للجيوب المتعطشة لرقرقة العملة الخضراء والأصفر الرنان ؛ فالمسألة الان لاتعني شيئا حتى لو ظهر شكسبير اخر او برز نجم شعري يتخطى شارل بودلير او آرثر رامبو &او أينعت اوراق عشب اخرى اكثر اخضرارا ونداوة من أوراق عشب وولت وايتمان سوى ان يطعموها للماشية كي تسمن وتبدو بدينة ويثقل وزنها لتباع في مسالخ الماشية وتحقق أرباحا &اعلى&
ذلك هو الاقتصاد الحرّ والرأسمال الاحمق الذي لايستضيف الشعر في عقله ويغلق ابوابه امام الخلق الخيالي مادام لايشبع رصيدا ماليا طامحا بالمزيد ولايمكن ترويضه &ليكون اضحوكة بهلوانية على ستيج مسرح او منصة خطابة ومادامت بطاقات شرائه وترويجه اقتصاديا قد أصبحت في خانة &المستحيلات&
اما هذه المهرجانات الشعرية التي تقام هنا وهناك بين الفينة والاخرى فهي لاتعدو كونها خناقا اخر لصوت الشعر الساحر وحنجرته الشجية بما في ذلك اللقاءات التي تجري في عواصم العالم فهذه ماهي الاّ ديكور ثقافي كي يقال ان تلك المنظمة وهذه الهيأة الثقافية لازالت متمسكة بأرقى ماانتجه العقل الانساني في جانبه الادبي&
ان التكسّب بالشعر الذي حصل آنفا في الحقب التاريخية القديمة كان الكارثة الكبرى التي أطاحت بإبداعاته فهذا الطفل المدلل للأدب لايستسيغ الانصياع للمال او الجاه او الثروة او اية حظوة كانت مهما بلغت مغرياتها فكيف به اليوم يحني هامته للرأسمال ويستجدي ربحا او ريعا من أنشطة اقتصادية ؛ فهذه البراءة النبيلة المرتسمة في ملامحه ليس في مستطاعها قبول هذا النمط السامي من الكلام لان يتلوث كسلعة يتلاعب بها العرض والطلب&
فالشعر خاسر على الدوام هنا وبهذا المرتع الذي لايلائمه ويأبى ان يغازل سمات الاقتصاد العديم القلب والرأفة ، فلو أردت الشعر حقا ستجده حتما في خرق المتصوفة وفي أردية الشعراء المنبوذين والمتشردين وفي خيام الغجر ومجمعات المسحوقين وفي الشخوص المعزولة النائية عن المطامع وفي عقول الحيرى من الشعراء التي تتلاطم الرؤى في مخيلتهم وفي معذّبي الارض والعشّاق الذين لم ينالوا مرادهم وفي الحالمين بمقبل طوباوي يسمونه فاضلا لم يأتِ بعد وربما لايأتي ابدا ، انما يجيء زائرا في الخيال الشعري&
هذا هو لغز الشعر القائم على الشكوك والحيرة سواء اجتمع او اختار عزلته بنفسه وهذا هو منبع إبداعه والخوف كلّ الخوف من تجفيف منابعه واعتباره في خانة الفوبيا المخيفة ، فماكنة الاقتصاد الكولونيالي تسحق كل شيء امامها ان لم تروّضه لخدمتها وتستلبه مادّيا ولاتستطيع هصره أملا في عصارة ربح&
تلك هي محاولات تجفيف منابع الشعر وصولا الى يباس نفوسنا وأفئدتنا المتعطشة لجمال ورواء الشعر &
&