كان فنسنت فان كوخ مرعوباً من الجنون لكنه تساءل إن لم يكن الجنون يرتبط ارتباطاً لا فكاك منه بالإبداع الفني. وفي رسائل كتبها فان كوخ الى شقيقه يتوقف أكثر من مرة إزاء لوحة رسمها الفنان الكهنوتي اميل فاوترز في عام 1872 بعنوان "جنون هيوغو فان دير غوز" تصور الفنان الفلمنكي غوز الذي عاش في القرن الخامس عشر ضحية مرض عقلي. وكانت هذه اللوحة تعبر بنظر فان كوخ عن العلاقة الرومانسية السوداء بين العبقرية والجنون.
ولكن معرضا في امستردام يجمع بين الفن والتوثيق ومسدس صدئ عثر عليه مزارع عام 1960 في الحقل نفسه الذي رسمه فان كوخ ثم انتحر بين سنابله يذهب الى ان مرض الفنان العقلي كان عائقاً يقيد موهبته وليس مصدر الهام في فنه بل انه أقعده عن العمل فترات طويلة. وصارع فان كوخ وطأة المرض الثقيلة متحدياً جنونه لانتاج ما يعتبر من اقوى الأعمال الفنية في التاريخ.
وحين بدأ فن فان كوخ الذي لم يشهد بيع أي لوحة من لوحاته تقريباً في زمن حياته ، ينال الاعجاب بعد وفاته اصبحت الألوان الصفراء الباهرة والزرقاء الهلوسية تُعد مظهر لوعة داخلية غامضة. وقال الكاتب المسرحي الفرنسي انطونان ارتو الذي امضى السنوات الأخيرة من حياته في مصحات عقلية ان فان كوخ رجل "انتحره المجتمع". وفي عام 1956 يصوره فيلم "الرغبة في الحياة"
شخصية عاجزة بشكل مأساوي عن السيطرة على تلاطم العواطف التي تجعله فناناً عظيماً.
ويرى البعض ان صورة فان كوخ بوصفه "عبقرياً مجنوناً" نابعة من فنه ذاته. وفي بورتريه رسم فان كوخ نفسه بإذن مضمدة بعد ان قطعها بشفرة حلاقة في آرل اواخر عام 1888 وقدم قطعة اللحم المقطوعة الى عاهرة من عاهرات المنطقة. ويرينا فان كوخ في البورتريه وجهه المشوه ولكنه يحدق فينا بعين رجل رؤيوي. وهذا ليس تصويراً موضوعياً لمَصاب ألم به بل هو في حدته الساحرة بورتريه فنان راح شهيد الجنون وحرره الجنون في آن واحد ، كما يلاحظ جونثان جونز الناقد الفني لصحيفة الغارديان.
ولكن معرضاً افتُتح في متحف فان كوخ في امستردام يكشف عن أدلة جديدة مهمة تتعلق بحادث فقدان الفنان أذنه. وتسلط رسالة عُثر عليها مؤخرا من الدكتور فيلكس راي الذي عالج جرح الفنان ضوء ساطعاً كل الرعب الكامن تحت الضمادة في بورتريه فان كوخ وتؤكد انه لم يقطع شحمة الأذن فقط كما هو الافتراض الشائع بل بتر أذنه اليسرى كلها. ويوضح هذا أكثر من أي وقت مضى حجم الأذى الذي انزله فان كوخ بنفسه وكيف ان ذلك كان نذيرا بانتحاره.
يهدف المعرض بهذه الأدلة الى دحض النظرية التي طرحها باحثون مختصون بتاريخ الفن في عام 2009 بأن بول غوغان صديق فان كوخ هو الذي قطع
شحمة أذنه بسيف. ولكن الدكتور راي يصف في رسالته محاولة بشفرة حلاقة قام بها انسان مدفوع بقوة قاهرة الى ممارسة العنف مع نفسه.
كما يطعن المعرض في أدلته النادرة بدعوى كاتبي سيرة فان كوخ الاميركيين ستيفن نيفا وغريغوري وايت القائلة ان فان كوخ لم ينتحر بل اطلق النار عليه شخص مجهول.
فالمسدس الذي عُثر عليه في الحقل حيث وقف فان كوخ والطلق النار على صدره كان موجودا في المكان نفسه منذ القرن التاسع عشر. ويبين عيار مسدس الجيب الصغير سبب انحراف الرصاصة من احد أضلع فان كوخ الى صدره وبقائه على قيد الحياة 30 ساعة قبل ان يتوفى متأثرا باصابته رغم انه اطلق النار على نفسه من مسافة قريبة جدا.
من الأدلة الأخرى التي يقدمها معرض "على حافة الجنون" آخر اعمال فان كوخ التي تكشف عن حالته النفسية السوداوية وتسند رأي المتحف بان فان كوخ مات منتحرا بعد مرض عضال عذبه وأدى بأهل منطقة آرل الى الاعتداء عليه والمطالبة بحبسه في مصح للأمراض العقلية.
كان فان كوخ يعاني من نوبات كآبة وشلل عقلي يقعده بين حين وآخر. ولم يكن يستطيع الرسم بسبب المرض. وبدلا من ان ان يطلق الرسم شياطينه الداخلية فانه كان عملا واعياً ثابتاً حاول من خلاله ان يحافظ على قواه العقلية. وكان فان كوخ دائما يقول لاصدقائه انه يدخن الغليون لأن هذا ايضا يساعده على مكافحة الجنون.
يستمر معرض "على حافة الجنون: فان كوخ ومرضه" في متحف فان كوخ في امستردام من 15 تموز/يوليو الى 25 ايلول/سبتمبر.