&


أغلق كتابه ثم رتب أوراقه بعد أن تأكد بأنه أتم المادة التي كان يحضر لها , دخل الحجرة فوجدها لاتزال تفرد جسدها وتستر ألمها وخوفها بالغطاء الذي سيدخل تحته , شعر بالحرج من نفسه ومن ذلك الدور الذي لعبته بحياته , فجلس بجانب رأسها باحثاً عن عينيها ولكنها كانت تخفي ملامحها بين وسادتها التي شربت الكثير من دموعها , دمعت عيناه التي كانت تقول له بأنها خلقت لتكون مرآة تعكس وجه الفرح فقط , سقطت تلك الدمعة التي كان يخفيها بعيداً في صدره على كفها لكن نومها كان أعمق من أن تشعر الآن بحرقة تلك الدمعة الصامتة التي تمثل دور صاحبها , أخذ يتلمس المحبس الذي أسر من خلاله أحلامها وشبابها ورغباتها خلف خطواته المنفردة التي تنصب طرقها في نهر نجاحاته , تذكر كيف دخلت إلى منزله أميرة صغيرة بقلب كبير وروح تحلق في السماء , كيف كانت تعشق الزهر وتعطر كلماتها كل مكان تسكنه معه .
أغمض عينيه ليرجع بضع سنوات للوراء , عندما دخل وبين يديه حلم كبير ليسألها إن كانت قادرة على حمله معه , وإن كانت قادرة على ترك كل شيء خلفها .. والديها ووطنها وبيتها الصغير .. أهلها وأحلامها لتتبعه , لتكون ظلاً يرتاح تحته , وماءاً لعطشه , تكون صدراً يضم حزنه وكف حنونه تشد من أزره , كيف كانت حجم فرحتها بثغره الباسم وهو يطلب عمرها القادم له , خرجت من وطنها دون أن تلتفت وهي ترى به سماء وأرضاُ والخط الفاصل بينهما كان في عينها هو أيضاً , كيف عاشت معه سنوات انتظار .. انتظار أن يعود من الجامعة و أن ينهي فصله الدراسي وعامه الأول الذي عانى به كثيراً بسبب ضعف اللغة , وبانتظار أن تفطر على صوت الآذان في المدينة التي ولدت فيها وأن يفاجئها بأنها سوف تستقبل العيد هذه السنة وسط أهلها وبين والديها وأخواتها &, وكم مر وقت كانت به تنتظر أن يدخر شيئاً قليلاً ليدخل عليها بشيء صغير يخصها به , يعبر من خلاله عن امتنانه لوجودها فقد فقدت في زحمة الكتب طعم الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة التي تعنيها .
فتح عينيه ليبكي على يديها وهو يتذكر كيف بكت في احضانه وهي تطلب منه أن تسافر لتودع والدتها للمرة الأخيرة , بكى لأنه مسح دموعها لكنه لم يضمها لأنه لم يشعر بحرارتها ولأن تلك النار التي أشعلها الخوف من فقدان وطنها وأمها ودنياها لم تحرك شيئاً داخله , بل أكتفى بالتأجيل إلى حين أن يفرغ من تقديم اختباراته وخرج يركض نحو مستقبله , لم يقلقه بعد ذلك صمتها ولم يشغله حزنها , فقد كان كل شيء في جدول مواعيده ثابتاً وحاجاته جاهزة لازالت ترتبها بيديها , كان كل شيء حاضراً إلا هي تظل شاردة الذهن طوال الوقت بجانب النافذة , حتى جاء خبر وفاة والدتها ذلك الخبر الذي جعلها تنهار بين يديه ليفقدها بعدها , فبعد بكاءها خلدت للنوم .. وأصبح النوم حياتها .. و الوسادة صدر والدتها التي لم تتمكن من تقبيلها للمرة الأخيرة .
مضت الأيام &وأنها فصله الدراسي الأخير , ولكن فصل الحزن في قلبها لم ينتهي , لازالت تنظر إليه كل صباح بصمت وتجلس بجانبه بعد أن تعلق قلبها بعيداً عن يديه , عاد إليها ذات نهار ليخبرها أنه قطع تذاكر العودة لوطنهم , لكنه وجدها دون أمل وذاكرتها لم تعد تحمل أي صورة لملامح وطنها بعد أن غربت شمسه خلف قبر والدتها الذي جف ترابه دون أن تلامسه , تيقن حينها أنه أبقى على جسدها فقط بجانبه أما روحها فقد فقدها بأنانيته .