&
&
يوديت هرزبيرخ واحدة من ألمع الشاعرات الهولنديات وأكثرهن تنوعا في الكتابة، فبالإضافة إلى كونها شاعرة متميزة فهي روائية وكاتبة مسرحية وسيناريو ومؤلفة نصوص للأطفال. ولدت عام 1934 لعائلة يهودية وتم إخفاؤها بعد أن سيق والداها إلى معسكرات الاعتقال النازية أبان الحرب العالمية الثانية وكان والدها يورست آبل هرزبيرخ كاتبا معروفا. وقد قام الشاعر العراقي صلاح حسن المقيم في هولندا منذ أكثر من عشرين عاما بإصدار مختارات شعرية لها عن دار ميسوبوتاميا في بغداد، وهذه الترجمة تعد الثالثة لصلاح حسن بعد المختارات الشعرية التي ضمت أربعين شاعرا هولنديا ومختارات الشاعر الهولندي الكبير روتخر كوبلاند.
&
نشرت يوديت هرزبيرخ أول نصوصها في العام 1961 في المجلة الأسبوعية "هولندا الحرة" وبعد سنتين صدر ديوانها الأول "بريد البحر" حيث لفتت الأنظار بسرعة، ثم توالت إصداراتها المختلفة بين الشعر والرواية والمسرحية حتى تجاوزت الأربعين مؤلفا حتى هذه اللحظة. توجت هذه الفترة الطويلة من الكتابة المتنوعة بعدد كبير من الجوائز بلغت إحدى عشرة جائزة موزعة على دواوينها الشعرية ومسرحياتها ورواياتها التي تحولت إلى أفلام سينمائية، غير أن حصة الشعر حصدت العدد الأكبر من هذه الجوائز. من بين هذه الجوائز المهمة جائزة يان كمبيرت والجائزة الهولندية – البلجيكية للتأليف المسرحي.
&
يقول صلاح حسن "في هذه المختارات التي ترجمناها عن آخر مختاراتها الشعرية الصادرة باللغة الهولندية " افعل واترك " سيجد القارئ ذلك التنوع في ثيمات النصوص الشعرية والتنقل بين الأفكار والمشاعر الدفينة أو المرئية، إذ أن الشاعرة يوديت هرزبيرخ تصور الأشياء بطرق مختلفة طبقا لموضوعة القصيدة. حين تتحدث عن الحب فأنها تنقل هذه المشاعر إلى صور تكاد تكون مرئية لوضوحها وشفافيتها، بلغتها المرنة المنعشة. وحين تتحدث عن الشك أو التردد فأنها تستخدم لغة معقدة وصورا غائرة في اللا وعي لكي تصف الحالة الشعورية الملتبسة للإنسان الذي يعيش وضعا خاصا كما في قصيدة "نظارة" وقصيدة "كما لو" أو قصيدة " كل شيء بخير":
&
الثراء يتمدد على بلاط من بلور
&
العوز صناديق مليئة بالعظام
&
الفقر استغاثات من شتاء لشتاء
&
الثراء هدوء، استرخاء بعد استرخاء
&
الفقر يركض.
&
ويضيف في تقدمته للمختارات "تحتل الطبيعة حيزا كبيرا في شعر يوديت هرزبيرخ، ولا تخلو أية قصيدة من قصائدها من إشارة مهما كانت بعيدة إليها كما سنلاحظ في قصائد الحب أو أغاني الحب التي تبدو فيها متأثرة كثيرا بنشيد الإنشاد من الكتاب المقدس. لكن أروع ما في هذه النصوص / الأغاني هي تلك الإشارات الإيروتيكية اللماحة أو الواضحة التي تمجد الإنسان من خلال جسده الجميل الذي لا يختلف اثنان على قيمته الإنسانية والوجودية:
&
لم أعد قادرة على النوم
&
منذ أن ذقت لذتك حبيبي
&
في الفجر حينما أستيقظ
&
أشتهيه
&
أشتهي من أرغب به.
&
سيلاحظ القارئ أيضا أن في نصوص يوديت هرزبيرح الكثير من الدفء والحرارة الشعرية، ليس هذا فقط ولكن طبيعة المواضيع وكيفية النظر إليها وطريقة معالجتها حتى لتبدو أحيانا شرقية في ايروتيكيتها وبوحها المختلف أو الصريح . إنها تدعو المرأة للخروج من الكهف والنزول من الجبل لكي تبحث عن الحب وألا تبقى منتظرة هذا الحب الذي قد يأتي وقد لا يأتي أبدا:
&
استحلفكن يا بنات أورشليم
&
لا تبقين جالسات بانتظار الحب.
&
اتركنه يولد من نفسه.
&
ويشير صلاح حسن "سيتكرر هذا المقطع في الكثير من الأغاني / النصوص ليتحول إلى لازمة في نهاية كل أغنية / قصيدة وهي التقنية التي كتب بها الإنجيل والأساطير القديمة مثل الأساطير السومرية والبابلية والأشورية التي تأثر بها العالم القديم برمته. سيجد القارئ أيضا أنني خصصت نصف هذه المختارات إلى نصوص الحب والايروتيكا لما لها من خصوصية وشفافية واقترابها من الخصوصية الشرقية وبسبب بساطتها ولغتها المرنة المنعشة وصورها المرئية وصراحتها المحببة التي لا تخدش الحياء. أما نصف الكتاب الآخر فقد جعلته منوعا بين الهايكو وبعض النصوص الطويلة مثل "دب في سرير" التي آثرت أن أجعلها في نهاية المختارات لفرادة قصتها الحقيقة والتقنية السردية التي كتبت بها والمشاعر الجياشة الدفينة التي ضمتها سطورها وذلك الحب المذهل بين حيوان متوحش وإنسان وحيد يعيش خارج العالم.
&
نماذج من المختارات
&
ـ دب في سرير
&
آها، أصبح لدي دب
&
والدب أصبح يملكني، شخص ما
&
يفعل في بيتي ما يشاء.
&
في الظلمة أجيء عبر سياج الحديقة،
&
اخلع بنطالي في الزاوية
&
في المكان الذي أنام فيه
&
لكن هناك رائحة غريبة،
&
حيوانية.
&
انه يستلقي هناك ضخما مبللا
&
وفير الفراء، لكن لا، انه يشخر.
&
لا يمكن زحزحته
&
يا لها من ليلة عصيبة.
&
في الصباح شرب الدب
&
وهو في الطريق إلى الخارج
&
حليبي الحامض
&
لعق القعر حتى أصبح نظيفا
&
ورمى السطل ثم نظر حوله بحذر
&
قبل أن يغادر.
&
لقد أصبح المكان فارغا وواسعا عندما رحل.
&
عندما حل المساء جاء مرة أخرى
&
جافا كما لو أن النار
&
جففت الماء من فرائه.
&
مساء الخير قلت
&
لكنه مضى قدما
&
فقط صوت أظافره الواضحة
&
على أرضية الخشب.. تك.. تك.. تك
&
اخبرني ماذا فعلت اليوم،
&
هل أكلت، هل اصطدت شيئا ؟
&
شخص ما يفعل ما يحلو له
&
في هذا البيت، يتمدد ثم ينام.
&
كنت منهكا تماما
&
اجلس على العتبة
&
عندما خرج من البيت
&
بعينين ساخطتين قليلا.
&
عندما أشرقت الشمس
&
اختفى من جديد
&
باتجاه " أيرانا. "
&
بعد منتصف الليل عاد إلى البيت
&
فقدمت له حليبا طازجا
&
جئت به من الوادي وسألته:
&
ماذا فعلت ؟ عائلة دببة ؟
&
أقوم بأعمالي اليومية
&
لكنه جاء ليسكن هنا.. يسكن.. يسكن،
&
ماذا سيفعل بعد ذلك
&
هذا ما لن أعرفه.
&
أحضرت فأسي في باحة البيت
&
لكي أجعله باشطا
&
يجب علي أن احضر خشبا جافا
&
لشتاء الجبال الطويل
&
ثم وتدا للصقر الذي يحوم
&
حول البيت.
&
خائن، جاسوس، حليف الأعداء ؟
&
لم أكن اعرف لكنني خمنت
&
مع أن الدب لم يكن يراقب
&
إن الإشارة قد وصلته.
&
انتظر قليلا
&
وقفز فجأة.
&
وقف برشاقة على قدميه
&
ثم أنزل جسمه ومضى
&
إلى الغابة واختفى
&
كيف يحدث أن يأتي دائما لينام هنا
&
ثم لا تراه إلى الأبد ؟
&
ذهبت أبحث عنه في الغابة
&
بحثت في الجحور الجافة
&
والأغصان المتمايلة،
&
كل الغيوم المرقطة
&
كان الثلج قد بدأ يهبط
&
كما لو أنني سلكت الطريق الخاطئة
&
وكنت قد يئست.
&
عدت أتعثر بخيبتي
&
آملا أن أجده قد عاد إلى البيت.
&
من أين جاء ؟ هل هو الآن في مكان ما ؟
&
أريد أن أنقذه من الفخاخ
&
أو من خطر ما
&
إذا لم يكن هو هناك
&
في المكان الذي قضيت فيه
&
يومين وليلتين أبحث عنه..
&
أين يكون إذا ؟
&
هل أطلقوا عليه النار ؟
&
نصف ميت بسبب الثلج ؟
&
ويلفت صلاح حسن إلى أن هذه القصيدة كتبت عن قصة حقيقية حدثت لفلاح يعيش وحيدا في الجبال على الحدود الجيكية البولونية حيث استضاف دبا لعدة أشهر وكان الدب ينام في سرير الفلاح. كان الدب جيدا ويخرج في الصباح طلبا للطعام ثم يأتي في آخر الليل لينام في سرير الفلاح. فجأة يختفي الدب مما يقلق الفلاح الذي يذهب للبحث عنه في الغابة ويقضي هناك يومين وليلتين في البحث دون جدوى. فجأة يصاب الفلاح بالذهول وهو يسمع أن أحد الصيادين غير المرخصين قد قام بقتل الدب. حدث هذا في العام 1962 وقد نشرته جريدة " بارول " الجيكية بتاريخ 12 / 2 / 1962.