&فتح عيناه أخذ ينظر من خلال المرآة إلى أعمق ما يمكن أن يصل إليه في نفسه التي تضم أجزائها في زاوية مظلمة من جسده &ليتأكد من أنه مازال قادراً على أن يجمع شتاته بهدوء , ثم وقف ووضع يده في جيبه أخرج المنديل المطرز بزهرة حمراء صغيرة نامت على طرفه أعوام و لم تكبر , أخذ يشم رائحة العطر المطبوع &لكي يحيي ذاكرته .. دخل نور تلك الصور إلى قلبه فطمئن بأن حبيبته لازالت باقية في مكانها ثم أعاده إلى جيبه و خرج مغلقاً الباب خلفه .

وقف خلف ( الميكروفون ) بكامل هدوءه استعداداً لفتح الستارة مذكراً نفسه بأنه نجم لا بل قد أصبح مجرة كاملة بما حققه , فتحت الستارة فوقف الجمهور لملك المسرح وسيده ثم تعالت دقات قلوب معجباته وفاقتها أصوات المعجبين الهاتفين باسمه , بدأ وصلته الأولى فرد جناحيه وحلق عبر حنجرة ذهبية فتطايرت الأنغام من نوتته تعالت الكفوف التي تتمايل عل لحنه , غزى القلوب واسقط أكبر حصونها عبر القصائد المغناة التي اختارها لجمهوره , لكن تاريخه كرجل كان لا يزال صامداً أمامه , كلما أغمض عينيه خرجت من بين رمشيه وهي تمد يدها نحوه وتنادي عليه ليتبعها , لم يتمكن من الصمود أمام صورتها بشعرها الأسود وعينيه المكحلة فترك صوته وكلماته فوق المسرح وراح يتبعها بروحه وهو يسمع العالم صوته المحب وهو يتغنى ب " لو لم تكوني في حياتي " , كان يتبع صورتها وهو يغني وكانت تزرع له مع كل خطوة زهرة و ضحكة , كانت تركض أمامه بين السنابل التي تتمايل على الجانبين حتى تتعبه بلحاقها تحت الشمس , مرت بذاكرته صورتها وصوت خوفها وهي تسقط نفسها في أحد الحقول لم يتمالك نفسه أمام شكلها الطفولي البريء فابتسم , فرد له شعبه المردد خلفه كلماته .. ابتسامته , أبكاهم و أفرحهم واخرجهم من قاعة الحفل وهم يضمون من تلك الليلة مشاعرهم ويطوقونها بالدفء , وخرج هو بعد أن أسدلت الستارة الكبيرة بصمته محملاً بتلك الذكريات المخبأة خلف قفصه الصدري , راح يسير بعيداً عن أضواء الشهرة و ضوضائها تحت أضواء الشوارع الهادئة وهو يرمي ويبعد بدموعه خطوات النجاح وكلمات الثناء والمديح &وتقبيل المعجبين , أوقفه ذلك السكون الذي دخل على هذه المدينة فراح يلف حول نفسه أين أهلها ؟ لقد أبقوا الصمت و العتب والخلاف خارجاً عند عتبة منزلهم , لكي يأنسون بمشاعرهم وتمتد جسور الود وتبقى حية بمرورهم فوقها كي يتمكنوا من ضمن أحبتهم إل صدورهم , و لتتحول تلك الصدور إلى حقول وبساتين ورد , و يبقى هو وحدة مع التعب على مقعد لا يشغله سوى الفراغ تحت عامود إنارة مكسورة , نظر إليها متأملاً عجزها أمام الحياة فلا النور يملئ صدرها ولا هي قد أزيلت !
بكى حبه .. وحدته ونجاحه , بكى صوته الذي يجتمع حوله المحبين &و أبعد عنه حبيبته , تلك التي تأخر عليها وعلى موعده معها لسبب &فني .. , في ذلك اليوم الذي وقف به أمامها وبيده تذكرة السفر التي ستأخذه إلى بلد النجاحات الفنية الكبيرة , وقف أمامها إلى جانب مستقبله وأحلامه طامعاً بتوقيع منها &بالموافقة على ورقة غيابه مدعي أن تلك التذكرة التي بين يديه هي تذكرة حب سوف يصل من خلالها لتحقيق جميع أحلامها , لم يكن كبيراً ليدرك أنه كان جميع أحلامها و أهمها &وأغلاها .. و أن تذكرة الحب تلك ستخلق صوتاً يغرد باسم الحب بقلب يملئه الحنين والشوق إليها .. لكنها كانت قادرة على رؤية ذلك فوقعت له " بمحبوبتك سابقاً " واختارت الواقع ومضى نحوه حلمه , ثم عاد ذات ليلة متأخراً جداً .