&
وأنا أقلب المجموعة الشعرية الصادرة حديثا للشاعرة العراقية إسراء الأسدي " أحياء في مقبرة " عن دار دجلة في المملكة الأردنية وبواقع 112 صفحة من القطع المتوسط ، وجدت أنها تعتني بلغتها الشعرية وهذا مؤشر نجاح الشاعر في مسعاه لتأسيس قاعدة شعرية رصينة لا بد لكل من يبتغي هذا الطريق سلوكه ، ففي عام 1945 كتب الشاعر الإنكليزي الكبير ت . س . إليوت : " الشاعر يجب أن تؤخذ لغته كمادة أساسية حينما يتحدث عنه كشاعر " .
الأسدي لا أغالي أنها انطلقت من هذا المفهوم وقد اختارت الومضة الشعرية في تأسيس أغلب قصائد المجموعة مع علمي أن هذا الجنس من الشعر هو الأصعب في كتابته ، حيث يتطلب من الشاعر اهتماما زائدا بمفرداتها وخصوصيتها كونها الأقصر بين العائلة الشعرية من ناحية الترکيب ، الوحدة العضوية ، والإيحاء وعدم المباشرة والانفراد باقتصادها الإيقاعي والصورة و اللغة و الفکرة ، والذي زاد من إعجابي بها أكثر أن مجموعتها هذه هي أول إصداراتها ما يعني كم هي متأنية ودقيقة في اشتغالاتها الشعرية وعشقها اللامحدود لها اكتشفنا ذلك من خلال بوحها الأول حيث كتبت تقول :
" عشقت الشعر منذ أول بيت سكن قلبي وحرك وجداني مبكرا ، لقد وجدت ضالتي بفضائه الرحب يسرقني مني ويعود بي لي .. أرحل معه لعوالم غير مرئية أتلمسها بشغاف الروح .. أحترق مع حرائقه .. أستحم بشلالات مفرداته المنهمرة فرحا وحزنا وعشقا عذريا ، فكانت كتب الشعر دواوين عزلتي ومنفاي الآسر ، تغنيني عما سواها من عالم زائف مجنون متحرك حولنا تتبدل ألوانه وموازينه كل حين " &.
ومع إعجابي الشديد بلغة الشاعرة وجدت قصائدها أسيرة العشق والموت والحياة وهي ثلاثية طالما ساح خلالها الشعراء واختلفوا في تأثيث رؤاها ، لكن الأسدي لها طريقتها الخاصة في تناولها ، أولها تلك اللغة بمفرداتها الغريبة واقتصادها الحرفي وتأطيرها بالصورة الشعرية الأقرب ما تكون إلى لوحة رسام ماهر والذي لفت انتباهي أيضا هي تلك السكينة التي تتحلى بها حتى وهي تتناول ألم العشق والموت والحياة ، نمر هنا على أول تلك الثلاثية العشق الذي احتل أولى قصائد مجموعتها الشعرية التي حملت عنوان " ومضات عشق بغدادية " وكأنها تبعث برسالة تقول فيها : إنه البداية لا ينتهي بزوالنا أبدا حتى وإن تعرض للنسيان ردحا من الزمن ، &تقول في مقاطعها الأولى التي أسمتها ( كحل ) :
بمرود كحل عيوني
كتبت إسمي
كتبت إسمك
فطارت نوارس ضوء
من مكحلة حزني
نحو دجلة
وفي مقطعها الأخير الذي عنونته ( قصيدة ) يكتمل ذلك العشق الذي كانت تلهج باسمه دائما :
قلت ...
بغداد ...
فاكتملت القصيدة
ولأن بغداد عشقها الدائم حتى وهي في أشد حالات الألم ، ها هو قلبها يطير لهفا إليها كلما نبض باسمها على بساط من ريح لتقف على مسافة واحدة من همس غبارها تقول :
همس الغبار
فوق أكتاف الجند
أن النصر ..
سيطرق أبواب المدينة
ورايات الحق
تعلو فوق قباب الجوامع
ولن يحرق الوطن
جمر الغزاة
وفحيحهم المسموم
لكنها تتمناها مدينة سلام ، مدينة حب خالية من أية حرب &:
بعد حائها
رب ..
يحمي العراق
ويرفع الراء
فيبقى ..
ح ... ب العراق
هذا التمني ليس "خيالا تأمليا " كما يذهب بعض الشعراء إليه ، فهي تعي تماما الفرق بينهما والحاجة لإبقاء تلك الجذوة مشتعلة في صدرها حبا وعشقا ، وقبل أن تكون لنا انتقالة إلى ثيمة الحياة والموت التي تقف الشاعرة عند أعتابها في عديد قصائد مجموعتها الشعرية ، لا بد أن نودع عشقها في قصيدتها " صلبان عشق " :
غوايات يتبعها عرس
علف ..
أنجاب ..
موت ..
لا رمل شاطئ
لا أغاني مساء
لا همس نوارس
لا عطر أحلام
هناك .....
وقبل الوداع
نتركها كشموع مطفأة
بعتبات كنائس الحب
مسمرة
على
صلبان
العشق
أما الموت فهو انتقالة أخرى لدى الشاعرة فكل شيء متوقف عن الحركة حتى الانتظار هو بعض ذلك الموت كما تعبر عنه في " أمنيات " :
قلوب حائرة
توسدها الحزن
أتعبها الظمأ
خذلها الزمان
أرواح سئمت
الانتظار
مشاعر
تأبى أن تفسر
هي ميتة
على قيد الحياة
أختزلت كل الأمنيات
ب عراق ...
هذه الأمنيات تبدو فرحا ناقصا عندما نفارق هذا الأخير كما في ومضتها " فرح " ، فالفراق صنوان الموت إن لم يكن كذلك :
دونك ...
كل شيء حزين
لأنك الفرح
الذي إن فارقته
لا يفارقني ...
والحياة وهي التأسيس والمنبت والقيامة عند شاعرتنا ، فقد يكون المطر كما في قصيدة " أنا والمطر " ، وقد يكون الوطن كما في " وصية " ، أو قد تكون الشمس ، أو القمر ، النجوم ، أو حتى الظلام ، كما في قصيدتها " شروق " ، أو الحب كما في " روضة قلبك " التي نقرأ منها :
كرات ملاعب حبك
ليل نجواي ..
يُسرح شعر طفولتي
تلهو النجوم
برقاد أخيلتي
طرقات خضراء
لنحل عسل كلماتي
المنهمر
من
مداد
عيونك
وهكذا نطوي رؤاها لهذه الثلاثية لنكتشف أن جميع قصائد الشاعرة إسراء الأسدي مسكونة بوجع إنساني ومنه انطلقت لتعبر عن مشاعرها ولتفجر براكين العشق والموت والحياة في مقابل أن تكون حروفها وهج لذكراها على رفوف الزمن هي قالت عنها منسية ، لكنني أقول لا إنه الخلود في أجمل صوره ، في قصيدتها التي نختتم بها قراءتنا " شرفات " نكون قد وقفنا من خلالها على كل ما أرادت الشاعرة قوله :
ستقفر الدنيا منا يوما
مثلما أقفرت تلك الشرفات
وتنسى
حتى الذكريات !
تذبل صورنا
ونصبح مجرد حكايات
أسماء وهمية
تشيعها الرحمات
ولا تبقى منا
سوى كلمات
على رفوف الزمن
منسيات
منسيات