&
&
وسط الحجرة البيضاء الصغيرة وبوجود مساحات الشمس التي تملئ ذلك البياض بالدفء، تجلس والدتها على المقعد الوحيد الذي وضعته بجانب النافذة المطلة على حديقة المشفى، مسلية نفسها بتلك الإبرة التي تحيك من خلالها غطاء جديداً قد لا يكون الأخير، فقد خرجت مع ابنتها منذ عامين في رحلة علاج من الحب، تلك التي زرعتها في حياتها كوردة لكنها اختارت السقوط كورقة خريف بين كفي والدتها، تلك التي تركت بوجعها وجعاً آخر يكبر كل يوم في قلب الأم التي تنتظرها بسبب الرجل الذي فتحت له باب منزلها وأدخلته أمام مجتمعها والتقطت معه أول صورة وهو يقبل جبينها بحثاً عن رضاء والدته، ثم أدخلها تحت ( بشته ) معلناً ولايته عليها.
الرجل الذي جاء غريباً ثم أصبح عالمها بأكمله، لقد كان زواجهم تقليدياً لكنه قدم جميع الواجبات الاجتماعية بسخاء، فتحول من زوج إلى حبيب ومن ثم إلى صديق تتوقف الحياة بغيابه، حتى أصبح هو الوطن والملاذ الآمن، رأت معه بأن لكل وطن شعبه.. ولم تكن ترى بأنها كافية فأنجبت منه ملاكاً وزهرة أصبحت عطر منزله ونوره، كان عيبه أنه كثير الغياب لكن ما إن يعود تشعر بأنه يحضر كله حتى أنه كان يشعرها بأنه يحيط بها من كل جانب باهتمامه، تعلمت من أجله الكثير.. كيف تجدد من نفسها.. كيف تكون شكل ابتسامتها بوجهه، كيف توقف دوران الأرض بوجوده، كيف تسابق عقارب ساعته حتى تكمل احتياجاته قبل ان يشعر بنقصانها، لم تسأل نفسها يوماً عن سبب سخاءه، لكنها كانت دائمة الانشغال بأمر سعادته وارضائه.
ذات يوم كانت تنتظر دور ابنتها في ( المستوصف ) وبعد دخولها وعندما أراد الطبيب المعالج صرف العلاج أخبرها بأن شقيقة طفلتها قد خرجت للتو وهي بذات عمرها، لقد كانت الصدمة أكبر من ادراكها فأخرج لها الورقة التي دخلت بها الطفلة السابقة، لم يكن ذلك الطبيب كاذباً بل كان زوجها ممثلاً رائعاً لرغبته بنيل الدعاء من قلب راض عنه، لذا فقد قبل بعرض والدته واعداً قلبه بأنه سينال حبيبته، فجمع بين قلبه وعقله تاركاً لكل واحدة حقوقها كاملة، حتى سقطت هي بوحل واقعها المزيف، فتنازلت عن الحياة واختارت الدخول في عالم لا تنتظر به أحد ولا تضطر به إلى الثقة بأحد، تركت يد الحياة وأوقفت عمل أعضاءها إلا قلبها كان شديد التمسك بحبه ولم يقبل بأمر التنازل عن ذلك الحب الذي ينبض بداخله.
فتح باب الحجرة ودخل يدفع بطفلته لتذهب وتقبل كف جدتها، طارت الأم برؤية حفيدتها وأسعدها أنه لايزال مستمراً بزيارة ابنتها رغم انفصاله عنها وتركها بين ذراعين ( الغيبوبة )، تقدم نحوها وهمس بأذنها : " لازلت صغيرة.. قاوميني، فمازال هناك وقت للحب والحياة مع رجل آخر، تذكرت شيئاً.. لقد كنت أتعمد نسيان أن أقول لك في كل مرة : أنت مرآة جميلة وطيبة ولو كنت أنا الذي اختارك زوجة لأحببتك جداً ".
&