لا تُقرأ رواية هاني نقشبندي «طبطاب الجنة» كأي رواية أخرى، ففيها نقاش الحياة والموت، والعروة الوثقى بينهما، في مسير عاشق ومعشوق ومسيرة صنع القدر، جنةً أو جحيمًا، في أرض تصير يبابًا إن لم يحرثها الألم. التقته "إيلاف" فكان حوارًا يطرق باب الوجود ويفتحه بمفتاح الحب.

دبي: يسلك الحوار مع الروائي والاعلامي السعودي هاني نقشبندي مسالك وعرة جدًا، خصوصًا أنه زاوج بين الكتابة الصحافية التي تمرّس في زواريب أخبارها فأدرك كيف يصطاد النبأ، وبين الكتابة الروائية التي نالت منه فحولته راويًا يختلس من الحبر ما يسعفه في القصّ. وما مجالسة رجل من عيار نقشبندي إلا رحلة «سفاري» استكشافية لأعماق النفس الإنسانية، خصوصًا أنه يعدّ حياته رحلة إلى الموت، «بل إن لحظة الولادة هي البداية الحقيقية للموت، والمرحلة الأخيرة التي علينا اجتيازها للوصول اليه»، كما قال لـ«إيلاف».

انعتاق الروح

ردد مرارًا في أثناء هذا اللقاء أنه لا يريد أن يكون متشائمًا، «لكنني أقول دائمًا إن أجمل فعل يختم به الإنسان حياته هو الموت، لأنه انعتاق للروح الكبيرة من الجسد الضيق، لهذا يصير الحديث عن الموت والحياة في الواقع حديثًا عن موضوع واحد بكلمات مختلفة».

 

قصة عاشقٍ مشى الهُنيهة نحو حتفه 
«طبطاب الجنّة»... هيامٌ في مقبرة حواء

 



أضاف: «لا نخاف الموت لأنه يبعدنا عمن نحب فحسب، بل لأنه مجهول. ونحن لو تأملنا حياتنا اليومية قليلًا لوجدناها كلها، من أولها إلى آخرها، عملًا مجهولًا. فمن ذا الذي يعرف ما سيحدث له بعد دقيقة أو يوم أو شهر؟ فشئنا أم أبينا، نسير نحو المجهول في كل لحظة من حياتنا، أما الشيء الوحيد الذي يخرج عن نطاق المجهول في مستقبلنا فهو الموت الذي ندرك جميعًا انه الحقيقة الوحيدة التي سنواجهها، عاجلًا آم آجلًا. من هنا أتت روايتي (طبطاب الجنة) لتتحدث عن الحياة والموت كثنائية متلازمة، وكأن هذه هي تلك، فبعض الناس أموات ولو كانوا أحياء، يعيشون بلا هدف أو غاية».

امتداد للحياة

يتذكر نقشبندي، إن لم يخطئ، عبارةً للكاتب البرتغالي سراماجوا، إذ قال إن الأموات فوق الثرى أكثر من الأموات تحته. وما الموت نقيض للحياة، بل امتداد حقيقي لهذه الحياة، "ربما نجهل - أو لا نجهل - أن المتناقضات التي نعيشها، والتي نراها، والتي نصادفها في حياتنا، هي امتداد أقصى لكل شيء. فالأسود امتداد للأبيض، والنهار إمتداد آخر لليل، ونحن نسمي هذه المسائل كلها متناقضات، لأن هيئتها الخارجية تختلف، لكنها شيء واحد في المضمون».

لكن أي متناقضات يريد نقشبندي أن يظهّرها في "طبطاب الجنة"، وهي التي تروي – بحسبه - تفصيلات العلاقة بين رجل وامرأة، في حب وفي موت، "وهي ليست متناقضات، بل عناصر طبيعية تكتمل بها حياتنا، ونحن نتقلب بين هذه وتلك. فالرواية تريد أن تقول إن الموت لا يخيف، وإن الشيء الذي ينتصر على الموت الذي يخيفنا هو الحب، لكن المشكلة تكمن في أن الحب نفسه ينهزم أحيانًا أمام الخوف، وربما ينتصر في حالات نادرة، وهذا ما حدث في الرواية عندما استطاعت البطلة أن تثبت أن حبها أقوى من الموت. ربما نعتقده انتصر، لكنه لم يفعل، بل هي من انتصر لأنها انتقلت من حياة ضيقة إلى حياة رحبة». 

يضيف نقشبندي لـ"إيلاف": "أردت أن أقول في الرواية إن كان الرجل يحب بقوة فالمرأة تحب بإخلاص، والإخلاص منتصر دائمًا".

إلى أي جانب؟ 

أن يبحث روائي، تغلب على نفسه استقصائية الصحافي، في علاقة الحب بالموت، سيّ أن يُدسّ بين سطور روايته قليل من نفسه. يقول لـ"إيلاف" إن ثمة بعضًا ربما يرى مسحات سوداوية في الرواية لأنها تجعل من الموت أحد أبطالها، «والحقيقة أن الأمر كذلك بالفعل، لكنه ليس البطل الوحيد. فمعظم قصص الحب في التاريخ، إن لم تكن كلها، لا تنتهي إلا بالموت، في خاتمة ظاهرية فحسب، لأن الحب أزلي كما الموت. وإن كان ثمة قاسم مشترك يربط بين الإثنين، بين الحب والموت، فهو الألم، لأن كليهما مؤلم، والمخاض، لأن كليهما خلاص.

لكن يا أيها نقشبندي الراوي، إلى أي جانب تقف؟ أهي تجربة الجانب الأسود من الحياة أم الجانب الأبيض من الموت؟ فيراوغ إذ يقول إنه يقف على الحياد «إن استطاع إليه سبيلًا، إلا أن ليس للحياة جانب أسود، إنها مزيج ألوان، يتقلب فيها الإنسان حتى يبدو لوحة سوريالية. وهو لن يرحل عن الدنيا قبل أن يتلطخ بجملة الألوان تلك، لأنه انسان يفكر ويتحرك».

يرى هذا الراوي أن الحياة جميلة، كما الموت جميل، يسترسل: «أحاول أن أكون محايدًا، لا أقف مع أحد أو ضده. حتى إنني أقف على مسافة واحدة من أبطال الرواية أنفسهم. غرسة التي تحب سلومي، وسلومي الجالس على قبر محبوبته الميتة، كلها شخصيات لا أتعاطف معها ولا أعارضها، هي من تصنع الحوادث لا أنا. وإن كان من حقي أن أبدي رأيًا تجاه أحدهم فأكتفي بالقول إن سلومي، الساكن على قبر محبوبته، رجل أحمق لأنه يريد أن يموت قبل أن يتمّ جملة الألوان في حياته، فهو الشيء الأسود في الرواية".

العيش مضطربًا

أحمق؟ أليس هذا توصيفًا قاسيًا، ولا سيما أنه يأتي من الراوي نفسه؟ ربما... خصوصًا في مسار تبلور إشكالية أن يذهب من تحبه ويبقى من يحبك في تظهير مسألة الجارة العاشقة والمعشوقة التي تحولت رفاتًا في الرواية. يجد نقشبندي دومًا، وبصورة غريبة وساذجة في آن معًا، "أن أكثر المحبين أطراف علاقة غير متكافئة. فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تجد تكافؤًا في الحب بين شخصين، بين زوج وزوجة، عشيق وعشيقة. سيكون حب أحدهما أقوى من حب الآخر، وفي رأيي أن يجد الإنسان من يحبه خير من أن يعيش على أطلال من أحبه هو. ربما كان ذلك خطأ أو غير عادل، لكن من قال إن الحياة تكتمل بلا أخطاء، ومن أخبركم أنها عادلة دائمًا؟"

برأي نقشبندي، ما يغذي الحب هو خوف فقدانه ليس إلا، "لذلك يحب الخطيب خطيبته والعكس ايضًا لأن أحدها خائف من خسارة الآخر. وعندما يحدث الزواج ويحصل الإطمئنان إلى أن الطرف الآخر بات مضمونًا، يبهت الحب وتختفي ألوانه. فالحب لا يعيش قويًا إلا في جو من الإضطراب والعواصف وعدم اليقين. هكذا هو. نبتة برية نادرة يصعب الوصول إليها بلا جراح أو اصابات. لذلك، المحب الحقيقي هو المثخن بالجراح.

دفة التعاطف

يقرأ القارئ الرواية فيتعاطف مع سلومي العاشق وسلومي النبيل. لكن... هل يبرر الإخلاص هذا الجنوح الراديكالي نحو الحتف المحتم؟ ربما لا يجيب نقشبندي عن هذا السؤال، لكن واضح في أنه لا يتعاطف مع سلومي، مع رجل يدير ظهره للدنيا مستعجلًا الموت، "فصحيح أن هذا الأخير امتداد للحياة، أو وجه آخر لها، لكن على كل مرحلة أن تكتمل بذاتها لا أن نستعجل اكتمالها، فإن كان سلومي حارب من أجل محبوبته التي ماتت، فقد دخل معركة خاسرة لأن قيمة المعارك في نتائجها... أي نتيجة حقق من البقاء جالسًا على قبر؟"

لا يربط نقشبندي هذا الأمر بالإخلاص، لكن يربطه بالخيالات التي عاشها باكيًا على قبر محبوبة لن تعود أبدًا، "فقيمة الإخلاص أن نمارسه ونعيشه مع حبيب نراه ونلمسه، فقد اراد سلومي أن يواصل حماقته بالبقاء على القبر، وأراد ان يوصل رسالة ‪-‬ لا تعرف لمن؟ ‪-‬ بأنه العاشق المخلص، في حين كانت غرسة أشد اخلاصًا منه ألف مرة، وإن كان ارتضى البقاء حيًا على قبر فتاة ميتة، فغرسة ارتضت أن تنتقل الى حياة أخرى لا تعيش فيها ألم الإنتظار العبثي"، كما سرد نقشبندي لـ"إيلاف".

خروج على المألوف

يبدو نقشبندي عاشقًا بين دفتي روايته، ففي كل يوم، في كل لحظة، كما يقول، "هناك روميو وجولييت، هناك سلومي وسلمى، فالعشق والفراق واللذة والألم كلها عناصر تشكل تركيبة يومنا الواحد، إنها ممزوجة بالهواء الذي نتنفس والماء الذي نشرب، وما الموت الحقيقي غياب الروح عن الجسد، بل غياب الحب، والله سيعاقب كل من لم يجرب الحب ولو مرة في حياته، فالحب جزء من الروح الألهية في داخلنا، كما الصلاة... كما العبادة".

ربما مقولة نقشبندي هذه خروج على مألوف شرقي يكبلنا، لكن روايته أصلًا تقوم على خروج على المألوف... يقول: "غرسة فتاة رائعة وقوية حقًا، ولم تكن تأبه بأيقونات المجتمع الثابتة، ولا بقوامة الرجل عليها في كل شيء... تعجبني عبارتها إذ تقول إن النساء في الحي الذي تسكنه ميتات يسرن على أقدام، تلعن ضعفهن، وتتمرد على ضعفها هي نفسها في مجتمع فاقع الذكورية. فما يميز غرسة في روايتي من النساء الثائرات على ذكورية المجتمع أنها كانت تنظر إلى الأمور من زاوية مختلفة، فما كان يعنيها شأن المساواة الظاهرية بين الرجل والمرأة، بل كانت معنية أكثر بالمساواة الإنسانية في حق العشق والبوح به، وكانت أعمق من الأخريات وأجرأ، لكن على طريقتها هي... إنها أنموذج نسائي لا يتكرر". 

نصنع جنتنا ونارنا ينكر نقشبندي اتهام روايته بأنها تفشي الأسرار، ففي نظره أن لا اسرار شخصية تكشفها، إنما آراء شخصية، "وأهمها أن الحب أمر إلهي علينا إلتزامه، فإن كان المجتمع، أي مجتمع، يملك قوة الهيمنة على أفكارنا وتصرفاتنا، فهو لا يملك قوة الهيمنة على قلوبنا، والحرية في الحياة ليست في السياسة، ولا في إبداء الرأي والرأي المعارض، بل في اختيار الحب الذي نريد، بالطريقة التي نريد. وإن كانت المجتمعات العربية الذكورية في حاجة الى إصلاح، فهذا ليس إصلاحًا سياسيًا أو اقتصاديًا، إنما هذا إصلاح إنساني".

وإن تغاضينا عن مسألة الأسرار، فما يقول في مسألة الخلود وحلم الجنة وأكسير الحياة؟ فهو لا يرى جنة في السماء وحدها، إنما يذهب إلى إمكان تحقق الجنة في الارض أيضًا. يقول لـ"إيلاف": "نحن نصنع نارنا إن شئنا، وجنتنا إن شئنا. إن كان الموت غامضًا مجهولًا، فالجنة أيضًا غامضة مجهولة، لذلك صنع جنة نعرفها على الأرض خيار لا بد منه، وهو خيار جميل جدًا. أما الخلود فقضية جدلية لكن نزقة".

يسأل: "هل يحقق الخلود السعادة؟ لا أعتقد ذلك. فهو واثق من أن الخلود ضرب من العذاب، لأن جماليات الحياة تكمن في أنها تحرث نفسها، ولو بقيت الأرض بلا حرث تموت".

ختامًا، للأسف، يسرّ نقشبندي لـ"إيلاف" أنه قريب من شخوص كل أعماله الروائية، يتجسدون أمامه حتى يكاد يلمسهم، ويصافحهم، ويجالسهم، "لكن في رواية "طبطاب الجنة" كنت حذرًا، ولعلي كنت خائفًا من خلخلة التوازن الدقيق بين الحياة والموت والحب. كنت أخاف حتى الإقتراب من سلومي الجاثم طويلًا فوق قبر محبوبته حتى لا أقطع عليه عبثه الذي يراه نبلًا. وما زلت حتى اللحظة، بعد أن صدرت الرواية، اخاف الإقتراب منها".