عبر جملة من النصوص القصيرة تصنع الشاعرة شاهيناز رشيد ملامح ديوانها:" بصمة قلب منفردة" ( دار أزمنة، عَمّان ، 2016) والنصوص القصيرة هنا تلوذ أولا بكثافتها، فثمة نصوص كثيرة فلاشية وبرقية وومضية، مكونة من ثلاثة أسطر شعرية، وثمة نصوص أخرى تتراوح بين أربعة إلى عشرة أسطر. القصر هو عنوان شكلي أولي في الديوان الذي يقع في 150 صفحة وينطوي على ( 114) نصا.&
تنحو الشاعرة إلى رصد مواجيد الذات ورؤاها، كتقليد شعري أصبح باذخا في قصيدة النثر اليوم، إنها ترصد التفاصيل، وترصد الحياة التي تعايشها، من دون الابتعاد عن الأفق الوجداني الرومانسي الذي يظلل كتابة المرأة عادة. وهو الأفق الأوليّ الذي يتفتح في فضاءات الكتابة على الأغلب، حيث يشارف به المبدع قيما جمالية معينة، ويرى إلى ما هو إنساني قيمي مرتبط على الأغلب بدالة: الحب، ثم بعد ذلك تتشكل رؤاه وخبراته التي تقوده إلى أسئلة أكثر جوهرية وهواجس مسنونة تسائل الذات والعالم معا.&
في تفاصيل ديوانها سنلمح جملة متعددة من الرؤى الشعرية تتمثل في: استلهام القيمي الوجداني، وتوصيف حالات ومشاهد من أسئلة الحب، والاحتفاء باللعب العباري اللغوي، باستحضار الكلمة ونقيضها حينا أو الجملة وما يناقضها أو يتواءم معها، وهي ظاهرة تتجلى في عدد من النصوص لدى الشاعرة التي تهدي ديوانها إلى اللغة :" إلى اللغة التي أعطتني الحرف حبيبا ملازما لقلبي، وإلى الذين علموني كيف أختبئ في أحضانها، وألوذُ بدفء كلماتها من برد الحياة" .&
ومن الرؤى الشعرية التي تزجيها الشاعرة عبر نصوصها ما يمكن وصفه ب:" التسمية" أو لنقل بمعنى أوسع:" التعريفية" حيث تقوم بتسمية الأشياء أو الظواهر أو حتى بعض الكلمات وتفتح مجالا تعريفيا لها. تقول تمثيلا:
في نص :" سلطان الأدواء" :
سلطانُ الأدواء هو مكانه وسط القلوب
وجعه سكرة الموت
كل جرعات التطعيم قبله
كل مسكنات الألم معه
كل عمليات الترميم بعده
بلا جدوى ! / ص 112
&
وفي نص بعنوان :" ل ا" :
ل ا&
حرفان كالجمر
كيف بإمكاني أن أضعهما على لساني
حين يهطل مطرُ ندائك على قلبي؟! / ص 113
فسلطان الأدواء هو ما يتسلل وسط القلوب، وهو الذي يحدد المصائر الوجدانية، واللا حرفان كالجمر، ترى من يقبض عليهما إذا تسللا لفضاء الحب؟ الشاعرة تكرر هذه الرؤية في نصوص كثيرة منها: عسر، فارق توقيت، الساحر، العتب، مفاجآت، نزف وولادة، الهدية.&
والشاعرة في ابتداعها رؤاها الشعرية داخل الديوان ، وهي رؤى قد تلوذ ببساطة ما، أو تعيد صياغة الأسئلة القريبة، تسعى – على اليقين- إلى الإفضاء عن أشياء الذات وما تكنه من هواجس، لكنها تعثر على هاجسها القيمي في الحب أو الفقد أو الحزن أو تجميل المشاهد، أو إعادة التسمية بما يتواءم والبعد القيمي الذي تختزنه الذات.&
&
الوصفي الراصد:&
كتابةُ الشاعرة شاهيناز محمد رشيد من الكتابات الأكثر يقينية بالأشياء، لكنها يقينية راصدة واصفة على الأغلب، وهذا الرصد والوصف يتحرك ليلامس أشياء متعددة. لمحة طائر على بعض العناوين التي تأتي على الأغلب من كلمة واحدة أو من كلمتين، تدلنا على تلمس هذه الأشياء والأجواء التي تقدمها الشاعرة، وكعينة عشوائية نقرأ هذه العناوين: جنة، تنكر، معطف الصبر، شوقي الرضيع، حصان وفارس ، لو لم، شراهة، أسرى، الخديجة ، غربال، ثقل، الطريق، اللاجئ.&
مسميات النصوص القصيرة الومضية الفلاشية هي مسميات راصدة على الأغلب، وواصفة، والرصد هنا عبارة عن رصد الأشياء والعمل على أن تتجاور سياقيا جنبا إلى جنب من دون أن تنهل من استعارات أو مجازات إلا بشكل قليل . هذا الرصد ربما يعطي نوعا من المثاقفة الدلالية للسياقات، لكنه قد يقف حائلا أمام تشكيل الصورة. والشاعرة تقدم ما تقع عليه الحواس لا ما يقع عليه السؤال. مسألة استقصاء كنه العالم ربما تكون غائبة لدى الشاعرة والبديل هذا الفرح بالرصد، والوصف. والوصف في الديوان يقع على مشاهد متعددة تنقل الأشياء على صورتها. وحين يتجاور الأمران: الرصد والوصف نحن حيال سياقات متعددة تترى على أسطح الكلمات لا تغوص إلى جوهرها إلا في بعض النصوص التي تتحقق فيها قيمة السؤال، وينسرب الوعي داخل كلماتها.&
&
نصوص فلاشية:
من ضمن الأشكال الشعرية القصيرة جدا التي تقدمها الشاعرة في ديوانها، النصوص الفلاشية التي تتشكل من سطرين إلى خمسة أسطر، معبرة عن رؤية من المفترض أن تكون كثيفة، حيث تتكثف الصورة أو المشهد، وحيث تتأدى على الأغلب عبر صيغ السؤال أو المفارقة أو التضاد، أو المقابلة، أو تتأدى في أفق مجازي ترميزي. وفي هذه النوعية من النصوص طاقة دالة، وفيها الحدة أو الرهافة الشعرية التي تتوخاها الشعرة في بعض رؤاها الشعرية، ومن هذه النصوص، نقدم هذه العينة:&
- " جنة" :
لو كنتَ معي
لكانت لهذا الجحيم أسماء أخرى
كالجنة مثلا / ص 31&
&
- "ضياء" :&
&
تريدُ العينُ ضوءًا لترى
أما القلب
فيريد أن يرى ليضيء. / ص 11&
&
- " شراهة " :
&
يتعجبون من زهدي بهم
ولو عرفوا من أزهد لأجله
لتعجبوا من شراهتي . / ص 39&
&
- " شجرة" :
&
أنا شجرة لم تولد بعد
أدفنُ قلبي في تراب صدرك
لأنبتَ . / ص 85&
&
في النصوص الفلاشية ثمة صدمة تعبيرية، فالجحيم يمكن تسميتها بالجنة، وعين القلب تسحب الرؤية من العين، وهي رؤية ممزوجة ببعد تراثي، والحالة الموائمة في شراهة تنقلب لحالة ضدية، والشجرة تولد هناك من تراب القلب. ربما هي صدمة مخففة تبعا للأفق الوجداني الذي تبثه الشاعرة. لكن ثمة مفارقات وثمة رؤى ضدية، وثمة حالة من الإفضاء تصلنا عبر هذه الفلاشيات. لتثير قدرا من التوتر القارئ ربما يكون توترا لحظيا، لكنه على الأغلب يقود إلى فعل تأثيري ما ولو كان طفيفا، خاصة وأن هذا القصر الشديد جدا قد يؤدي إلى حفظ الصيغة الشعرية وتواترها.&
لكن هذا الأمر يثير من وجهة أخرى سؤالا حول لجوء الشاعرة – والشعراء عموما – إلى استقطار هذا النمط الشعري، الفلاشي أو البرقي القريب من فن الهايكو الياباني، والقريب من النصوص القصيرة جدا المترجمة من فضاء الشعر الغربي؟ إن دقة اللحظة وسرعتها اليوم قد تتطلب مثل هذه النوعية من النصوص، وهي من المؤكد أنها مطروحة في الشعرية العربية المعاصرة منذ أكثر من خمسة عقود على الأقل، لكنها تحولت إلى ظاهرة اليوم. ربما بفعل فورة التقنية، وتسارع إيقاع الزمن، لكن سؤال التأثير الكبير لمثل هذه النماذج سيظل مطروحا، وسؤال احتضان هموم وأسئلة القضايا الإنسانية والوطنية سيظل مطروحا، وسؤال العناية بالتفاصيل اليومية أو بالتفاصيل التي يختزنها المكان والزمان سيظل أيضا مطروحا.&
&
وعي أسلوبي:
&
ثمة ظواهر أسلوبية نشير إليها هنا بإيجاز تستند إليها الشاعرة في تقديم نصوصها، منها : السؤال، وتكرار أدوات الاستفهام، ومنها اللعب اللغوي برد الجملة كمترادفات أو بالتضاد معها.&
ويشكل التكرار آلية أسلوبية من الآليات الدائمة لدى الشاعرة، كما في نص :" ظنون خائبة " مثلا ص.ص 72-73&
وقد يتأدى التكرار لا عبر كلمات محددة، بل يتأدى أحيانا على هيئة تكرار صيغة نحوية كتكرار المضاف والمضاف إليه في نص بعنوان:" سذاجة" ص 83&
أو يكون التكرار من خلال تكرار أداة استفهام كما في تكرار :" لماذا؟" بنص :" أسئلة" وفي نص " فارق توقيت" تعبر الشاعرة برؤية يحركها الوعي أو ما يسمى أدبيا بمفهوم:" تيار الوعي الحر" الذي يعيد للأشياء جوهرها فتتلاقى المتضادات على مسافة واحدة، تقول الشاعرة:&
لا أضداد في الحياة
الدمعةُ هي البسمةُ
الحزنُ هو الفرحُ
القريبُ هو البعيدُ
الميتُ هو الحيُّ
الفرقُ : فارقُ توقيت
لا أكثر . / ص 121&
&
من جانب آخر &تمنح الشاعرة حواسها فرصة التقاط الأشياء دائما مع ربطها بذاتها : كما في نص: "شجرة " ص 85&
لكن ما يقلل أحيانا من الأثر الجمالي لبعض النصوص لدى الشاعرة هو مسألة :" &التبريرية" التي من المفترض شعريا وتبعا لما يحدثه التكنيك الشعري من أثر أن تكون لا يقينية، أن تكون متسائلة أكثر ، كما في نص : "حاجات" ص 155 و في نص " الساحر" &حيث تقول:&
الحب:
الساحرُ الأول في سيرك الحياة
وحده
يكشف عن ذراعيها المخبوءتين
لتحتضنا جسدك
يظهر بسمتها الخفية
ليبتسم ثغرك
يشعل أضواءها المطفأة
ليهتدي قلبكَ&
يرفع صوت موسيقاها الخافت
لترقص روحك . / ص 142-143&
مع ذلك سعت الشاعرة إلى تقريب المسافات التعبيرية، واصفة أو راصدة، كما سعت إلى التعبير عن ذاتها عبر أفق وجداني شفيف، يصبو إلى ملامسة الكلمات في مباشرتها أحيانا، وفي اهتمامها بالمعنى الوامض المكثف، بنصوص متفاوتة الطول وإن كان أغلبها فلاشيا ، كما حاولت أن تتبصر بما هو مخايل عبر الحلم أو الرؤيا أو استشعار ما تكنه الحواس من رؤى تلامس الأفق الحسي القريب وتلامس حالة الذات في هواجسها وأسئلتها الشفيفة.&
&