إيلاف من سيدني: أصدر مؤلف الروايات الجاسوسية جون لي كاري، وإسمه الحقيقي ديفيد كورنويل، مؤخراً، مذكراته في كتاب بعنوان رئيسي (نفق الحمامة)، وآخر فرعي بعنوان (قصص من حياتي)، مؤكداً أنه سوف لن يفكر في الحديث عن سنوات عمله في سلك الجاسوسية. مع ذلك، وبعد بضع صفحات، يبدأ برواية مفارقاتٍ عن مدى تأثير شخصياته في إثارة غضب كبار المسؤولين السابقين. يكتب لي كاري قائلاً إن فكرة نقل تجربة ما من عالم الجاسوسية إلى قصة ليست أسوأ ما يمكن أن يقوم به عميل خائب. ويتساءل الكاتب الروائي، البالغ 84 عاماً، والذي عمل لحساب المخابرات البريطانية خلال فترة الحرب الباردة، قبل أن يتفرّغ للأدب، على إثر الشهرة التي حققتها روايته (الجاسوس الذي جاء من البرد)، يتساءل "كم من جواسيسنا المعذبين كانوا يتمنون أن يكتب إدوارد سنودين رواية ما؟".

وتثير مذكرات جون لي كاري العديد من التساؤلات لخبرته وقدرته على التمويه والتهرّب بذكاء حاذق من المواقف المحرجة، حيث نادراً ما كان يسمح لإجراء لقاءٍ معه، كما أنه لم يرو قط عن طبيعة دوره أثناء إشتغاله عميلاً، كي لا يحرج مسؤوليه، ولم يوضح مصدر إسمه المستعار ( إسمه الحقيقي هو ديفيد كورنويل). وكان كتاب آدم سيسمان الموسع حول سيرة حياة لي كاري (700 صفحة باللغة الإنكليزية)، والذي صدر العام الماضي، قد تطرق إلى جزء كبير من هذه الأسرار، من بينها، أن العميل البريطاني السابق كان يتجسس على زملائه في الكلية. 

من تاتشر إلى عرفات

ومع ذلك، يعد (نفق الحمامة) كتاباً مختلفاً تماماً، لأنه يتجنب الخوض في حياته الشاملة، ويروي سلسلة من المواقف والقصص، بصورة عامة، تنتهي إلى رسم صورة لشخصية رجل ساخر، وثيق الصلة بالآخرين، وسخي، يحقق شهرته عن بعد، يستغل قوته من كونه واحداً من أكثر الكتاب نجاحاً في العالم، لإرضاء فضوله، ولكن أيضاً لمنح الصوت لمن لا صوت له.

تحتضن صفحات الكتاب البعض من الأصوات المعروفة، من أمثال ياسر عرفات، ومارغريت تاتشر، وغراهام غرين، وريتشارد بيرتون، وأيضاً البعض من المتعاونين المجهولي الإسم، وجواسيس، وطبعًا، والده، المحتال الذي دخل سجن العديد من البلدان، وهذا النص الخاص بوالده كان قد نُشر في مجلة (ذا نيو يوركر).

ويروي لي كاري في مذكراته أيضاً أحداث اليوم الذي تناول فيه الغداء مع جوزيف برودسكي، وهو نفس اليوم الذي تم فيه الإعلان عن فوز الشاعر الروسي الكبير بجائزة نوبل. يقول لي كاري عن العلاقات بين الأدباء "من خلال تجربتي، ليس لدى الأدباء ما يقولونه إلاّ القليل، سوى ما يتعلق بدور النشر والقراء، أو لديهم القليل ليقولوه لي، ولو عدت إلى الوراء، أجد من الصعب أن أتذكر ما دار بيننا من حديث في تلك المرة".

القاعدة رقم واحد في الحرب الباردة

عمل جون لي كاري بصفة جاسوس لبريطانيا في بون إبان الحرب الباردة. ولا يحبذ مؤلف الروايات الجاسوسية الحديث عن هذا الجانب من حياته، لأنه لا يريد أن يبدو خائناً لمن إشتغل لحسابهم، رغم مرور العديد من السنوات على ذلك. ويعود الفضل في تكريس لي كاري حياته للأدب، للشهرة التي حققتها روايته الثالثة (الجاسوس الذي جاء من البرد).

ويذكر لي كاري في كتابه ما تعلمه من تلك السنوات، التي إنخرط خلالها في عالم الجاسوسية: "القاعدة رقم واحد في الحرب الباردة: لا شيء، لا شيء على الإطلاق، على ما يبدو. لكل فرد نية ثانية، وربما ثالثة. مسؤول سوفياتي يقترح علناً القيام بزيارة مع زوجته، منزل دبلوماسي غربي لا يعرفه؟ من الذي يحاول الإيقاع بالآخر؟

وفي المقابل، من بين القضايا التي ينظر الكاتب إليها بجدية أكثر، هي تحليله لعلاقة الألمان ما بعد الحرب مع الماضي، لاسيما كبار المسؤولين في الإدارة النازية. حيث يبدو إستنتاجه حاسماً "كلما كنت تصر على البحث عن الحقائق المطقلة، كلما وجدت أقل الإحتمالات". وهذا مرده الإفتقار إلى اليقين وعدم القدرة على إستخدام الأسود والأبيض لوصف عالم التجسس المظلم، وهذه تشكل واحدة من الثوابت في كتبه الأكثر أهمية وشهرة.

وتتسم أعمال لي كاري أيضاً بالشك الدائم، والكثير من النقد الذاتي. ويروي أنه كتب أحد مشاهد روايته (سمكري خياط جندي جاسوس) بأجواء هونغ كونغ، من دون أن يتحرك من مكتبه في كورنوال (جنوب إنكلترا)، مستعيناً بدليلٍ أكل عليه الدهر وشرب. وعندما سافر إلى المدينة الصينية لسبب آخر، وكانت الرواية على وشك الصدور، أدرك أنه قد إرتكب خطأ كبيراً، كان من الممكن أن يتفاداه لو تحقق منه على أرض الواقع. يقول لي كاري "النضوج كان قد أحالني إلى رجل بدين وكسول، لا أزال أعيش على ما تبقى من خبرتي الماضية التي كانت على وشك أن تنضب. كانت ترن في أذنيّ جملة لغراهام غرين، ما معناه أنه لو أردت أن تكتب عن المعاناة البشرية، عليك أن تعيشها". 

تناقضات

يشرح آدم سيسمان في سيرة جون لي كاري الحياتية، موضحاً أن المشكلة الكبيرة التي واجهها عند الشروع بالبحث والتقصي عن الكاتب، عثوره على العديد من التناقضات في مذكراته، في المقابلات التي أجريت معه، أو التصريحات التي كان قد أطلقها في الماضي. كان لي كاري يكرر دائماً أنه لا يكذب، لكن وببساطة شديدة، كان خبيراً في إخفاء بصماته، سواء كجاسوس سابق أو روائي كبير. كان ماضيه يختفي بسهولة على طول الطريق. أن الخلط بين ما نعيشه والخيالي، جسده أوليفر ساكس عندما كتب أجمل الصفحات: كل واحد منا لديه ذكريات من صنع الخيال تشغل ذات الحيز، الذي تشغله ذكريات حقيقية. في نهاية المطاف، لا يهم ما هو حقيقي، وما هو خيالي في كتاب (نفق الحمامة)، ليس هناك من قائل إن المذكرات يجب أن تكون مطابقة للواقع، يكفي أن تكون مثيرة.