يكتب بروس سبرينغستين سيرة ذاتية لنفسه، لشاعر أميركي اتخذ تحطيم الصناعة سبيلًا، وتقدير ذوي الياقات الزرقاء مسلكًا لأغانيه. لا تشيخ قصصه، فبعد سنوات من كتابتها تبقى درسًا في التعاطف مع المشجعين من ذوي الياقات البيضاء الذين جذبهم دائمًا.


إيلاف من لندن: صارت أجمل اغاني بروس سبرينغستين أبدية، مثلها مثل الفن العظيم. وكلما كان تركيزها محليًا تحولت عالمية بصورة سحرية.

وعلى حد تعبير سبرينغستين في سيرة حياته الجديدة "وُلد ليركض" Born to Run - Biography and memoir (منشورات سايمون آند شوستر. 528 صفحة؛ 32.50 دولارًا و20 جنيهًا استرلينيًا)، يغني عن "فرح الحياة اليومية وغصاتها"، عن رتابة الهزيمة والتحدي، عن الحنين إلى الأهل وجاذبية شد الرحال، وكلها ثنائيات مألوفة ترتقي على نحو ما في أغانيه الشعبية إلى ميثولوجيا أميركية جديدة.

رجل التصليحات

كما تروي هذه السيرة، توحي هذه الأغاني بأنها صادقة، لأنها صادقة حقًا. وتكمن في صميم نتاجه وكتابه علاقته المؤلمة بوالده الذي كان في بعض الأحيان شرسًا، يأتي بسبرينغستين الطفل من حانات فريهولد في نيو جرسي إلى والدته التي طال عذابها بسببه.

يسجل سبرينغستين حروبه مع والده حول شعره الطويل، والتي تكللت بإحضار الأب حلاقًا حين كان ابنه عاجزًا عن الحركة نتيجة حادث دراجة نارية. هناك ايضًا حالات الصمت الذي يغلي تحت السطح، وتعاطي الكحول، وكذلك شعور الأب المفاجئ بالارتياح عندما اخفق ابنه بروس في الاختبار الطبي لتجنيده (قال "هذا امر جيد")، ورهبة الأب حين يُريه الابن الاوسكار الذي فاز به عن "فيلادلفيا" (قال بعدها: "لن اقول لأحد ما يجب أن يفعله ثانية إلى الأبد").

ويشرح سبرينغستين كيف حاول الافلات من وراثة التدمير الذاتي والكآبة متعاملًا مع هذه الكآبة بطلب الاستشارة والحبوب والعلاج الذاتي بالموسيقى. وهو يقول عن فنه: "أنا رجل تصليحات". 

ربطة العنق

استأجرت والدته غيتاره الأول بعد أن رأى وهو في السابعة ألفيس بريسلي يغني في برنامج إيد سوليفان "صندوق الموسيقى يوم السبت". كان بيت العائلة بلا ماء ساخن أو هاتف، في حي تسكنه عائلات ايرلندية - ايطالية أخرى حيث "لم أرَ قط رجلًا يخرج بسترة وربطة عنق إلا إذا كان متوجهًا إلى الكنيسة يوم الأحد أو يواجه متاعب".

كان افراد عائلة سبرينغستين يجمعون أجهزة الراديو القديمة المرمية لكي يصلحها جدهم ويبيعها إلى العمال المهاجرين. وكان سبرينغستين يطلب توصيله مجانًا إلى حيث يريد من "كل ريفي أخرق وكل عامل ابيض خشن وكل مواطن مسؤول ومثير للشغب توفره منطقة جيرسي شور". وكانت لديه جدة غمرته "بحب مهول، لا يُنسى، بلا حدود". وأضفت عليه الديانة الكاثوليكية روحًا من التمرد مع شبح الايمان.

غلاف الكتاب

في النهاية، ولكل الشبان الذين رحلوا عن المدينة في أغانيه، فإن والديه هما من هجراه منتقلين إلى كاليفورنيا في عام 1969 حين كان في التاسعة عشرة.

وبقيت شقيقته الأصغر فرجينيا في جيرسي معه. لكن سرعان ما رحل عن فريهولد جالسًا في ظلام الليل على أريكة عتيقة في حوض شاحنة. 

ولد ليركض

في هذه المقاطع، تبدأ صيغة نجاحه بالتبلور: إهمال وعالم من ذوي الياقات الزرقاء في خمسينيات القرن الماضي والخبرة الاجتماعية في الستينيات، والحرية والحرمان.

كان ينام في معمل لانتاج ألواح التزلج على الأمواج، وأحيانًا على الشاطئ. كانت تلك حقبة الحرب الفيتنامية: قُتل طبال من أوائل فرقته بقذيفة هاون، ومدير شوه أحد اصابع قدمه لإعفائه من التجنيد. كل هذه الاحتقانات إلى جانب أخلاق مهنية صارمة.

كانت فرقه تعزف في "مهرجانات رجال الإطفاء والكرنفالات وساحات وقوف السيارات وبمناسبة افتتاح اسواق وصرافات آلية جديدة"، وفي عدد لا يحصى من الحانات حيث كانت الاشتباكات بالأيدي ومداهمات الشرطة شائعة. كان يدرك حدوده ("صوتي لن يفوز ابدًا بجوائز")، ولكنه كان يعرف مواهبه وصقلها: كتابة الأغاني والأداء الحي.

وضع قواعد حازمة لأعضاء الفرقة المتمردين والمدراء الجشعين، وقرر: "أنا المسؤول عن كل دولار إذا أمكنني كسبه".

وبعد تمرين مديد وحياة تنقل تضمنت محاولة فنية فاشلة في كاليفورنيا، تعاقدت معه شركة كولومبيا ريكوردس للتسجيلات الموسيقية. وصدر ألبوم "وُلد ليركض" ليصنع منه نجمًا. ثم سطع نجمه في سماء الغناء بألبوم "ولد في الولايات المتحدة". 

قصص فتيّة

كان وليام وردزورث يعتقد أن اصل الشعر عاطفة تُستذكَر في هدوء. وهذا الشعار يصف مذكرات سبرينغستين وجاذبية أغانيه التي يرى العديد منها صدمات الشباب من منظور ناضج، ووفي نظر جمهور أكبر سنًا، كثيرون نضجوا كما نضج سبرينغستين نفسه، الذي ما زال يلاقي إقبالًا واسعًا في السابعة والستين بإحيائه حفلات تستمر ثلاث ساعات. وهو يقول عن احتراق مغني روك آخرين "إن الاعتزال بهالة من المجد هراء".

لكن القصص التي ترويها اغانيه لم تهرم بل على العكس فإن موضوعته الكبرى هي "المسافة بين الحلم الاميركي والواقع الاميركي". وهو شاعر التصنيع الذي تفكك والأحلام التي قُتلت وعمليات الهروب المحبطة والناجحة والمصائر المتحكَّم بها والمصائر المقررة سلفًا، والمعامل المغلقة مثل معمل انتاج السجاد الذي اشتغل فيه والده ذات يوم في فريهولد، وهو مكان يتحدد في ذاكرة سبرينسغتين برائحة افرانه الكريهة. ويغني سبرينغستين متجاوزًا الزمن "ليس هناك الكثير من العمل مؤخراً"، وذلك في انشودة "النهر" المهداة إلى مكابدات شقيقته "بسبب الاقتصاد".

ضيق أفق

الانقسامات العرقية والطبقية التي تبدو اليوم شديدة الإلحاح تمزق حياة شخصياته مع هذه الضائقة الاقتصادية ذات الحركة البطيئة. ويكتسي مشهد شبابه وموسيقاه تلك الدنيوية الغريبة التي يمكن أن يحتويها ضيق الأفق الاميركي بقوة: في الطوائف والقبائل التي كانت تظهر على شاطئ جيرسي، والجامحون من المقبولين للدراسة الجامعية الذين بصقوا عليه خلال حفلة أقامها على الشاطئ، وذوو الملابس الجلدية على طريقة فيلم Grease، كل اولئك البلطجية واللصوص، والاحتقانات الإثنية والاضطرابات العرقية.

يكتب سبرينغستين في كتابه، كما في أغانيه أحيانًا، عن العرق رغم أن تصريحاته الأعمق عن ذلك أُطلقت خلال بناء فرقته وشراكته مع كليرنس كليمونس، عازف الساكسفون الأسود الذي رافقه زمنًا طويلًا في الفرقة، وعن العلاقات مع أعضاء فرقته تؤرَّخ وكأنها حب افلاطوني، وفي المقام الأول في صوته الذي يجمع بين الايقاع والبلوز والموسيقى الروحانية والفولكلورية وموسيقى الروك. 

الياقات الملونة

يكتب سبرينغستين أن الجمهور يحضر حفلات الروك "لتذكيرهم بشيء يعرفونه ويحسّونه أصلًا". وأن تكون المشكلات التي تواجهها اميركا قديمة، فهذا من علامات المواساة التذكيرية في ألبوماته وكتابه.

لكن الأكثر من ذلك أنها تصوغ ردًا بديلًا، يتفهم فيه الجمهور من ذوي الياقات البيضاء، الذي كان سبرينغستين يستقطبه دائمًا، هواجس ذوي الياقات الزرقاء ويكرمونهم، اولئك الملايين الذين يرددون "ثندر رود" Thunder Road رغم انهم لم يروا في حياتهم هيكل شيفروليه محروقة. وهذا التحويل من الخاص إلى العام، ومن الخبرة إلى فن، انما هو سحر يحول الاختلاف إلى رحمة. وذلك درس في التعاطف مع الفنانين من كل صنف، لا الفنانين فحسب. 

أعدّت "إيلاف" هذه المادة بتصرف عن "إيكونوميست". الأصل منشور على الرابط الآتي:
http://www.economist.com/news/united-states/21707885-bruce-springsteen-bard-lost-american-dreams