دون اية مغالاة او تهويل اعترف اني اجهز نفسي جهوزية تامة وانسى كل شيء مما يحيط حولي واغفل حتى عما يجول في خاطري من تهويمات فكرية عامة أو خصوصيات شخصية تتعلق بي وبأقرب المقربين اليّ حينما ابدأ في قراءة قصيدة معينة او مجموعة شعرية وكأنها هي وحدها تشير اليّ ان ادنو منها وأتملّى سطور ورقها ، وانا هنا لااعني جملة الكتابات الهائلة التي تسمى قصائد جزافا وتطاولا على الشعر وآياته وسوَره ذلك القرآن البشري الذي يكتبه أنبياء الشعر من هواجس وحْيٍّ سمّوه قبلا باسم عبقر لواقعٍ متخيل حتى انهم عزَوا انتسابه الى الجان في غابر العصور وما لايتراءى عيانا امام الانظار لما يطلقه من الدهشة والحيرة من اختلاق المعاني وتراصّ الكلمات لخلق عالمٍ ساحر غير متعارف عليه قبلا .
لايعنيني ابدا وقت كتابة القصيدة ولا زمانها ولا حتى متى قيلت او في اية ترعة استقت ونبتت سواء كانت صحراءً ام جناناً غنّاء بقدر ماتعنيني العوالم الجديدة التي تنبثق منها وقد اقرأ لشاعر محاصر في صحراء كلها قحلٌ وجدب وأعجب كيف يخلق عوالم وابتكارات شعرية أهيم بها هوسا وانجذابا مثل حال شاعرنا البدويّ الاموي ذي الرّمة الذي لم تعش حياته بذخا يذكر وظل طوال حياته أسير البيداء وأدهش كيف يحاكي الحصى وكأنها دررا شعرية تخرج من بطونها الصلدة الاف المعاني العجيبة وكيف يصبغها الليل بالسواد .. ولنقرأ مثلا هذا البيت في وصف الدويّة ( الصحراء ) ليلا وهو يعتسفها ويقطعها طولا وعرضا وكيف صوّر الليل بريشة فنان يصبغ حصاه حلكةً سوداء فاحمة :
ودوّيةٍ مثل السماء اعتسفتها ------ وقد صبغَ الليلُ الحصى بسوادِ 
كما ان له في غزله مايثير العجب والاندهاش في لقطاته الشعرية اللافتة وفي البيت التالي وهو يتغزل بعينَي معشوقته " ميّ " مافيه من صورة مجازية باهرة وهو يقول :
وعينانِ قال اللهُ كونا فكانتا ---- فعولانِ بالألبابِ ماتفعلُ الخمْـرُ 
وكذا الامر حينما أرتوي الشعر من عيونه وينابيعه الصافية ولا يهم ان كانت تلك الينابيع انبثقت من البادية في واحة ما او من جبلٍ عالٍ ؛ شرقا كان ام غربا فتراني أوغل في شعر المتنبي والمعري وغوته وريلكه ودانتي وبورخيس وشكسبير ومفجّري الشعر الفرنسي الحديث من امثال مالارميه وشارل بودلير وآرثر رامبو ذلك الفتى الغرّير المليء شعرا في كل خلايا عقله وجسده الذي أذعنت فحول الشعراء وشيوخها إصغاءً ، هذا الانفجار الشعري الذي دوى بضع سنوات وخفتَ على حين غرّة . فالشعر والقصيدة الحقيقية هي اصطياد كل ماهو شارد ووصف بواعث النفس بطريقة غير معتادة والأتيان بحالات الغرائبية غير المألوفة وتجارب الشاعر السوبرمان في هذه الحياة التي ما أن تحلو قليلا حتى تصاب بالمرارة كثيرا .
فما ان اتطلّع الى قصيدة شعرية حتى أهجس اني في حفل يصخب تارةً وتارة اخرى يهدأ ، ارى شخوصا غير مألوفين في حياتنا المعتادة يتقمصون صور حيوانات او نبات او جماد تسمع لغتهم وقد تفهم معنى مايريدون وقد تغيب عنك المعاني كلها لكنك تأنس بهذا العالم الغريب الاطوار .
ترى التجريدية والنمطية المعتادة معاً تتآلفان مثل حبيبين تعانقا وتنافرا ، ترى الواقعية باعتيادها مرةً وكأنها فوتوغراف وسحرها وكأنها عوالم مختلقة وترى انماطا تقليدية قلبت واقعها فصارت تجريدا وهنا عليك ان تتهيأ لعالم تلجه اول مرة مثل سائح يحطّ في مدينة صاخبة لم يألفها من قبل في أسفاره .
عليك ان تكون مستعدا لتقبل صورٍ وانماطٍ لاتعرفها من قبل ، اشياء بدون فمٍ تحكي واشجارٍ تتأنسن ، فليست كل القصائد تصوّر الدنيا كقصيدة شعر مثلما قال نزار قباني وهناك الكثير من قصائد الشعر حارقة ملتهبة وموجعة وربما تصيبك سهامها وتوجعك فتبكي بدلا من تسرّ وتحزن وتوغل في قرارة شجن لاخروج منه وتبقى وقتا طويلا في شباكها .
والحق ان لكل قصيدة طقوسها في القراءة وهناك الكثير ممن نمرّ عليها مرور الكرام دون ان نعبأ بمعانيها وتركيبها الشكلي كمن يؤدي تحية عابرة لصحبهِ بهزّة رأس او إيماءة حاجب او تلويحة ليست عالية ولانطيل الجلوس معها وسرعان ما تستأذنها بالمغادرة دون ان نفكر حتى بالعودة اليها لاحقا لا لشيء سوى انها مقززة ذوقا وكريهة في طلعتها عندما تقابلها وجها لوجه .
لكن هناك قصائد تتمنى لو ترافقك اينما رحلت وحيثما أزفت ولا تتوانى من تذكّرها بين آن واخر مثل صديقة جميلة رائقة كنت تجالسها باستمتاع وغادرتْك وأنت في خضم مشاغلك لكنها كثيرا ما تخطر على بالك وتمنّي نفسك ان تلتقيها أمدا بعد أمد كلما سنح وقتك لملاقاتها .
هناك من القصائد ما تأخذك في رحلة شاقة طويلة ولا ترى محطات استراحة في الطريق لتهنأ وتستريح فيخامرك الشقاء والتعب والإنهاك الذهني والجسدي معا مع ان البعض يراها غير ماتراه أنت وربما يكون مركبك غير مراكب الاخرين واذا كانت تلك القصيدة قد انهكتك فهناك من الشعر البذيء مايقرف النفس ويدعو الى ان تلعن الشعر والشعراء كلهم ومن حُسب على الشعر وانحاز اليه اعجابا او ميلا ، وتدعو على الشعراء كلهم بالحطة والموت والفناء وكل ذلك من اجل قصيدة جعلتك تنفر من القراءة وترمي بما لديك من مجموعة شعرية او أوراق مليئة شعرا غثّا الى اقرب حاوية للنفايات .
هكذا هي موائد الشعر منها العامرة بالعافية والصحبة الممتعة المفيدة رغم قلة زادها وزوّادها وقصر سُفرتها وكلامها الموجز لكنه يغنيك عن مطولات عريضة نشرا بطولها وعرضها وما عليك الاّ ان تتذوق اطباقها الصغيرة فترى في كل مقطع نكهة خاصة وأطايب لم تتذوقها من قبل فتصيبك الدهشة مما تناولت وكأنك تطعم نفسك ما لم تره عينك ولم يلقفه فمك من قبل .
قد تجد فيما تقرأه قصائد صارخة تصمّ أذانك وتجيش فيك هزّة عارمة وتقلعك من مكانك ؛ لكن هناك من لايسمعها وكأنها تنادي عالما اخرس صامتا لايعير انتباها وهنا تتراءى معنى العزلة بين الشاعر وبين الأطراف الأخرى وكأنك تخاطب عالما عابثا لايبدي اي اهتمام مثلما تنادي وثنا لايهتز او ترمي صداك في وادٍ غير ذي مسمع وشيئا فشيئا تتلاشى تلك الصرخة الشعرية وتهيم بلا جدوى مثل هبّة رياح لاتعلم اين تستقرّ وهنا يبرز ما أسماه " اندريه بروتون " تهشيم العقل حينما يضيع الشعر في متاهات بلادة الجهل واللامبالاة والاستهتار بالقصيدة وعدم الترحيب بها عندما لايستساغ الغامض ويعوّل على المألوف المعتاد عليه ولا يتقبّل الجديد المحدث مهما كان بديعا مدهشا أخاذا .
ومن جانب اخر تلحظ قصائد تتجسد أمامك راقصة هزجة ضاحكة بحيث تنسى أحزانك كلها وتبلسم جراحك وكأنك في حفل عرس تماما مثلما قال " بول فاليري " بان القصيدة هي عرس العقل وانت حينما تقرأ مثل هذه القصيدة تهزج فرحا وتهلل اعجابا وتتقافز حبورا ونشوة ، أليس الشعر كما يؤكد فاليري لغة راقصة ؟؟ 
وكثيرا ماتكون القصيدة ايقاعا خالصا وصافيا للحياة الفردية التي يعيشها الشاعر فنسعى للشعر هربا من الحياة الصاخبة الخليطة بالمنغصات والسفاسف وما يعكّر ذلك الصفو الذي ينشده القارئ على الاخص حينما يرى حيزا حلوا منيعا من اليوتوبيا الرائقة والمناخ المؤنس المفتقد فيشعر بالهناء والحبور ، تلك هي جنّة الشعر وملاعبه الممتعة .
انها متعة مابعدها متعة حينما تؤنسك قصيدة ما ؛ فهذه الباقة الوردية من حزمة الامتاع التي تهديها لك القصيدة تعني انها رائقة وأقل مايقال عنها انها جيدة في الكلام الدارج حتى بين العامّة .
ويبرز هنا السؤال الاهم وهو كيف تنتقي القصيدة الجيدة لتقرأها في هذا البحر الخضم الهائل من مياهه العكرة والملوثة المليئة بأجاج الملح بدل المذاق المعسول والكلام الرطيب الآخاذ الآسر ؟؟
يقول الشاعر والروائي الانجليزي الكاره للشهرة " فيليب آرثر لاركن " ان القصيدة المثلى هي من تقدر على المحافظة على الاشياء التي رآها الشاعر ببصره وبصيرته معا وفكّر بها وأحسّها ، ليس من اجل نفسه وانما من اجل قارئه وهو هنا يعيب على " تيد هيوز " قوله : ( ان الكلمات وحدها هي وسائل لفتح مغاليق القصيدة والكشف عنها ) ، فالقارئ الحاذق لايقف فقط على شاطئ مايكتبه الشاعر بكلماته ومفرداته وحدها وعليه ان يغوص في اعماقه لعله يظفر بمخلوق جديد / معنى جديدا او شكلا شعريا غير مأنوس والاّ كيف سيكون اكتشاف الابداع وتلمّس المتعة في الحواس .
في ظني وحدسي ان القصيدة لاينبغي ان تتعرى امام حشود الجالسين في مهرجانات الشعر وصخبها وعويلها وتتوسل ان يسمعها الضاجّون ولست ميّالا الى ما قاله الشاعر البريطاني " باسيل بانتنغ " من ان الشعر شأنه شأن الموسيقى كُتب لاجل ان يسمع اذ يرى ان القصيدة تعدّ في عداد الاموات حتى يبعثها صوتٌ ما كي يعيدها الى الحياة ؛ فالقراءة الصامتة في نظره وادّعائه خلّفت كمّاً لا يستهان به من سوء الفهم وأورثت الهوة البعيدة بين الشاعر ومريديه .
وفي وجهة نظرنا ان هذه الدعوة مدعاة الى تهريج القصيدة وابتذالها في صخب المهرجانات الشعرية وزعيقها مما يفقد روح التأمل والتأني في فهم القصيدة والتلذّذ بها والبحث بمشاعر التحسّس عن مواطن ونكهات الجمال لاجل تذوقها ، وانا هنا لا اريد ان أوسع الكلام في شطحات ورؤى هذا الشاعر " بانتنغ " الغريبة الاطوار واتذكر انني قبل عدة سنوات قد قرأت في ايلاف مرة ان " بانتنغ " قد صبّ جام غضبه على كل شاعر عزم على جمع ماكتبه ليضمّها الى مجموعته الكاملة اذ يعتبر هذا المسعى كمن يجمع ألواح تابوته سعيا الى موته الشعري تماما .
فالقراءة منفردا انت والقصيدة تختليان معا بعيدا عن ضجيج العجلات والصخب والتلوث الصوتي الخادش ؛ تتآنسان معا وتتحاوران وقد تغفوان سوية في سرير واحد بعلاقة حميمية هي وحدها من تحقق المتعة والانسجام والهارمونية .
وان كان لابد من نشرها ليتسع مداها الجمالي والفنيّ وتكون على كلّ لسان وتطرب لها الاسماع وتتغلغل في الارواح لتطهيرها وتنقيتها من شوائب الحياة ووعث ترابها وعجاجة دخانها الخانق وطرد الزفير الشاسع في الانفاس فلتدخلوا القصيدة الرائقة الجميلة الممتعة والمفيدة في الاوتار اللحنية وفي نايات الشجى والشدو الطريب لتلبس حلّة الاغاني عسى ان تخلد هانئة في القلوب والاسماع .
وكم كان الاديب الفرنسي " كريستيان بوبان " صائبا تفوق في دقتها إصابة الكسعيّ حينما قال اننا نحتاج الى ساعتين او ثلاث وقد تطول نهارا على اكثر تقدير لكي ننهي قراءة رواية ما او بحث أدبي او فنيّ بينما نحتاج حيزا هائلا من الوقت ربما شهوراً او سنوات او حتى حياة طويلة بكامل أعمارها تلزمنا لقراءة قصيدة .