&في انكلترا واوروبا عموماً كان القرن السابع عشر فترة متميزة بما سادها من عنف وعدم استقرار واضطرابات اجتماعية عميقة. ففي القارة صُدم جيل كامل بحرب الثلاثين عاماً. وفي انكلترا اسفرت الحرب الأهلية عن انقسام البلد واعدام الملك. وفي انكلترا ايضاً انتج العديد من الكتاب الذي عاشوا في غمرة هذه الأحداث الخطيرة (مثل براون وبرتون وهوبز ومارفيل بصفة خاصة) اعمالا كانت متأثرة على نحو واضح بخبرة الفوضى والنزاع والثورة.&ولعل جون ملتون أبرز هؤلاء الكتاب. ولد ملتون ابن موظف مكتبي في لندن عام 1608 ودرس في كامبردج. نذر سنوات عديدة من منتصف عمره للسياسة واعتُقل خلال حركة الاصلاح الديني ثم أُفرج عنه. فقد بصره في الشيخوخة وتوفي عام 1674.&اليوم يُذكر جون ملتون بوصفه صاحب قصيدة "الفردوس المفقود" ورثاء "ليسيداس"، أي شاعر انكليزي كبير. ولكنه كان بنظر مجايليه كاتباً تحريضياً في عصر من السجالات الدينية والسياسية، دفاعه بلا كلل عن الطلاق والتعليم التقدمي واعدام الملك والكومنولث اكسبه سمعة بوصفه راديكالياً انكليزياً لامعاً.&

ملتون نفسه كان يعتبر ان موهبتيه الشعرية والنثرية تكملان احداهما الأخرى. وقال انه يستطيع ان يكتب بيده اليسرى (النثر) أو بيده اليمنى (الشعر) ولفهم ملتون على نحو أفضل وتحديد موقعه في انكلترا خلال الحرب الأهلية والاصلاح الديني الذي اعقبها يتعين على قرائه ان يجمعوا بين جانبي الشعر والكتابة السياسية لهذا المفكر والسجالي البارع بقدر ما هو شاعر غنائي كبير. و Areopagitica، أي خطاب ملتون من أجل حرية الطباعة بلا ترخيص في البرلمان الانكليزي، هو النص الناضج الذي يجمع بين فرعي مخيلته المبدعة ويضيف بُعداً آخر الى تقديرنا لشعره. وكما قال احد النقاد فان هذه العمل هو "نصب لامثولة حرية التعبير". ويقول ملتون نفسه ان "الكتاب الجيد هو شريان الحياة الثمين لروح سيدة، محفوظ ومصان لحياة بعد الحياة".&

عنوان الخطاب Areopagitica تكريم مقصود للخطيب اليوناني الشهير ايسوقراطيس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان ملتون، مثله مثل كل معاصريه وخاصة السير توماس براون، يعتقد ان العودة الى الأعمال الكلاسيكية طريقة لضمان ديمومة نثره. كتب ملتون خطابه رداً على قرار البرلمان في 14 يونيو/حزيران 1643 باعادة القيود التي فرضها آل ستيوارت المكروهون على الصحافة. وأكد هجومه على الرقابة ودعوته الى صحافة بلا قيود، مُثُل الحرية، بما في ذلك حرية التعبير، في نص رائع من النثر الانكليزي "لاذع وشعري في آن واحد". وقال ملتون ان قتل كتاب جيد جريمة لا تقل فداحة عن قتل انسان وان من يقتل انساناً يقتل مخلوقاً عاقلا يمثل صورة الله ولكن من يدمر كتاباً يقتل العقل نفسه، يقتل صورة الله. الحرية عند ملتون، كما عند جميع الأحرار الكبار، لا تتجزأ، وهو رأي يدافع ملتون عنه بمهارة سجالية عالية.&

يبدأ ملتون خطابه في البرلمان بعرض للقيود المفروضة على الصحافة رابطاً بسخرية بين هذه الممارسة ومحاكم التفتيش الاسبانية. ويتساءل لماذا لا يكون القارئ الاعتيادي حراً في الحكم بنفسه على الكتاب الجيد والكتاب الردئ. "أليس من شروط الفضيلة ان تعرف الشر وتكافحه؟" وكانت ممارسة الحرية عند ملتون حقاً اخلاقياً: على المواطنين الأحرار أن يسعوا دائماً الى كسب حريتهم. وبنظر ملتون فان هذا النضال هو الذي يضفي قيمة على موقع الفرد في المجتمع، وهي موضوعة تربط الموقف الأخلاقي لكل كتاباته، الشعرية منها والنثرية. ويأتي هذا الموقف تذكيراً بأن التغيرات الثقافية التي احدثتها الثورة الطهرانية لم تلغ الارتباط المستمر باسلوب الكتابة للملوك الذي ظل مستخدماً في القرن الثامن عشر. وكان عمل ملتون تعبيراً عن مجتمع يمر بمرحلة انتقالية. كان مفهوم الحقيقة عند ملتون، كما عند سائر المفكرين التقدميين، مفهوماً معقداً ومتغيراً على الدوام، مفهوماً يجب ان يُصاغ من خلال السجال والتحليل ـ أي ممارسة الفكر والتعبير عن الرأي بحرية. وهو يأتي على ذكر مثال غاليليو الذي التقاه في منزله في لورنسا واصفاً العالم الفلكي بأنه كان "أسير محاكم التفتيش" كمثال على الظلم الذي يمثله قمع الفكر. يبلغ الخطاب الذي نشرته دار بنغوين في كتاب يقع في نحو 40 صفحة ذروته بمناشدة ملتون "السادة والعوام" أي يفكروا "أي أُمة نحن". ويجيب ملتون عن سؤاله بمشاعر وطنية ملهمة قائلا "أمة ليست متخلفة ولا غبية بل ذات روح عبقرية ثاقبة" متوقعاً لها نهضة كبيرة بعد سبات وحرية بعد تحطيم قيودها غير المرئية. ولكن تفاؤله كان يشوبه قلق من امكانية حدوث صدام بين المصالح السياسية والمصالح الدينية. ويختم قائلا ان لا حدود للتسامح وان الحرية يجب تكون بلا حدود وبلا قيود: "اعطوني الحرية لكي أعرف وأتكلم واناقش بحرية، كما يمليه ضميري، فوق كل الحريات".&

&