&

&
فرق کبير وشاسع بين من يتصنع الخجل و بين من يشکل الخجل جانب أساسي من شخصيته، رغم إننا نود أن نشير الى التأثير الرومانسي الکبير للخجل لو کان يبدر من فتاة، لکن ذلك لايقلل من التأثير الملموس للخجل لو کان من شاب أو حتى من قبل رجل بلغ من الکبر عتيا نظير"کوران مەریواني"، الذي برز کشاعر موهوب في أواسط السبعينيات من القرن الماضي ثم إختفى فجأة ليطل مرة أخرى في بداية العقد الثاني من الالفية الثالثة بعد الميلاد.
في مقهى فرعي صغير کان يقابل الباب الثانوي لسينما سيروان في السليمانية في أواسط السبعينيات من الالفية المنصرمة، کان المکان و المنتجع المفضل لذلك الشاب الخجول"کوران مەریواني"، الذي لم يسعى لتقمص رداء الشهرة لأخيه"دلشاد مەریواني"، الشاعر و الممثل الکردي المعروف، وإنما آثر على أن ينتهج خطا خاصا به، خصوصا وإن هذا الشاب الخجول و الطموح کان ضمن مجموعة من الشبان المندفعين الذين آثروا أن يجعلوا من مقهى"القلعە دزيين" ندا لمقهى"مام علی"قبالة البوابة الرئيسية لسينما سيروان حيث کان يلتقي فيها شعراء و أدباء"الصف الاول"في السليمانية وقتئذ، نظير فٶاد مجيد مصري، رفيق صابر، دلشاد مەریواني، محمد رشيد فتاح، رٶوف بيکەرد، وغيرهم.
في تلك الايام، حيث کان نظام حزب البعث الشمولي يهيمن على العراق و کان ليس يعد الانفاس وانما حتى يکتمها، کان کوران مەریواني، يصرح جهارة ليس بأهمية و ضرورة إسقاط نظام حزب البعث في العراق فقط، وانما کان يطالب بتغيير جذري في کافة الانظمة السياسية في منطقة الشرق الاوسط برمتها، وکان يعتقد يومئذ بإن إسقاط البعث بمثابة الخطوة الاولى بذلك الاتجاه مع ملاحظة إنه کان يزاوج مابين الهم الطبقي و الهم القومي الذي کان يهيمن حينئذ بتأثيراته على مختلف الاطياف و الشرائح الفکرية و السياسية، ولذلك فإنه قد وجه يومها ومن على منبر قاعة النشاط المدرسي في السليمانية خطابه لحزب البعث و الشعب الکردي على حد سواء في قصيدته النارية"النافذة" قائلا:
"حل يدك عن هذه التربة
وأقلب عراق الرمس رأسا على عقب"
هذا النمط من الخطاب المباشر و الحاد، و الذي کان هذا الخجول يتميز به في بداياته، وتحديدا في اواسط السبعينيات من الالفية المنصرمة، والذي لم يکن يتلائم و يتناسب وقتئذ مع صوته الرٶوم و وسامته غير العادية، يعود في العقد الثاني من الالفية الجديدة وفي قصيدته الموسومة"أيتها الحبيبة" ليقول:
"أعيدي الخضرة للغابة
والزرقة للسماء
والعمق لعيونك أيتها الحبيبة!
أبعثي الغضب للرعد
وأمنحي البلل للمطر
وأرجعي النقاء لأنفاس الفجر
والحرارة لرمل الصحراء
والعاطفة لقلبك
أيتها الحبيبة!"
المألوف إن الشاب أو الرجل هو من يذهب ليغامر و يجازف ليعيد الامور الى نصابها فيما لو حل طارئ ما من أجل حبيبته أو عائلته، ولکن يبدو واضحا أن لکوران الذي يأس من الواقع المر المشرئب بالمآسي و الصدمات و المصائب و الآلام، ويسعى من جديد لإعادة الامور الى نصابها فإنه يطلب من حبيبته أن تقوم بذلك، وکأنه يرى فيها نوعا من القدسية& و الامکانيات الخارقة للطبيعة، وهو إذ يطالبها بإعادة العمق لعيونها و العاطفة لقلبها، فإنه يطالبها أيضا بإعادة الخضرة للغابة و الزرقة للسماء و البلل للمطر و الحرارة لرمل الصحراء.&
ولأن الواقع المرير الذي عاصره کوران في عهد حکم حزب البعث في العراق و الذي إضطره للرحيل أو بالاحرى الهروب بجلده بعد أن قام النظام وقتئذ بإعدام أخيه"دلشاد"، قد جعل من نيل المراد و تحقيق الطموحات و الغايات غير ممکنة بل وحتى مستحيلة، فإنه يلوذ بالفنطازيا و الخيال و الاساطير ليديفها بالواقع على أمل الخروج بواقع جديد يهدئ من روعه ولو کان ذلك في عالم الخيال و الهروب في مملکة الشعر، وهاهو في قصيدته"بيتنا"، يقول:
"يوما ما
نعود معا الى بيتنا
فوق القمر
نجلس في شرفتنا
ونرنو للقدر
ونصاب بالذهول من الناس الصغار على الارض!"
بلو أنه وفي قصيدة"ذاهب أنا"، يسعى للتوحد و التناسق مع الطبيعة بعيدا عن الانسانية و آلامها و معاناتها حالما و منتظرا أن يعيش و يذوي کالاشجار، فيقول:
"ذاهب أنا
بجانب شجرة أنمو
أطلق أغصاني مثلها&
وأثبت جذوري،
أتکلم معها
وعندما يشرئب قلبي بالنوى
أتساقط في الخريف ورقة ورقة"
لکن کوران في قصيدة"مماتي"، التي کتبها في عام 2013، يتحدى الموت، کما لو إنه ذلك الشاب اليافع الذي کان يتحدى جبروت نظام حزب البعث، ويوحي بأنه ليس سيصبح جذلا في موته وانما سيبصر النور من جديد أيضا عندما يقول:
"أموت
کالموت ذاته
أسعد بعدمي
يغرقونني في التراب
ويديفونني في الظلام
لکنني کالحب أبصر النور من جديد"
البحث في البحث ذاته، کما الفرار من الفرار الى الفرار و الضياع في آجم الضياع، و الانطلاق دونما زاد أو متاع نحو عوالم غير مرئية و مجهولة بحثا عن الحقيقة و الوجود و الميلاد و الهوية و الحب و الانسان و أشياء أخرى، هو دأب کوران، ذلك الشاعر الذي يقف و بصورة مملة في إنتظار ولادة في زمن العقم و الردى.&
&