حسونة المصباحي: فوز الكاتب الأسود الأميركي طا-نيهيسي كواتس بجائزة «ناسيونال بوك اوارد» عن كتابه «بين العالم وانا» كان من أبرز الاحداث الثقافية في الولايات المتحدة الأميركية خلال عام 2015.

رسالة إلى ابنه

يذكّر كتاب طا-نيهيسي كواتس بكتاب جيمس بالدوين الذي جاء على شكل رسالة طويلة وجّهها إلى إبن أخيه لكي يكشف له عن الجرائم العنصرية الفظيعة التي ارتكبت في حق الزنوج على مدى النصف الأول من القرن العشرين. 

أما كواتس، فقد اختار أن يكون كتابه على شكل رسالة موجهة إلى ابنه من أجل نفس الغرض، منددًا بالعنصرية الأميركية البيضاء التي لا تزال تقتل، وتعذب، وتهين السود، وتحط من شأنهم، وتسعى بكل الطرق والوسائل المنافية للمبادئ الإنسانية، وللدستور الأميركي إلى حرمانهم من حقوقهم المدنية والسياسية.

مخاطبًا ابنه ساموراي، كتب كواتس يقول «أكتب لك وقد بلغت سنّ الخامسة عشرة، أكتب لك لأنه في هذا العام، كنت قد شاهدت اريك غارنر يخنق ويقتل بسبب بيعه سجائر».

غلاف كتاب «بين العالم وانا»

لم يكن هذا الفتى الأسود الوحيد الذي كان ضحية العنصرية. آخرون ضربوا، وعذبوا، وقتلوا في مدن مختلفة من قبل رجال الشرطة، ولا ذنب لهم سوى أنهم زنوج.

يضيف كواتس قائلًا إنه يكتب لابنه حتى لا ينسى، ولا تنسى الأجيال الجديدة ما حدث للزنوج في مراحل مختلفة من التاريخ الأميركي.

وقد حاول المؤرخون العنصريون البيض أن يزيّفوا التاريخ أكثر من مرة، إلاّ أنهم فشلوا في ذلك فشلًا ذريعًا. وعلى الزنوج ألاّ ينسوا أبدًا أن العنصريين البيض أثروا على حساب عرق العبيد السود، وكدّسوا الثروات الطائلة نتيجة استغلالهم الفظيع لهم على مدى قرون طويلة.

خوف مستمر

معبّرًا عن الخوف الذي يعذبه منذ الطفولة، كتب كواتس يقول: «أنا خائف. وهذا الخوف يكبر في كلّ مرة تغادرني فيها. غير أنني اكتشفت هذا الخوف قبل مولدك. عندما كنت في مثل سنّك، كان كل الأشخاص الذين أعرفهم زنوجًا، وكانوا يعيشون جميعًا في هذا الخوف، وبحدة وعنف، وإصرار، وبطرق خطيرة. وكنت شاهدًا على هذا الخوف طوال فترة طفولتي، حتى لو أنني لم أميّزه دائمًا كما هي الحال الآن».

يواصل طا-نيهيسي كواتس حديثه عن الخوف قائًلا: «كان (الخوف) دائمًا أمام عينيّ. وكان مرئيًا من خلال الفتيان ذوي الأشداق الكبيرة في حيّنا، هؤلاء الفتيان بخواتمهم وميدالياتهم الضخمة، وأقمصتهم الرياضية هائلة الحجم، وستراتهم الجلدية الطويلة بياقات الفرو، والتي كانت أسلحتهم في مواجهة العالم.(...) وعندما أفكر في هؤلاء الفتيان، لا أرى شيئًا آخر غير الخوف. أراهم يهيئون أنفسهم للمعركة ضد أشباح هذا الماضي المأساوي الذي كانت خلاله عصابات "المسيسيبي" تحاصر أجدادهم، وتشعل الجسد الأسود كما لو أنه مشعل قبل أن يقتلع».

وعن طفولته في بالتيمور، كتب كواتس يقول: «أن يكون الانسان أسود في بالتيمور في سنوات شبابي، كان يعني كما لو أنه يقف عاريًا أمام العناصر-أمام الأسلحة، أمام اللكمات، أمام الخناجر، أمام الإغتصاب، والمرض. وهذا العراء ليس نتيجة خطأ أو هو مرضي. بل لم يكن سوى نتيجة منطقية وإرادية لسياسة ما، وحصيلة متوقعة لقرون أمضيت في العيش في خوف دائم».

أثرياء... بفضل السود

في الحورات التي أجريت معه بعد صدور كتابه، أشار كواتس إلى أن العبيد السود كانوا يمثلون المصدر الأول للثروة الأميركية خلال القرن التاسع عشر، متفوقين في ذلك هلى شركات سكك الحديد، وعلى البنوك الناشئة، وعلى الصناعات البحرية. بل هو يذهب إلى حد القول إنه لولا العبيد لما كان للولايات المتحدة وجود على النحو الذي أصبحت عليه في القرن العشرين. فقد قام هؤلاء بمدّ خطوط السكك الحديدية، وزرع الأراضي التي افتكت من الهنود الحمر.

لذلك يمكن القول إن تدمير جسد الرجل الأسود "تقليد أميركي بامتياز".

ولا يخفي كواتس أنه استوحى موضوع كتابه من حدث مأساوي عاشه في السنوات التي كان فيها طالبًا في الجامعة.

فقد قامت الشرطة بقتل صديقه الحميم برانس جونس، وذلك عام 2000. لذا أشاد به في حفل تسلمه جائزة "ناسيونال بوك اوارد" قائًلا إنه لولاه لما كان كتابه. وهدفه من الكتاب هو أن يتذكر الناس صديقه ويتعرفون إلى سبب قتله.

"المعركة الكبرى"

وفي كتابه الثاني: "المعركة الكبرى" Le grand combat الصادر في ترجمة فرنسية في مطلع العام الحالي، والتي يعتبرها تكمله لكتابه المذكور، يعود كواتس إلى سنوات طفولته ومراهقته ليفضح العنصرية البيضاء مرة أخرى.

غلاف الترجمة الفرنسية من كتاب "المعركة الكبرى" لطا-نيهيسي كواتس 

يصف كواتس معاناته في حيّ من أحياء مدينة بالتيمور، مسقط رأسه، بالقول «كنّا نعيش في بلاد أخرى، بلاد كانت على حافّة الهاوية. كلّ القواعد القديمة كانت تتهاوى حولنا. والإحصائيّات كانت كارثيّة: فتى أسود من بين عشرين يقتل، وغالبًا ما يكون القاتل أسود. وكان عدد المسجونيين يفوق عدد الذين يدرسون في الجامعة».

ولحماية نفسه من العصابات، كان أخوه البالغ من العمر 13 عامًا يحرص على أن يخرج من البيت مرفوقًا بمسدس. آخرون كثيرون كانوا يفعلون مثله. فقد كان الموت يترصّد الفتيان السود في الشوارع، وفي المقاهي، وفي الطرق المؤدية إلى المعاهد. لذا تراهم يسيرون جماعات وأفرادًا بحذر شديد، مراقبين كل حركة مريبة.

مرات عديدة وجد كواتس نفسه أمام فتيان بيض يرغبون في الفتك به. وكان والده بول كواتس الذي قاتل في حرب فيتنام يقبل بحماسة على قراءة الصحف التي يعثر عليها في الطائرات التي تحط في المطار حيث كان يعمل.

وكان يظهر تعاطفًا كبيرًا مع التنظيمات السوداء التي تقاوم العنصرية البيضاء. وفي قبو البيت، وضع مطبعة صغيرة لطبع النصوص التي كتبت عن ملحمة كفاح السود من أجل الحرية. عنه كتب طا-نيهيسي كواتس يقول: ”كان والدي قد أعلن الحرب على القضاء والقدر. وكان يعتقد أن النصوص التي كان يقوم بطبعها جنود سريون".

في هذا الجو المشحون بالخوف والعنف لم يجد الفتى الأسود الصغير ضالته إلاّ في الموسيقى والكتب التي كان يلتهمها، ثم يلقي بها وكأنها «أصداف فارغة».

شهادات

يحظى الكتاب المذكور راهنًا بإقبال كبير من القراء في جميع أنحاء العالم خصوصًا بعدما تمت ترجمته إلى لغات عدة من بينها الفرنسية.

كما إن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عبّر عن إعجابه الشديد به، معتبرًا إياه من أفضل الكتب التي قرأها خلال عطلة صيف 2015.

أما الكاتبة الكبيرة توني موريسون الحائزة جائزة نوبل للآداب فوجدت أن كواتس تمكن بكتابه من أن يملأ "فراغًا ثقافيًا" كانت تحس به منذ رحيل الكاتب الأسود الآخر جيمس بالدوين في عام 1987.

وفي ملحقها المخصص للكتب (الجمعة 22 جانفي-يناير-)2016، وصفت جريدة "لوموند" الفرنسية كتاب "بين العالم وأنا" Between the World and Me (صدر في باريس بعنوان آخر هو:الغضب الأسود) بـ"الكتاب -الحدث".