&

ترجمة :حسونة المصباحي
&
الجمال، الصّبر، وقوّة القراءات المتتالية والغزيرة لهولدرلين وريلكه وتراكل، كلّ هذا يجعلنا ننسى أحيانا أنّ هناك لدى هايدغر بادئ ذي بدء، فكرة جديدة جذريّا عن الشعر كما هو.إنّ"جوهر الشعر" لا يمكن أن يفهم بانفراد، أو كإسناد أولويّة أنطولوجية لنوع أدبيّ معيّن، لكن فقط إنطلاقا من تشابكه وتلاؤمه مع ثلاثة ميادين تتلاحم بعضها ببعض، ألا وهي: العمل الفني، اللغة، والمقدّس(Das Heilige). والقصيدة هي عمل فنيّ "مادته" ، أو بالأحرى عنصره(ذلك أنه علينا أن نعيد النظر في مفهوم كلمة مادة) هو اللغة التي تُعَظّمُ المُقدّس. وفيالحال تبرز أسئلة. كيف ينفي هايدغر، مثلما فعل، عن القصيدة الإحالة أو الرجوع إلى ذاتيّة الشاعر، وإلى تجربته الحياتية، وإلى تاريخه الشخصي؟ كيف تستطيع اللغة أن تتحدث، وأن تتحدث عن نفسها أوّلا"قبل" الشاعر؟
كيف نثبت أنّ الشعر يقول بالأساس شيئا مُقدّسا يمكن أن يكون مستقلاّ عن الدين، وأكثر قدما من أيّ دين، أي أنه يفهم لا كفضاء سليم، لكن بالأحرى كقوّة إيجابيّة شافية ومُنْقذة؟ وما هو هذا "الخلاص" من خلال الشعر؟ أليس هو بالإضافة إلى كلّ هذا هروبا رومنطيقيّا خارج اضطرابات هذا العالم؟ ما يميّز العمل الفني عن الأداة، أو يميّز القصيدة عن الإعلان، هو أن العمل الفني لا يتجاوز من أجل وظيفة ما، أو من أجل عمليّة مصلحيّة، مادية الماهية التي صُنع من أجلها. العمل الفني خلق واغتراف من المنابع الأصلية لأنه يبرز ذاك الذي في الإستعمال الأدواتي للأشياء يظلّ مخفيّا غائرا: الحبّة، التركيب، التذبذب، أي كلّ ما اصطلح عليه في الميتافيزيقا بالمحسوس. أنّ العمل الفنّي يسترعي إنتباهنا من خلال التعبير، إلى العمق المحسوس الذي يكون قد نُسيَ في الأداة بسبب المصلحة التي تستعمل من أجلها. ويحاول هايدغر أن يفكر حول العمق المحسوس من خلال مفهوم"الأرض":”ما يأوي إليه العمل الفني والذي يبرزه من خلال إنسحابه، سميناه الأرض"، وهو يجعل الأحجار والأخشاب والمعادن والألوان والأصوات متألّقة، ويملأها حيوية. والعمل الشعري بصفة خاصة،يوضّح صدى اللغة، وأيضا "قوة التسمية لدى الكلمة". وحين يبرز هذه القوة الأصلية للتسمية، وهي قوة تنتسب أساسا لا إلى الشاعر وإنما إلى اللغة، يُظهر الشعر ما يظلّ مخفيّا في اللغة العادية، أي ما يقتصر الناس على استعماله كأداة للتخاطب. كلّ شعر يقول جوهره، ةوفي نفس الوقت الجوهر الكشّاف للغة، الذي هو "القصيدة الأصليّة"، الحشد الصامت للكائن. والقصيدة تُظهر قدرتَها وقوّتها في إظهار الأشياء والكشف عن العالم، وفي الآن نفسه هي تفعل ذلك. وهذا ما يمْنَحُها سَمَاكة الأرض وقوّة التأسيس. الشعر، يقول هايدغر، هو "اللغة الأصلية”(Ursprache)للشعب. وهي اللغة التي تروي ما تكون اللغة في "تراكمها وتكاثرها الأوّلي" قد أوصلته في صمت إلى المنفتح: “إن الشعر هو التسمية التأسيسيّة للكائن ولجوهر كلّ الأشياء-وهو ليس قوْلا تعسّفيّا-وإنما ذاك الذي بواسطته يتمّ الكشفُ عن كلّ ما نعالجه ونناقشه فيما بعد.أن الشعر هو الذي يبدأ بجعل الكلمة ممْكنة".
من هنا الإشتقاق الذييصنع الشعر في متتصف الطريق بين الإنفتاح الأصلي واللغة اليومية:Urdichtung . قصيدة اللغة، قصيدة لم تكتب بعد، وإنما هي صدى للصمتUrsparache(الفصيدة المكتوبة) وalltagssprache(اللغة العادية). ولا بدّ أن لاحظ هنا أن لغة الإعلام وعلم التوجيه نفسها مشتقة من اللغة العادية. وهي تنطوي على خسارة مضاعفة بالنسبة للشعر وللغة اليومية. الشعر يلمس أرض اللغة، ويظهر اللغة كما لو أنها أرض، أو قاعدة(...) والقصيدة تجعل مالا تتركه اللغة مفتوحا ومسوعا ومرئيّا. ويجهد هايدغر نفسه لكي ينزع المظاهر "المحسوسة" للغة،’أي المسموع والمرئي، من ميتافيزيقا المحسوس ومن الفينيمونولوجيا. وحين تصير الكلمة الشعريّة اللغةَ، وأيضا قدرتها على الإنفتاح، محسوستين ومسموعتين، فإنها تكشف عندئذ لا عن الأصوات وعن العلامات والإشارات فقط، وإنما أيضا عن البعد الأساسي لإقامة الإنسان: الكلمة كمعنى محسوس تقدر اتساع فضاء اللعب بين الأرض والسماء. اللغة تجعل مفتوحا ذلك الميدان حيث يسكن الإنسان الذي على الأرض وتحت السماء، "بيت العالم". إن الصدى"المادي" للصوت الشعري يظهر نوعيّة الصلة التي تربط بين الأرض والسماء. وهذه الصلة التي هي أيضا مكان للإقامة، تُطمس وتُنسي في اللغة العادية التي تجد نفسها مشغولة فقط بالأهداف العمليّة للتبليغ. وحين تعود إلى نفسها، أي إلى خصائصها المطموسة والمخفيّة عادة، فإن اللغة تعود إلى سلطتها الأصلية، سلطة التسمية والبرهنة. إن نسمي الأشياء يعني أن ندعها توجد. الكلمة لها القدرة على"توليد الأشياء". وهذه القدرة نُسيت تماما من قبل اللغة الأدواتيّة. أن يُظهر الشعر الأشياء كما لو أنه أعيدت إلى فجر ولادتها، وكما لو أننا "نراها للمرة الأولى" فذاك لا يتأتّى من أنه "يترك المباردة للكلمات(مالارميه)، وإنما لأنه بالأحرى يجدد مرة أخرى قدرتها وقوتها على الكشف. وهذه القدرة ليست من خيال الشاعر، وإنما هي تنتسب إلى الكشف الذي استكملته اللغة قبل ذلك في صمت. والشاعر ككلّ كائن يكتفي بأن يقول بعد ذلك ما تقوله اللغة بصوت خافت. على هذه الأساس يمكن تفسير الإهتمام القليل الذ يوليه هايدغر لذاتيّة الشاعر: هذه الذي يعظّمُ حقيقة أرض وحقيقة عالم بدلا من تجربته المُعَاشَة. مع ذلك يمكن ان نقول أن الشعر لا يكمن فقط في موسيقا اللغة، وفي قدرتها على الكشف، وإنما في الصور أيضا. وحول هذه النقطة، كما حول نقاط عديدة أخرى، يمرّ النفسير الهايدغري بهدم النظريّات الميتافزيقيّة التقليديّة.
إن الصورة الشعريّة ليست نسخة مُنْحطة للواقع، ولا علاقة تماثليّة بين المحسوس والمعقول، ولا تخصيصا تجريبيّا لرسم خياليّ أنتجته ذاتيّة إستعلائيّة، ولا تقاربا متجاوزا للواقع لأبعاد أبعدها في واقع الأمر العقل والرشاد. إن هايدغر أكثر واقعيّة من أفلاطون، وأرسطو، وكانط. وهو مُتناقض مع فكرة نيتشه ، والتي أكملها ملارميه، ثم اعتمدها السورياليّون في ما بعد، والتي تقول إن الشعر هو خيال خالص. إنّ"جوهر الصورة" ، يقول هايدغر، هو"أن يجعلنا نرى شيئا ما". والصورة الشعرية ترينا العالم اليومي، إلاّ أنها تريه لنا غريبا. إنها”ترينا اللامرئي".، أي الغرابة، ولغز الحضور في قلب المرئي الأشد بساطة، والأكثر وضوحا. أو أنها بالأحرى تخفي في صورة المألوف ما يتخلص من العالم العادي. إنها التضمينات اللامرئيّة للغريب فيمظهر المألوف. لكن ما هو الغريب؟ هو ليس فقط الشيء المُحَيّر والشاغل لفكر، لكنه الشيء الآخر تماما. إنه إنسحاب الكائن والمقدس. إنه الله. الصورة لا تُفسّرُ وإنما تعرض الغرابة فجأة. الله، يقول هولدرلين، "جليّ كما السماء". السماء هي صورة الله، وليست شبيهة به.
لكن من يسمّي الله هنا من قبل الشاعر، لا يعني بالنسبة لهايدغر أن المقدس يتحول إلى إسم وحيد، أو أنه يتقلّص إلى صيغة عادية. اللامرئيّ أو المختفي، والذي يظهره الشاعر من خلال مظاهر المرئيّ وهو يتخفّى، يظلّ مجهولا. إن موضوعة الشعر ليست دقيقة ،لكنها تحمل أسماء متعددة، متناقضة أحيانا إلاّ انها تتطابق:العريق في القدم والمستقبل القريب والذي يصعب الإقتراب منه، والعادي وغير العادي، والإمتلاء والخواء، والمشفي والمخيف. “المقدس هو المخيف ذاته". ليس هناك شعر كما أنه ليس هناك فكر لا من خلال إغتراب جذريّ ،ومن خلال"عسر"، لا يكون ضرورة أو شدّة.
الشاعر يسائل المقدس ، وهو يطالب به أكثر ممّا هو يستقر فيه أو يلجأ إليه. الشاعر لا يأتي بالخلاص إلاّ أنه يحتفظ بعسّر كامل، هو عسْرُ عصره، وليس عسْر حياته الخاصة. وإنفعاله ناجع وليس هروبا إذ أن حزنه ومنفاه وتمرده وعذابه أو فرحه بالمعنى العميق للكلمة ، وكل هذه الأحاسيس تنزل إلى أعماق عصره وتتغذى من ينابيعه. وهي التدفق الجديد للتاريخ.