المسافر من العاصمة التونسية إلى مدن الشمال الغربي المحاذية للحدود الجزائرية(باجة-جندوبة- الكاف) يمرّ بمدينة تستور الواقعة على هضبة تطلّ على سهول وادي "مجردة" الخصبة. و في العهود الروامانيّة، كانت هذه المدينة تسمى "تيكيلا"،ومعناها "العشب الأخضر". وعندما استقر بها المهاجرون الموريسيكيّون واليهود الفارين من اسبانيا الكاثوليكية في أوائل القرن السابع عشر أصبحت تسمى:”تازا تور". و"تازا" تعني الأداء. أما"تور" فتعني البرج الذي يعلق عليه جرس يشبه جرس الكنيسة. وشيئا فشيئا أصبح اسم هذه المدينة البيضاء الجميلة التي لها ملامح المدن الأندلسية ، تستور. وهي تحتضن في بداية صيف كل سنة مهرجانا للموسيقى الأندلسيّة(المالوف). عنها كتب إبنها الأستاذ أحمد الحمروني العديد من الدراسات تناولت جوانب مختلفة من تاريخها المعماري والثقافي والديني وغير ذلك. وفي كتابه "تستور -صفحات جديدة-” الصادر مطلع العام الحالي عن دار"نقوش عربية"، هو يعود إلى تاريخ مدينته ليضيء جوانب أخرى.
ويشير أحمد الحمروني إلى أن المهاجرين الموريسيكيين واليهود الذين استقروا في تستور ابتداء من مطلع القرن السابع عشر قدموا في جلهم من منطقتي قشتالة وأراغون بإسبانيا. وعلى مدى قرن ونصف القرن، ظلوا يتكلمون الإسبانية. وبها يرددون الأغاني المفضلة لديهم. وكانوا يستعينون بالكتب المنسوخة من القرآن، ومن"دلائل الخيرات"، ومن "معجزات الرسول" وغير ذلك من الكتب الفقهية والصوفية المبسّطة للمحافظة على عقيدتهم الدينية. ويقول أحمد الحمروني بإن الثقافة مثلت لدى الموريسكيين مصدرا أساسيا ل"استرجاع الهويّة المسلوبة، وتطهير النفس بثقافة عَمَليّة، ثقافة العبادات، لا ثقافة التكفير والتأويل والمناظرات". وهو يرى أن ثقافة موريسكيي تستور بلغتها القشتاليّة كانت"أعمق من ثقافة الأجيال اللاحقة والمختلطة بلغتها العربية". وهذا ما تثبته العديد من المخطواطات التي سلمت من النهب، ومن التشويه، والتحريف. كما تثبت هذه المخطوطات أن الموريسكيين تعايشوا مع اليهود الفارين مثلهم من اسباينا. ومن بين هذه الوثائق المعتمدة ما جاء في كتاب :"ورقات" للمؤرخ التونسي الكبير حسن حسني عبد الوهاب حيث كتب يقول:”قد وصل إلى تونس في نفس الوقت الذي وصل فيه الموريسكيّون عدد كبير من اليهود الذين طردوا من الأندلس، فاستقبلتم البلاد بنفس الترحاب الذي قوبل به مواطنوهم المسلمون. وهكذا تعزّز جانب الجالية اليهوديّة بقدوم هؤلاء اللاجئين الذين ألموا بأساليب الحضارة وبفنون التجارة والصناعة". ومع حلول منتصف القرن الثمان عشر، بدأت اللغة الإسبانية تتراجع لصالح اللغة العربية، واختار الموريسكيون نهائيا المذهب المالكي الذي له الغلبة في كل البلدان المغاربية.
ويعتبر الجامع الكبير الذي ينتصب وسط مدينة تستور من أهمّ العالم التاريخية. وقد تأسس عام 1630ويعود الفضل في ذلك إلى الشيخ محمد تغرينو أو التغري. ويدلّ إسمه على أنه من سكان الثغور التي لجأ إليها المسلمون بعد أن سيطر الإسبان الكاثوليكيون على أغلب المدن والمناطق التي كانت تحت حكم الأمراء المسلمين.
وفي كتابه يفرد أحمد الحمروني فصلا لمشاهير تستور من العلماء والفقهاء. وإبراهيم التيبلي الذي هاجر إلى تستور عام 1609حد هؤلاء. وقبل هجرته كان يدعى خوان بيريز، وهو إسم فرضته عليه محاكم التفتيش خلال حملاتها ضدّ المسلمين إثر سقوط غرناطة عام 1492. و هو من مواليد طليطلة عام 1580. وفي مدينة تستور، وجد الراحة والسكينة الباعثتين على التأمل والتفكير والتأليف. وكان عارفا باللغة اللاتينية، وباللغة الإسبانية. أما لغته العربية فلم تشهد تحسنا إلاّ بعد أن استقر به المقام في تونس. وكان يظهر اهتماما كبيرا بفلاسفة اليونان مثل سقراط وزينون. وكان عاشقا للشعراء الرومان من أمثال هوراس وفرجيل. ولم يكن يخفي إعجابه بشعراء وكتاب إسبان من زمنه من أمثال لوبي دو فيغا الذي اشتهر بكتابة مسرحيّات شعريّة هزليّة، وسارفانتس. ويببدو أنه اطلع على رائعة "دون كيخوتي" قبل أن يأتي إلى تونس. وقد اشتهر ابراهيم التيبلي ب"الأنشودة"، وهي تتألف من 4608 بيتا. وقد كتبها باللغة الإسبانية، مذيّلا إيّاها بهوامش باللغة العربية. فيها يناصر الإسلام، وينتقد المسيحية في جوانبها المظلمة لكن من دون دون تعصب أو تشدّد. في مطلع هذه "الأنشودة"، كتب يقول:
يا قلمي تشجع
ومن دون أن تخشى لومة لائم
أكتبْ بلا مواربة.
فأصلك من طليطلة الشهيرة،
أجمل مدن إسبانيا
التي يسقي "التاج" الصافي باديتها...
ومن أعلام تستور الآخرين، الشيخ إبراهيم الرياحي( 1766-1850) الذي كان من مشاهير شيوخ الجامعة الزيتونية. وقد عرف بانفتاحه، ورفضه للتطرف والتزمت. كما أنه قاوم الإستبداد، والظلم في ظلّ حكم البايات الحسينيين. بتأثير منه، لمع شيوخ انتصروا للأفكار الإصلاحية والتحديثية التي جاء بها المصلح الكبير خير الدين باشا التونسي.
ويعد المؤرخ المرموق سليمان مصطفى زبيس (1913-2003) من شخصيات تستور البارزة في القرن العشرين. وقد اهتم في أغلب الدراسات التي أنجزها بتاريخ الموريسيكيين بجميع جوانبه. وكان يحظى بتقدير واحترام كبار الشخصيات السياسية والثقافية ، خصوصا في زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
&