&

كان على الحكاية أن تتكلم عن المرأة والقطار- إذ القطار فيه عادة الذكورة ويبقى ناقصا من دون المرأة الأنثى، الإثنان يتكاملان معا. حين يكون هناك قطار يجب أن تكون معه امرأة - &لكن "المرآة والقطار" على نحو مغاير اختار الشاعر عبد القادر الجنابي عنوان روايته القصيرة كي يشير الى المرآة وليس المرأة –البحث عن المجهول له أسبابه كي يتجلى في المرآة، التي شخصيا لم أر لها وجود في أي قطار أو ناقلة. لماذا المرآة؟&
السؤال الذي خطر في الذهن هو هل هناك مرآة في القطار؟ لم أر خلال تنقلي وأسفاري العديدة أي مرآة في باص أو طائرة او قطار. وهنا يبرز السؤال التالي: أي مرآة يريدها الكاتب هنا؟&
مفتتح الرواية هو الموت وكذلك جاءت النهاية كي تتكلم عن الموت. في الافتتاحية نقرأ " سيارة نقل الموتى التي كانت قد سبّبت، مع موكب سيارات المشيعين وراءها، ازدحاماً كبيرا، قد انعطفت أخيرا إلى اليمين صوب مقبرة معزولة في العراء " وتنتهي الرواية " نَمْ... بسلام... &لن يكون هناك ليلٌ بعد الآن، ولا عاصفة ولا مطر......... هنا يرقد الذي لم يذِق للواقع طعما ولم يَرَ للخَيال حدودا...!"&
هذا الإطار، أو السياج الذي أحاط بداية ونهاية النص يفصح عن الحال الذي مد أمزجة التخيل في العمل الروائي. يبرز دور المرآة التي لن تكون دليلا وشراعة على باطن الراوي، وهي ليست مرآة لعكس الخارج ولا الباطن. إن نافذة القطار التي تأخذ دور المرآة ستقوم بمهمة أخرى، فالراوي لا ينظر الى السفوح والأراضي التي يمر فيها القطار، ولا إلى باطنه كما ألمح في الرواية، بل يدقق في هواجس كانت تقلقه، هواجس كتاب الأدب عموما - قطار الاستعادات مع أزمنة داخلية تتدفق ثم تعود دائرة حيث لا مكان للواقع حتى إنْ توقف القطار في المدينة التي قصدها فلن يكون ذلك واقعيا، مازالت الرحلة مستمرة وما التوقف في المدينة والدخول في دوامة الشرطة واللغز الذي دارت حوله الرواية إلا لعبة ميتافيزيقة للكشف عن موقف الراوي من الحياة منظورا إليها من خلال السر المجهول الذي لم يتم كشفه. &
عبد القادر الجنابي لم يكتب الشعر فقط بل كتب باسترسال متوهج النقد وسرى في السرد السريالي الذي يخشى الكثيرون الاقتراب منه، يواجه به قيود التقليد ويتخذ لنفسه حرية الخلاص، يجد فيه استرسالا يشرع من خلاله النوافذ على مظهر الحياة الذي يقوم بنيانه على اللحظة وماتقوله وتنبئ به. من هنا تأتي قراءة الزمن وتتبعه في العمل. فهو زمن سريالي مضمونه لحظة واحدة ثم تتمدد دون أن تنفجر عن تعبير طويل اسمه "المرآة والقطار" كأن العمل هو مجرد حلم متتابع مسترسل حتى أن أحداثا أساسية يمر عليها النص مرور الكرام (الطاقة منخفضة فيها) تكاد تمر أمام القارئ دون أن ينتبه إليها. وهذا هو المبدأ الذي تقوم عليه الرواية، حيث لم تكتب بطاقة عالية، كأن الراوي فيها يعيد قصها على مسامعنا من العالم الآخر أو بعد انتهاء حوادثها بسنوات طويلة، بعد أن خبا وهج الانفعال وكادت الحياة أن تشيح الوجه عما حدث. يبقى الراوي هادئا متزنا يقص ماجرى بنفس واحد – وهذا ما يفسر صورة الموت في مفتتح الرواية وتكرارها في منتهاها، حتى أن لو حكم عليه بالتورط في جريمة القتل التي تدور حولها الرواية وسيذهب ربما الى المشنقة او الاعدام فإنه سيذهب بهدوء دونما محاولة لحقن جرعة وجدانية في نفس القارئ. لا استفزاز فيها ولا صيرورة واقعية فالذي يجري هو بعيد عن الواقع، حلم مضى تأثيره، حكاية لم تحدث ولن يتأثر بها الراوي.
تقوم الرواية على حدث هو جريمة قتل والقاتل فيها هو امرأة، لكن هذا الحدث ليس سوى مصيدة لتسريب الهواجس التي انتابت الراوي وهو يستقل القطار المحكوم عليه بالموت- لتسريب فكرة الموت من خلال القطار، موت الحياة والأمل، ففي نهاية الرواية يصطدم القطار بشاحنة تنهي حياة الراوي ويرى الراوي من خلال شظايا الاصطدام انعاكس مرآة يتخيل وهو يذوب ويتلاشى شعاعا فيها، إنه يدخل على مايبدو السر الذي يؤمل كشفه. فمن خلال رحلة القطار يتم التخلل في المرآة- وهنا مقصد العنوان- &في الموت الذي كان حاضرا منذ البداية، وكان قد جاء تمهيد رحلة القطار ثم الجريمة ثم العودة في نفس المقطورة ونفس المقعد كي يشار إلى أن افتتاحية العمل عن الموت إنما هي في الواقع افتتاحية موت الراوي. هذا الدوران على دائرة واحدة هو محاكاة لحقيقة الأسطرة، الميثولوجيا التي هي بذرة الحكايا، يرتفع الموت الى رمز فيه ربما وجه أو تفسير آخر لمعنى الحياة. &
يبقى شيء واحد مهم وهو الكابوس الذي استغرق الرواي بينما كان في الفندق، تـوّهمه بالذهاب الى حي الشحاذين المظلم والدخول في حانة "البيرة من أسوأ الأنواع" هذا المكان يشابه المكان الذي كان فيه قبل التعرف إلى زوجته نادية والتي أنقذته من اللاجدوى، وأوجدت له عملا ككاتب تحقيقات في مجلة "جغرافيا العالم". هذا الكابوس لاحقه ولم ينقطع عنه حتى أن رحلة القطار هي جزء منه لأنها انتهت بالخيبة والخسران ثم الموت؟
تتكاثر في المقطع الأخير أفكار وجودية تبدو سكونية ولا حركة فيها قد لا تفيد للوهلة الأولى العمل الروائي لكن إن محونا جريمة القتل من العمل فإن الرواية بأكملها ستبدو سكونية (حلمية) ليس فيها سوى الدوار وتكرار العودة لصالح العالم الآخر وليس لصالح الواقع، العالم الآخر الذي يخلو من الدراما والملئ بالهدوء والطمأنينة. إنه عالم ينساب من خلال الأفكار والتخيل حيث لا مادة فيهما، هو عالم تأمل واستغراق ربما سيجد فيه الفن الروائي مادة أخرى كي يمد ساقيه وينطلق انطلاقة أخرى، وهذه تقف وجهها لوجه أمام اقعية الأعمال الروائية واستفزازها – الحبكة - التي تبطئ العقل وتجعله خلية استقبال غير فعال مقتول فيها الحث والخلق. وإن نتكلم عن الحبكة في الرواية فهي غير موجودة أصلا سوى حادثة القتل والبحث عن القاتل وهي حادثة مضافة بذكاء على الهامش لكنها ليست من متن العمل الحقيقي، لا يبقى من الجريمة في ذهن القارئ سوى نتف، منها لقاء الراوي مع القاتلة الجميلة التي حين تتركه تتبعها رغباته وفصل التسمم الذي تجيده المرأة يفصله الكاتب في فصل ملحق مع بعض الشذور الهامة التي برأيي كان يجب أن يبقيها الكاتب في المتن على ما تحمل من اشراقات لن تضر ولن تصيب العمل بالترهل الذي أصلا هو عمل قصير (نوفيللا).
&
للاطلاع على تفاصيل الرواية: يرجى العودة الى قراءة حكمت الحاج انقر هنا&
&