كتب بكر عويضة: في كتاب أصدره حديثاً حمل عنوان (شهادات على القرن الفلسطيني الأول) خاض إلياس نصر الله غمار تجربة يتضح من أول لحظات التصفح أنها شكلت رحلة مرهقة، فإذا مضى القارئ يخوض مع الكاتب في عمق صفحات الكتاب، شعر بوضوح كم أن استيعاب زخم التوثيق، كما ضمنّه الكاتب، هو أمر مرهق بحد ذاته، فكيف إذن الحال مع مؤلِف أمضى من العمر ما فاق ستة أعوام، كي يضع للناس هذا العمل المهم؟ الواقع أن مجرد تأمل حجم الجهد المبذول من قبل إلياس نصر الله، بقصد جمع ما سيضع لاحقاً بين دفتي كتاب من معلومات مستندة إلى وثائق، وشهادات مرفقة بصور، يوجب تسجيل تقدير موضوعي للمؤلف والكتاب.
وُلِد إلياس بطرس نصرالله سنة 1947 في شفا عمرو، بالجليل الفلسطيني، ومنذ بواكير شبابه برز في ساحة النشاط السياسي، وهو ما قاده إلى ميدان النشر والإعلام، فالتحق بجريدة "الاتحاد" في حيفا، ثم جريدتي "الشعب" و"الفجر" في القدس المحتلة، وفيها أسس أيضاً جريدة "الطليعة" قبل أن ينتقل للعيش في بريطانيا منذ عام 1979، حيث عمل من لندن مع جريدة "الجزيرة" السعودية في الرياض، ثم مع جريدتي "الشرق الأوسط" و"الحياة"، ويعمل حالياً مع جريدة "الرأي" الكويتية. كان لتنوع تلك المراحل في العمل الصحافي أثره الواضح على غنى ما تضمن كتابه "شهادات على القرن الفلسطيني الأول"، سواء لجهة تجربته الذاتية ضمن فريق التحرير بتلك الصحف، أو لجهة تضمينه روايات مهمة من واقع مراحل عمله، ما يوثق علاقة شخصيات فلسطينية بالصحافة العربية، منها إميل حبيبي، إذ يعرض الكتاب جانباً من بعض خبايا ما ثار من جدل بشأن قبول الروائي الفلسطيني الراحل جائزة إسرائيل الأدبية، ومنها كذلك ما يتعلق باغتيال عملاق فن الكاريكاتير ناجي العلي بلندن سنة 1978. من جهة ثانية، يتضمن الكتاب ما يكشف الستار عن معلومات مهمة تتعلق بشخصيات فلسطينية لعبت أدواراً متميزة في المجالين السياسي والإعلامي، كما في قصة اختطاف الصحافي والناشر الفلسطيني يوسف نصري نصر، صاحب جريدة "الفجر".
واضح أن الياس نصر الله بذل جهداً ملحوظاً اضطر معه للسفر إلى مكتبات عدة في لندن وخارجها، بحثاً عن وثائق تسند ما سوف يضمّنه لاحقاً كتابه من شهادات، ما مكنّه من وضع كتاب مهم، وبالتالي استحق بجدارة شهادة البروفيسور قيس فرو، الرئيس السابق لقسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، الذي قال في تقديمه الكتاب ما يلي: (كلما أنهيت قراءة فصل من فصول هذا الكتاب كانت قناعتي تزداد بأن إلياس نصرالله قدم عرضاً يمتزج فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، مكوّناً زمناً فلسطينياً واحداً… فبالتذكر المتيقظ صوّر إلياس جوانب من ماضي فلسطينيي الداخل والشتات، وبالانتباه ألقى الضوء على مأساتهم المستمرة، وبالتوقّع استشفّ مستقبلاً فلسطينياً محفوفاً بالمخاطر. ومع أن استعادة أحداث الماضي ووصفها كما حدثت في الواقع هي مهمة مستحيلة، إلا أن قدرة إلياس على السرد والربط بين الأحداث أكسبت بناءه التاريخي تماسكاً مقنعاً. وسع إلياس المفهوم البسيط للتاريخ، حيث لم يكتف باستحضار ذاكرته الشخصية، وإنما زوّدها بمصادر متعددة ساعدته على إنتاج تاريخ حافل بالأحداث، جعلت منه مؤرخاً ”بنفسه ولنفسه ولغيره". أثبت إلياس أن كتابة التاريخ بأسلوب أدبي لا يؤثر سلباً في منهجيته، مثبتاً بذلك صحة قول أحد المؤرخين بأن من لا يستطيع كتابة قصة، لا يستطيع، أيضا، كتابة التاريخ. ولأنها مبنية على قصص من حياة الناس، فسردياته غير خاضعة لخطابات النخب الفلسطينية على حساب خطابات الناس العاديين، ما جعلها تساهم في تقويض السرديات الصهيونية الكبرى والصغرى التي حاولت وتحاول الهيمنة على معرفة تاريخ الصراع الصهيوني الفلسطيني، وحاولت وتحاول تهميش سكان فلسطين الأصلانيين).
العرض المختصر هنا غير كاف كي يفي جهد إلياس نصر الله حقه، والتقدير الموضوعي يوجب القول إن (شهادات على القرن الفلسطيني الأول)، الذي تولت نشره دار الفارابي (674 صفحة) هو بحق كتاب جدير بأن يحتل مكانته إلى جانب المؤلفات، التي تجمع بين السيرة الذاتية وبين مسيرة المجموع، على نحو يقدم للجمهور شهادات مهمة، وموثقة، لمراحل تاريخية أثرت، وما تزال تؤثر، في مجريات التاريخ.
&