التقاها بتونس حكمت الحاج: الكاتبة التونسية نبيهة العيسي من مواليد 25 تموز 1972 بمدينة نابل بتونس. تخرجت في كلية الآداب بسوسة، وتعمل في سلك التدريس حاليا. عضوة اتحاد الكتّاب التونسيين. صدر لها مجموعة قصصية أولى في 2012 بعنوان "لو يتكلم الصمت" ومجموعة قصصية ثانية في 2015 بعنوان "إيقاع الحياة". حصلت روايتها البكر "مرايا الغياب" على جائزة الكومار الذهبي للرواية عام 2016. وبهذه المناسبة وغيرها من تكريمات وتنويهات لها بفوز روايتها بأرفع جائزة تونسية، كان لنا معها هذا الحوار:
 
 
- لقد نشرتِ مجموعتين قصصيتين قبل أن تنشري روايتك الأولى مرايا الغياب والتي سرعان ما فازت بجائزة الكومار الذهبي للرواية بتونس للعام 2016. لماذا هذا الانتقال من جنس أدبي الى آخر؟ هل كانت القصة القصيرة لديك فضاءا للتمرين في سبيل التمرس في السرد الروائي، أم ان السبب هو نوعية التعبير عن الذات واختلافها ما بين القصة القصيرة والرواية؟
- نحن في الواقع نتمرّن على الحياة لا على الشكل ... ومع كل تمرين نكتشف أن الجميل في الحكايات أنها تولد بأشكالها، والشكل ليس ثوبا نقرر أن نلبسه إيّاها أو نخلعه عنها. فالقصّة حكاية والرواية حكاية أخرى... القصّة حكاية أشبه ما تكون بالمشهد تلتقطه يد فنّان بارع فيختزل العالم في رمشة عين، ومجالها الجزئيات، أمّا الرواية فحكاية أخرى، هي حكاية الأحداث المركبّة، في جدليتها وحوارها، حكاية الشخصيات المتعدّدة في صراعها مع ذواتها ومع الآخرين، مع هواجسها وأحلامها، هي باختصار الكلّ في مجموع الأجزاء. وهكذا فلا يمكن للواحدة أن تكون مَعْبرا للأخرى. فإذا سألتني لماذا بدأت بالقصّة ثم جاءت الرواية، أجبتك أنّ المسألة في ذهني ليست تراتبية والدّليل أنّي أستعدّ لإصدار مجموعة قصصيّة. ثمّ اني أستمتع بالعمل في المجالين، والمتعة إذا دخلت دائرة المفاضلات تلاشت. أنا كتبت القصة تحت تأثير مفارقات أوقفتني على حدّ الدهشة. ومثلما تلقيتها أخرجتها. أمّا الرواية فقد ولدت مركّبة، وجاءت الأحداث فيها يشدّ بعضها بعضا. خلاصة القول أنه من الظلم أن نتعسّف على حكاياتنا تمطيطا أو اختزالا فلكل حكاية جمالها الخاصّ بها. فإن فعلنا، سنشوهها حتما.
 
- هل تستقين القصص والحكايات من محيطك وبيئتك؟ أم من المراجع والكتب والسير السردية المكتوبة واللاشخصية؟
ونحن تلتقي بالحكاية، لا نسألها عن ماضيها، الحكاية امرأة ولا يسرّها أن تسأل عمّا كانت ومع من، لكنه يلذّ لها أن تُكتشف اكتشافا وأن يُصغى إلى ثرثرتها ففي ثنايا كلامها يتجلّى الماضي بكل فسيفسائه الثقافيّة.. في نسيجها رائحة المكان الذي جاءت منه وطعم الزمان الذي سكنت في دنّه وجدليّة الأحداث التي تخبطت في رحمها. حكاياتي أنا جاءت من بعيد.. من جدةّ تنسج الخرافات كما تنسج الصوف.. من كُتبٍ أتبادلها مع أصدقائي كما نتبادل الأسرار...ومن مدينة انتقلت إليها للدراسة، فعلمتني أن أكون أنا.. فيها سمعت صوتي أول مرة وأنا أغني مع أصدقائي في الطّريق. كان الشّارع مقهانا الكبير، وكنا إذا اجتمعنا في احدى ساحاته نغني أو نتناقش، صرنا نحن محور العالم وكل ما عدانا عرض أو مجرّد ديكور، ثمّ نقوم لنسير بلا غاية. لو تـُجربْ لذة السير بلاغاية ستكتشف أن الطريق الحقيقية لا بداية لها ولا نهاية، وأنك إن أردت الحياة عليك ألاّ تنتظر المحطّات المعلنة لأخذ القطار. إن أردت الحياة عليك أن تقفز فيه وهو يسير. في هذه المدينة اختبرت أيضا حاسّة سمعي. كنّا نصغي لبعضنا ساعات. وفي كلّ مرة نخرج بالاستنتاج ذاته ألا وهو أنّ الضعف الانساني بداية الحكاية وهو نهاية الحكاية. بل هو كلّ الحكاية. في هذه المدينة اكتشفت نفسي ورأيتني امراة.. جدتي لأبي الخنساء وجدتي لأمي فينوس.. وخالتي الجازية وعمتي عليسة.. فيها رأيتني كلّ النساء، فتفتحت لي عيون وآذان وأصبح لي صوت وصرت أرضا قابلة لزراعة الحكايات.
 
- لو اقتربنا من روايتك مرايا الغياب من جهة المضامين المشتغل عليها سرديا فإنه من السهولة بمكان أن نقول ان الرواية تدور حول أم ذهبت تبحث عن ابنتها التي غادرت إلى سوريا ضمن إطار ما يعرف بالجهاد من منظور الاسلام السياسي. إلى أي مدى كان لهذه الحكاية الضمنية أن تفعل فعلها داخل النسيج الحكائي للرواية؟ وكيف تجلى ذلك في الشكل الذي اتخذته الرواية في الأخير؟
- حكاية غياب "منيار" في الرواية كانت الشجرة التي اقتلعتها لتظهر الغابة. حضورها كان يوحي بأنّ كلّ الأمور تسير سيرا طبيعيّا. كانت كلّ الشخصيات قبل ذلك تحاول التأقلم مع الموجود والتماهي معه. غير انّ غيابها أماط اللثام عن أسئلة لطالما خشيت الشخصيات من مواجهتها، فأخفتها تحت لحاف الصمت الممزوج بالتجاهل حينا والمكابرة أحيانا، والخوف من الظهور بمظهر الشاذّ أحيانا أخرى. للصمت أسباب وللكلام سبب واحد وهو أنه ما عاد هنالك داع للصمت. غياب منيار حرك البراكين الخامدة في قلوب الشخصيات المحيطة بها فانبرت تحدّث عمّا ابتلعته من عنف وألم. ولذلك جاء النصّ على أكثر من لسان، فيه إدانة واتهام وفيه شعور بالظلم والقهر. نصّ تطغى فيه لغة الشعور على اللغة الحدثيّة. وما الأفعال البسيطة فيه إلاّ ارتدادات لا غير أمّا الفعل الحقيقيّ الوحيد فقد اختزل في العمل السرديّ الذي أنجزه الصحفيّ.
 
- واضح تماما.. ولكن دعيني أنطلق من جملتك الأخيرة بخصوص العمل السردي الذي أنجزه الصحفي، داخل الرواية طبعا. إلى أي مدى استطعت ككاتبة أن تسخري تكنيك "المخطوط المفقود" أو المحقق أو الذي سيتم اكتشافه ومن ثم نشره، أقول، إلى أي مدى استثمرت هذا التكنيك أو الحيلة الكتابية في سبيل القفز بالمنجز السردي من رواية تقليدية تتابعية إلى رواية حديثة متمكنة من أدواتها متجاوزة الرواية العربية بمفهومها المتعارف عليه؟
- قد يلتقي الكاتب والناقد في فضاء النصّ نفسه غير أنهما لا يقاربانه من الزاوية ذاتها. فما قد يرى على أنه تقنيات مستثمرة فيه ليس في الحقيقة إلاّ ثمرة النصّ. كنت حتى وقت متأخر من الكتابة ألاحق شخصية "آمنة" وأقتفي خطواتها المبعثرة في كلّ طريق. فتخيلتها موزعة بين حاضرها وماضيها. إلاّ اني لم أستطع أبدا أن أتخيلها فاعلة في مستقبلها. كان ماضيها حملا ثقيلا يعسر معه المسير، وكان صوتها الذي يتردّد في أعماقها أضعف من أن يجد طريقه إلى الخارج.. لذا فكرت أنه من العبث أن أفتح أمامها أبوابا وهمية. وحمّلتُ مسؤولية الرواية لعماد، الصحفي. 
 
- ولماذا هو بالذات من دون الشخصيات الأخرى؟ 
- الجواب لأني تصورت أن فيه بعضا منها، ذلك البعض الذي قد يخول له مشاركتها معاناتها. تصورت أنها إن تكاثرت في جروحه سيكون صوتها، أو يدها. لا أدري لماذا حضرتني صورة مباريات الركض الذي يتقاسم فيه المسافة أكثر من عدّاء.. وكانت المسالة تتطلب خلط أوراق اللعب من جديد، والخروج بالنصّ ممّا يشبه السيرة الذاتية إلى ما يشبه السيرة الغيريّة. وقد تعمدت استعمال عبارة يشبه لأنّ الاستقرار في الجنس الواحد مزعج جدّا بالنسبة إليّ فعندي ميل فطري إلى التمرّد حتى على الأطر التي أرسمها بنفسي.
 
- أين يمكن ان نضع مرايا الغياب في مدونة الرواية النسوية العربية والتونسية؟ بالنسبة لي كقاريء فأنا أراها نسوية بامتياز باعتبار مفهوم الفيمينيزم النقدي، لكن يمكن الاستماع لرأيك في هذا الموضوع الذي ربما سيساعد مزيد القراء والنقاد على ولوج عوالم روايتك المميزة.
- أنا لا أعرف ما الذي تقصده بالكتابة النسوية. لأن الكتابة عندي خارجة عن التجنيس. لكن إن كنت تقصد بالمرأة صدر الأرض التي تبتلع آلامنا حتى تنفجر بها يوما فهي نسوية بامتياز. وان كنت تقصد بالمرأة ذلك الجانب المكابر فينا والذي رغم كل العنف المسلط عليه سيحتفظ بابتسامة أمل فهي نسوية. وإن كنت تقصد بالمرأة شكلا من أشكال المقاومة فهي نسوية، وإن كانت لا تحمل سلاحا. المرأة التي تعمل في الحقل صباحَ مساء لن تسأل عن حريتها ولا عن حقها في الخروج من البيت، لأنها مسألة قد تجاوزتها، ولكنها قد تناقشك في ظروف العمل وما يسفر عنه من استغلال أو استعباد. والمرأة التي تكتب أدبا انسانيّا لا يمكنها أن تفكّر فيما إذا كان أدبها نسائيّا لأنّ طرح القضية من هذه الزّاوية يجعلها أشبه ما تكون بالأقليات العرقيّة، أو بالحيونات الآيلة إلى الإنقراض والتي يفترض أن توضع في محميات وتتحول إلى موضوع دراسة.أنا لم أسمع مثلا بدراسات نقديّة حول الأدب الرجاليّ وخصائصه الفنيّة أو الدلاليّة. الأدب عندي خارج عن التجنيس، وكذلك تفكير الانسان. أعلم أنه تصوّر قد لا يخضع لمقتضيات الواقع ولكنه يرسم ملامح الغد. أليست قيمة الأدب تكمن في كونه يتقدم على الواقع بخطوة؟ أنا نفسي أشعر في أحيان كثيرة اني قد دخلت المؤنّث الاجتماعيّ في ملحق مّا، لذلك أجد صعوبة في تقديم إجابة دقيقة.