&
&
لقد جاهد بقدر استطاعته،
وفي خيباته السّوداء
لم يعد يحسب حسابا
إلاّ لأمر واحد !
فهو فخور بأنّه حتى في الفشل
أظهر تلك الشجاعة المتمرّدة
كافافيس(من قصيدة:عن ديميتروس سوتر)
مؤخرا،تعمّد شاعر تونسي تزييف حقائق كثيرة مرتبطة بتجربة شعراء القيروان في أواخرالسبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي.ففي حديث اذاعي، تحدث هذا الشاعر باآستفاضة عن التجربة المذكورة من دون أي إشارة إلى الدور الهام الذي لعبته شخصيّا في مؤازرتها، ومواكبتها،والعناية بها نقديا وذلك من خلال الكتابة عنها والتعريف بها سواء في الصحف التونسية أو في الصحف والمجلات العربية.لذا كان عليّ أن أكتب هذا النص لكي يتعرف القراء والنقاد والمتابعون للشأن الثقافي في تونس، وفي العالم العربي على ظروف تلك التجربة، وعلى مناخاتها، وما تمخضت عنه من رؤية جديدة بخصوص الشعر وفنّ الكتابة عموما...
*
في ذلك الوقت، نهاية السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كان من حقّي، ومن حقّ مجايليّ أن نحلم!فالعقد الموحش الرماديّ الذي لفظ أنفاسه كان قد قَصَف الكثير من الآمال، وفتّتها في ريح الأيّام بقسوة وعنف العاصفة التي دمّرت سفينة روبنسون كريزويه وأصحابه. ونحن الذين كنّا قد بلغنا سنّ العشرين في نهاية الستينات، وأدركنا سنّ الثلاثين مَشْيا على المسامير والأشواك، كنّا في حالة من القنوط واليأس والضياع بحيث لا شيء غير الحلم يمكن أن ينقذنا من السقوط في المهاوي المعتمة الفاتحة أفواهها أمامنا. والبعض منّا كانوا قد تعبوا فبدوا بوجوههم الشاحبة وكأنهم سبحوا طويلا في مياه راكدة مشرفين على الغرق أكثر من مرّة. وثمّة من آثروا العودة الى الأب الذي كانوا قد ثاروا عليه في حميّة الشباب الأولى بعدأن تبيّن لهم أن طريق المغامرة محفوف بالمخاطر والأوجاع. وفي ذلك الزمن الملتبس، بدا لي، ولحفنة من أصدقائي الذين ظلّوا محتفظين بعشقهم لمواصلة المسيرة الصعبة، أنه لا مفرّ لنا من أن نواصل التمسّك بالحلم لمواجهة الفراغ المريع الذي خلّفه إندحار الأحلام الأولى. وإذ كنّا قد حلمنا ونحن في سنّ العشرين بتغيير العالم، وبتقويض أسسه القديمة، فإننا إقتنعنا بعدأن أدركنا سنّ الثلاثين بأنه يتحتّم علينا تغيير أنفسنا، وأفكارنا حتى نتمكّن من كتابة النصّ الجميل الذي كنّا نطمح الى كتابته لكي نستعيد ثقتنا بأنفسنا، ونكتسب من جديد حبّنا للفن في معناه العميق والأصيل. وعندما كان حلمنا الجديد يولد من رماد الخيبات والإحباطات السّابقة ،كتبت نصّا حمل عنوان:”مملكة الفتية الشرسين". حال صدوره في جريدة"المستقبل" الناطقة آنذاك باسم حركة الإشتراكيين الديمقراطيين(صيف 1981) ،أثار النصّ حفيظة الكثيرين خصوصا اولئك الذين ظلّوا حتى ذلك الوقت متشبثين بأفكار وشعارات مرحلة السبعينات المنقرضة. في الآن نفسه راق للبعض لأنه بدا لهم وكانّه يضع الإصبع على جراح لم تكن قد إلتأمت بعد، فاتحا مرّة اخرى أفقا للحلم كان قد إنسدّ أو يكاد!
في ذلك النصّ الحالم، أشرت الى أنه ينبغي على النصّ القادم،إذا ما قدّر له أن يولد،أن يتخلّص نهائيّا من العكاكيز الإيديولوجيّة التي كانت الأداة الأساسيّة لدى جماعة"الطليعة الأدبيّة" في مرحلة الستينات.وعلى النصّ الجديد أن يثبت جماليّته في "ذاته"، وليس في ما هو خارج عنه، أو في ما هو مصطنع، ومفتعل،ومزيّف. كما عليه أن يبتكر اللغة المناسبه له، الحاملة لمعانيه، والمقوّضة للبلاغة الكاذبة. والحقيقة أن قيمة اللغة،ودورها الأساسيّ في النصّ سواء كان نثرا أم شعرا، لم تكن غائبة عنّي قبل ذلك.فأنا،وإن كنت قد تربّيت سياسيّا وايدولوجيّا في أحضان اليسار،ظللت الى حدّ ما نفورا من أطروحات "الطليعة الأدبيّة" بخصوص شكل ومضمون النصّ. وقد يعود ذلك الى قراءاتي قبل أن أبلغ سنّ العشرين،والتي سمحت لي باكتشاف كتّاب كبار من الغرب بالخصوص. كما يعود الى علاقتي بخالد النجار الذي كنت قد تعرّفت عليه مطلع السبعينات،والذي بدا لي منذ البداية مُختلفا عن كلّ من عرفت من الشعراء والأدباء حتى ذلك الوقت. ولعلّ الرحلة التي كان قد قام بها الى المشرق العربي وهو دون سنّ العشرين، هي التي أتاحت له أن يغرف من مصادر كنت أجهلها.كما أتاحت له الإطلاع على أهمّ التجارب الشعريّة والأدبيّة الجديدة في العواصم المشرقيّة التي زراها مثل القاهرة، وبيروت،ودمشق .ومن رحلته تلك عاد مُنجذبا الى قصيدة النثر، ومفتونا برموزها الذين كانوا لايزالون مجهولين في تونس. وعندما كان جماعة "الطليعة الأدبيّة" يمجّدون في نصوصهم وقصائدهم "البروليتاريا الرثّة" بلغة ركيكة، وبأدوات فنّية ضحلة،ومبتذلة،كان خالد النجار يفضّل السباحة ضدّ التّيار، مُدركا أن الشعر لا يجب بأيّ حال من الأحوال أن يبحث عن جماليّته في الموضوع فقط، وإنما في اللغة، وفي الأدوات الفنيّة ايضا:
بيضاء بيضاء
بيضاء...عندما كنت صغيرا
ضاعت الدمية في البحر
فتماديت أضيع كلّ شيء بعد ذلك
فأنا كنت أضعت لعبي
ودروسي
وحذائي
وأضعت بعد ذلك
كلّ من أحببتهنّ في حياتي
بيضاء بيضاء
هل تعرفين الموت في حبّة ملح!
&
ورغم أن علاقتي بخالد النجار كانت قد شهدت فتورا إمتدّ لبضع سنوات إشغلت خلالها بالإيديولوجيّات اليساريّة، فإنني ظللت في السرّ مفتونا برؤيته للشعر وللكتابة بصفة عامة. وعندما شرعت مع بعض الأصدقاء الذين إكتووا بنار ذات التجربة التي عشتها في إستعادة أقلامنا التي كسّرناها، والأوراق التي أتلفناهافي عقد السبعينات،لمعت في أذهاننا أفكار خالد النجار، و و تجربة مجلة"شعر". كما لمعت في أذهاننا تجارب كبار الأدباء الغربيين لتكون تلك الأفكار الأساس الذي عليه إنبنى نصّي:”مملكة الفتية الشرسين".
ولكن لم التأكيد على أنّ اللغة هي عنصر أساسيّ في كلّ عمليّة تجديد في مجال الشعر، والكتابة بصفة عامّة؟كان هذه هو السؤال الذي واجهني به كلّ الذين إختلفوا معي، وناهضوا ما جاء في نصيّ المذكور من أفكار، ومن آراء. وكان من الطبيعي أن يطرحوا مثل هذا السؤال إذ أنهم كانوا يعتقدون في ذلك الوقت أنه يكفي أن يدافع الشاعر،أو الناثر عن قيم الحرية، والعدالة، وأن يناصر العمال والفلاّحين، وأن يمجّد الثورات لكي يكون مُجددا وطلائعيّا. وفي تصوّرهم هذا،هم يتساوون مع ذلك الذي يعدك ببيت جميل، غير أنه يعجز عن أن يقدم لك أدوات بناء هذا البيت. وهكذا تظلّ أنت في العراء بينما يواصل هو تكرار وعوده بسخاء!...إنّ تاريخ الآداب في العالم يثبت لنا بالدليل القاطع أن التجديد في مجال الكتابة مرتبط إرتباطا وثيقا بالتجديد في اللغة.فعند الإغريق مثلا، يعني الشعر الخلق الإبتكار.أمّا الشاعر فهو الفنّان بامتياز لأنه يبتكر في الآن نفسه اللغة بأنغامها وصورها.وفي شعرنا العربي ،كان أبو تمام مجدّدا كبيرا لأنه كما قال ادونيس "خلق لغة جديدة تغاير لغة الحياة اليوميّة، ولغة الحياة الشعريّة السّائدة".وكان هذا هو حال بودلير،ورامبو،ولوترايامون في الشعر الفرنسي،واغار الن بو ،وولت ويتمن في الشعرألأمريكي،ويوشكين،وماياكوفسكي وايسنين في الشعر الروسي،ولوركا وجماعة جيل27 في الشعر الإسباني.وهكذا كان أيضا حال كبار المجددين في الشعر العربي الحديث.وإذا ما نحن ألقينا نظرة على الأدب التونسي المعاصر فإننا لا نعدم أن نقف على حقيقة إرتباط التجديد في الكتابة بالتجديد في مجال اللّغة.فقد كان الشابي مجدّدا بالمعنى الحقيقي للكلمة لأنه إبتكر لغة متحرّرة من نواميس، ومن قوالب اللغة الفقهيّة الصّفراء المهيمنة على الأدب التونسي في مطلع القرن.وفي نفس الفترة التي عاش فيها الشابي،كان جماعة "تحت السّور" مفتونين بالحفر في منجم اللغة بحثا عن ما يستجيب إلى طموحاتهم في كتابة تعكس واقعا ظلّ مغّيبا حتى ذلك الحين. ولو أمهلهم العمر،لكانوا قد إستخرجوا اللآلىء. غير أن الموت فاجأهم وهم في ريعان الشباب . مع ذلك نحن نستشفّ من خلال النصوص القليلة التي تركوها خصوصا في مجال القصة القصيرة أنهم،أي جماعة"تحت السور"،خصوصا علي الدوعاجي،ومحمد العريبي،كانوا واعين بأهميّة اللغة في التجديد الإبداعي.
بعد الشابي،وجماعة" تحت السّور"،إنحصر التجديد الأدبي واللغوي في النثر متجسّدا في كاتبين يقفان على طرفي نقيض،أعني بذلك محمود المسعدي،والبشير خريف.فقد لجأ الأول في كلّ ما كتب الى اللغة القديمة ساعيا أن يقتبس منها ما يمكن أن يزيل عنها الغبار الذي تراكم عليها خلال قرون الإنحطاط.أما البشير خريّف فقد واصل ما كان قد بدأه جماعة"تحت السور"، مُبتكرا لغة خاصّة به تتغذّى من التراث الشفوي،ومن اللغة اليوميّة في إنسيابها البديع ، وفي إنعكاسها لواقع متوهّج. أمّا الشعراء فقد إنكمشوا على أنفسهم ، ولم يأتوا بالجديد لا في مجال الشكل، ولا في مجال المضمون ،ولا في مجال اللغة. وعلينا أن ننتظر حتى أواسط الستينات من القرن الماضي لكي تطرح مسألة التجديد مرّة أخرى .وكان عز الدين المدني المتأثر بأفكار الناقد الجامعي فريد غازي الذي أمضى فترة الدراسة الجامعيّة في باريس خلال الخمسينات من القرن الماضي،أوّل من بشّر بذلك.فقد استطاع من خلال مجموعته القصصيّة"خرافات"أن يقدّم مفهوما للتجديد في الكتابة.ومشرفا على الملحق الأدبي لجريدة"العمل"الناطقة باسم الحزب الحاكم، تجمّع حوله كتّاب وشعراء وفنّانون لتنشأ ما اصطلح النقاد على تسميته ب "الطليعة الأدبيّة". ولرسم الملامح العامة لهذه الحركة الجديدة،أصدر عز الدين المدني كتابا حمل عنوان:”في الأدب التجريبي"ساعيا من خلاله الى بلورة العناصر الأساسيّة التي تشكّل المنظور الجديد للكتابة.ثمّ لم يلبث الشعراء المنتسبون الى الحركة المذكورة أن شكّلوا تكتّلا مستقلاّ أطلقوا عليه"جماعة في غير العمودي والحر".وقد نشر هؤلاء الشعراء في الملحق الأدبي لجريدة "العمل"، وفي مجلّة "الفكر" التي كان يديرها،ويشرف عليها محمد مزالي،وهو من رموز النظام الحاكم، جملة من القصائد خرجت عن المألوف في بنائها، وفي شكلها،وفي لغتها.وسرعان ما اكتسح جماعة"في غير العمودي والحر"، وتحديدا الطاهر الهمامي،والحبيب الزناد، المشهد الشعري، متغلغلين في الأوساط الطلابيّة اليساريّة. لكن هل كان ما أتى به هؤلاء تجديدا حقيقيّا في مجال الكتابة الشعريّة؟ما أظنّ ذلك. وصحيح أنهم "خرجوا عن المألوف"، غير الخروج عن المألوف كما يدلّنا على ذلك مجمل تاريخ الأدب الانساني،لا يمكن ان يشكّل العنصر الأساسي الوحيد في عمليّة التجديد الأدبي، بل قد لا يتعدّى أن يكون مجرّد عمليّة إستعراضيّة قصير الأمد. وهكذا إنحسرت عمليّة التجديد عند الشعراء المذكورين في تمجيد"البروليتاريا الرثّة"، وفي كتابة قصائد شعبويّة، خالية من الخيال، ومن أيّ حفر في اللغة، ومن أيّ جهد في الخلق في الإبتكار كما هو الحال عند المجدّدين الحقيقيّين. وهو ما عجّل بانطفاء هذه التجربة في فترة وجيزة للغاية، وفي تشتّت أصحابها وكأنّ شيئا لم يكن!
إنّ أيّ تجربة فاشلة في المجال الأدبي أو الفنّي لا يمكن أن تخلّف غير الرماد. فلا ورثة لها ولا مقتدين بها. وهذا ما حدث مع جماعة "في غير العمودي والحر"بصفة خاصّة، ومع جماعة "الطليعة الأدبيّة" بصفة عامة. ولعلّ أبلغ دليل على ذلك هو أن عقد السبعينات إنقضى من دون أن يشهد صوتا شعريّا واحدا مثيرا للإنتباه .فقد كفّ الحبيب الزناد عن كتابة الشعر ليسخّر حياته مستقبلا للتدريس في المعاهد الثانويّة، ،عائدا الى أحضان العائلة التقليديّة المحافظة التي إليها ينتمي .أمّا الطاهر الهمامي الذي مجّد في قصائده ماسحيّ الأحذية،وباعة "الرويافيكا"(الثياب المستعملة)فقد إنصرف الى العمل السياسي والنقابي.وقد حاول شاعر شاب يدعى المختار اللغماني أن ينفخ في رماد تجربة "الطليعة الأدبيّة"غير أنه رحل عن الدنيا مبكّرا من دون أن يحقّق الهدف المنشود.
أوائل الثمانينات ،تزامنا مع الإنفراج السياسي الذي شهدته البلاد بعد عمليّة قفصة المسلحة(1980) التي كانت تستهدف تقويض نظام بورقيبة، نشطت الحركة ألأدبيّة والفنيّة مجدّدا، فبدت وكأنها العنقاء التي تخرج من رماد السنوات العجاف، سنوات السيعينات التي وسمتها المحاكمات السياسية، والقمع المسلط على المعارضين، والنقابيين. فقد قدّمت فرقة"المسرح الجديد" أعمالا مسرحيّة بديعة نالت اعجاب جماهير واسعة، مخوّلة لأصحاباها تأسيس موقع مهمّ في المشهد الثقافي والفنّي.أما في مجال الشعر فقد حاول المنصف المزغني بقليل من النجاح الفني، وبكثير من الصخب، أن يقنع التيّارات اليساريّة التي كانت لا تزال تتخبّط في إخفاقات وإنكسارات المرحلة السابقة بأنه قادر على ان يملأ لوحده الفراغ الذي خلّفته "الطليعة الأدبيّة".في نفس تلك الفترة ،إنتظمت في المركز الثقافي الدولي بالحمامات،ندوة حول آفاق الشعر التونسي الحديث.وعلى مدى أيّام ثلاث،تطارح المشاركون في قضايا شتى تتّصل بالكتابة عموما،وبالشعر تحديدا.وقد تمخّضت تلك الندوة الصاخبة عن بروز تيّارين متضادّين.التيّار الأول سمّى نفسه ب"المنحى الواقعي"مُتبنّيّا مجمل أطروحات الواقعيّة الإشتراكيّة، مؤّكدا على أن الشعر لا بدّ أن يكون تحريضيّا أو لا يكون. ومن أبرز ممثلي التيّار المذكور،يمكن أن نذكر الطاهر الهمامي،والمنصف المزغني،وأولاد أحمد،والناقد اليساري أحمد الحاذق العرف. والوحيد من هذه الجماعة الذي تمكن من أن يصيع تجربة شعرية لافتة للإنتباه هو أولاد أحمد. أما التيّار الثاني فقد مثّله شعراء ينتمون الى مدينة القيروان ،أعني بذلك المنصف الوهايبي،ومحمد الغزي،والبشير القهواجي.وخلال الندوة المذكورة ،شنّ صاحب هذه السطور، هجوما عنيفا على الواقعيّة الإشتراكيّة،وعلى الشعر التحريضي،"شعر الفضلات الإيديولوجيّة" بحسب تعبيره، مشيرا في مداخلاته المكتوبة والشفويّة أن قصائد جماعة "المنحى الواقعي "سطحيّة،ومبتذلة،وركيكة في بنائها،وفي لغتها!
بعد ندوة الحمامات ،قامت المعركة على أشدّها بين التيّارين المذكورين على صفحات الجرائد والمجلاّت.وقد أبرزت القوى اليساريّة مساندتها لتيّار"المنحى الواقعي"، معتبرة إيّاه المعبّر الأساسي عن مشاكل الشعب.أما شعراء القيروان فقد رايطوا في مدينتهم، موكلين لي الرد على خصومهم،وتوضيح رؤيتهم للشعر والكتابة. .وقد بدا لي أنا الذي كنت قد عدتّ الى الكتابة بعد صمت إستمرّ سنوات طويلة أنه من الضروري أن أبلور جملة من الأفكار حول الرؤية الشعرية والفنيّة لمن كنت من أنصارهم من أمثال خالد النجار،والمنصف الوهايبي،والبشير الفهواجي،وعلي اللواتي.وبعد رحلة قمت بها الى كلّ من باريس،ومدريد والدار البيضاء،ومراكش في صيف عام 1981، نشرت نص"مملكة الفتية الشرسين".
الآن ،وبعد أن إنقضت قرابة أربعة عقود على كتابتي للنص المذكور، ماذا يمكنني أن أقول؟
أول شيء هو أنه لم تعد لي أيّة صلة فكريّة ،أو ثقافيّة مع من كنت قد إعتبرتهم في ذلك الوقت مؤسسين لرؤية جديدة في الشعر، وفي الكتابة يصفة عامة.مع ذلك أنا حريص على متابعة ما يكتبون من دون حماس كبير .بل قد لا أجد في قصائدهم،وفي نصوصهم ما يدهش أو يثير. وعندما أنظر من حولي،أعاين أن أغلب أبناء جيلي من الشعراء باتوا يعتمدون على "عكاكيز" من خارج عالمهم الداخلي لكتابة قصائدهم . ثم إن هؤلاء الشعراء الذين يتحركون في المشهد،ويعتلون المنابر راهنا،لا يعيشون الشعر في معناه العميق،وإنما هم يتسكعون خارجه ،وبعيدا عنه،متوهّمين أنه باستطاعتهم أن يحققوا الشهرة لأنفسهم ب”الصناعة”، و"الحياكة" وحدهما. أمام هذا الخواء، وهذا المشهد الخالي من المتعة ومن الدهشة والإثارة، خيّرت الإبتعاد عنهم ، مُعيرا لتجربتي الشخصية في الكتابة ما يساعدها على التطور والنضج بعيدا عن الحلقات الضيقة التي غالبا ما تفضي الى الإختناق والذبول والموت...