&
يقدم الكاتب د.مصطفى الفقي في أحدث كتبه "شخصيات على الطريق" خلاصة رؤاه الإنسانية من خلال عرضه لأكثر من مائة شخصية بين مصرية وعربية ودولية التقاها واقترب منها في ميادين الحياة المختلفة، بدءا من أولئك النساء الشهيرات اللاتي ملأن الدنيا بأخبارهن وحياتهن وتأثيرهن في مختلف نواحي الحياة وعلى اختلاف الأصعدة، سياسيا وعلميا وثقافيا واجتماعيا، فكانت لهن بصمة برزت تجلياتها فيما حققن سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو الدولي، ومرورا بالشعراء والكتاب والمفكرين والفنانين الذين أثروا الثقافة العربية وانتهاء بشخصيات عربية سياسية واقتصادية لعبت دورا عربيا كبيرا على المستوى الإقليمي والدولي.&
في تقدمته للكتاب الصادر عن الدار المصرية اللبنانية يقول الفقي "عشت حياتي مؤمنًا بالعنصر البشري، مدركًا بأن الفارق بين إنسان وآخر، إنما يكمن في مزيج من العقل والقلب، تحت مسمى الوجدان، ولقد آمنت دائما أن الإنسان ابن ظروفه ولكن ذلك لا يعني أنه نتيجة مطلقة وليس سببا فاعلا، إذ أن الواقع يؤكد أن الفارق بين شخص وآخر إنما يكمن فيما يمكن تسميته بجدولة الذهن وترتيب العقل، وإعمال فقه الأولويات، لذلك اهتممت كثيرا بالعامل الشخصي والذاتي عند اكتشاف مقومات كل إنسان عرفته، مع محاولة الغوص في أعماق شخصيته نتيجة فضول غريزي، يسعي لفهم النفس البشرية، فقد آمنت في النهاية أن الإنسان هو الإنسان بغض النظر عن العرق أو الجنس أو اللون أو اللغة أو الدين، فهناك قاسم مشترك بين البشر في كل زمان ومكان، ولا يمكن التعميم وفقًا لعوامل الاختلاف بين البشر، فهناك الياباني غير المنظم، والألماني غير المنضبط والسويسري غير الدقيق، كما أن هناك المهراجا الهندي الغني بلا حدود والأمريكي الفقير بلا دخل والبريطاني الثرثار بلا تحفظ.&
ويؤكد أنه لا توجد قاعدة ثابتة تحكم سلوك الناس ولكن توجد قواسم مشتركة بينهم انطلاقا من طبيعة النفس البشرية التي تلتقي في الغرائز والدوافع والتطلعات.&
ويضيف "لقد حرصت فيما كتبت على النظرة المحايدة والتناول الموضوعي للشخصيات المختلفة إيمانا منى بأن الجوانب الإيجابية لدى معظم الناس تطفو على الجوانب السلبية لديهم، كما حرصت على التنوع.. وليس فيما أكتب توصيفا لسيرة ذاتية أو تجميعا لأوراق شخصية إنما هو نوع من الفهم للعقل الذي أتعامل معه والتذوق للروح التي أكتب عنها بين من عرفتهم واستمعت إليهم وتحدثت معهم.. إنها أقرب إلى فكرة "الكاريكاتير" السياسي، أو "البورتريه" الشخصي، وقد تساءل البعض عن أسلوب اختيار الشخصيات وانتقاء الشخصيات وانتقاء النماذج التي أتناولها بالرصد والتحليل.. وهنا أقول أنني فقط أكتب عن بعض من عرفت لا عن كل من عرفت من الناس".
ويتوقف الفقي في أربع محطات رئيسية، تأتي أولاها تحت عنوان "نساء شهيرات" ليتناول أمثلة لنساء تركن بصمة، برزت تجلياتها فيما حققن من شهرة، وقد اختلفت مواقعهن، فمنهن الفتاة والزوجة والأم، واللاتي شكلن – في مجموعهن- قدوة ودليلًا ونبراسًا، يستدل به في شتى مناحي الحياة.. ومن بينهن "أنديرا غاندي، تحية عبد الناصر، جيهان السادات، زينب الغزالي، عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"، ناهد رشاد، تهاني الجبالي".
المحطة الثانية كانت مع الأكاديميين "في محراب الجامعة" وتأتي وفقا للفقي "إيفاء لحق تلك الفترة الرائعة في حياتي وسدادًا لذكريات عزيزة إلى قلبي للغاية، وتسجيلًا لحق شخصيات كان لها تأثيرها المباشر وغير المباشر في حياتي". تناول هنا الشخصيات التي قابلها أو تعرف إليها أو سمع عنها في ذلك المحراب المقدس.. وهي تضم رموزًا حملت مشعل العلم والنور، وأنارت طريقًا لجيله وما تبعه من أجيال إلى دروب العلم والمعرفة والفكر.. وكان لهم تأثير لا يخفى على ملامح الحياة العلمية والفكرية في مصر آنذاك حتى الآن. ومن بينهم "د.إبراهيم بدران، د.أحمد شوقي العقباوي، د.أحمد مستجير، د.رشدي سعيد، د.سليمان حزين، طارق البشري، د.عبد الملك عودة، د.أحمد يوسف، ود.حامد ربيع".
محطة الفقي الثالثة كانت تحليقًا "في سماء الإبداع" حيث المفكر والشاعر والروائي والقصاص والمسرحي والمخرج والمطرب والموسيقار والممثل، حيث يقدم رؤيته كقارئ ومشاهد ومستمع لشخصيات مثل "أم كلثوم، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، أدونيس، توفيق الحكيم، صلاح عبد الصبور، ليلى مراد، عبد الحكيم حافظ، عاطف الطبيب، يحيي الفخراني، يوسف شاهين، نصير شمة، محمد عبد الوهاب".
وفي المحطة الأخيرة من الكتاب "خارج الحدود"، ينتقل الفقي ليحكي لقرائه عن تلك الشخصيات التي عرفها وقابلها وسمع منها وعنها، موضحًا أن العنوان لا يشير إطلاقًا إلى شخصيات غير مصرية أو عربية أو أجنبية فحسب، وإنما يتناول كذلك أولئك المصريين الرائعين، الذين شاءت الأقدار أن تجعل مسيرة إنجازاتهم وإبداعاتهم وإسهاماتهم خارج حدود الوطن.. فقد ارتبط الفقي بحق هؤلاء في أن يندرجوا تحت ذلك التوصيف &المكاني، في محاولة منه لأن يعطيهم حقهم من ناحية، وأن تكتمل منظومة عرض النموذج والقدوة من ناحية أخرى.

أم كلثوم
يقول الفقي عن أم كلثوم " إذا ترامت إلي مسامعي إحدي أغنياتها وجدتني أنسحب من واقع اللحظة إلي عصاري الستينيات من القرن الماضي ولياليها الرائعة عندما بدأ عشقي لذلك الصوت الذي لن يتكرر. إنها تلك الريفية الفقيرة التي بدأت حياتها بالأناشيد الدينية والمديح النبوي، وانتقلت من "طماي الزهايرة" قرب "السنبلاوين" لتغني علي أعظم مسارح الدنيا، وفي القاعات الكبري بالعالم. إنها تلك الموهبة التي أجزلت لها العناية الإلهية العطاء ومنحتها صوتاً كانت جيوش الحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية توقت بعض غاراتها مع حفلاتها الغنائية استثماراً لحالة الاسترخاء التي يعيشها الناس أثناءها. إنها الفنانة الفذة التي خالطت الملوك والزعماء والساسة حتي إنه عندما جري اغتيال "النقراشي" باشا رئيس الوزراء بدأ جحوظ عينيها بتأثير اضطرابات الغدة، نتيجة صدمة الحزن علي صديق عزيز. ولابد أن أعترف بأن الاستماع إليها عن بعد أمتع بكثير من التعامل معها مباشرة، لا لأنها شخصية غير مقبولة، ولكن لأن صوتها وحده ينقل الإنسان إلي مراتب عليا من الاندماج والشجن، ويفتح أمامه أبواب الخيال المطلق الذي لا توقفه حدود الشخصية بواقعها البشري المعتاد".
ويضيف "ولن ينسي المصريون دورها الرائع بعد هزيمة 1967 وهي تجوب العواصم العربية والأجنبية من الكويت إلي السودان إلي المغرب ثم إلي باريس ولندن وغيرها تشدو دعماً للمجهود الحربي وإزالة آثار العدوان".

ليلى مراد
وعن المطربة والفنانة القديرة ليلى مراد ويقول الفقي "أشهد الله أنني من تعاملي الطويل والمستمر مع تلك الفنانة الراحلة لم ألحظ لأصولها اليهودية أي تأثير سلبي علي وطنيتها المصرية، بل كانت دائمة الانتقاد لسياسات إسرائيل وشديدة التعاطف مع الشعب الفلسطيني وكانت تضع دائماً ـ وهي ابنة الفنان العظيم "زكي مراد" ـ مصريتها وعروبتها فوق كل اعتبار، ولقد زعم البعض ظلماً بوجود اتصالات بينها وبين "الدولة العبرية"، وهذا محض افتراء، لأن مصر التي عرفت الموسيقار العظيم "داود حسني" ورفعت من شأنه كثيراً، هي نفسها التي احتضنت عائله "مراد" الفنية وغيرهم من أبناء الوطن الواحد، فالمصريون لا يفرقون بطبيعتهم بين أبناء الوطن بسبب الانتماءات الدينية.. إنها "ليلي مراد" الفنانة التي رحلت عن عالمنا بعد سنوات طويلة من الاعتزال المبكر.. رحمها الله".&

تحية عبد الناصر
ويحكي الفقي عن السيدة تحية عبد الناصر قرينة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ورفيقة حياته وشريكة كفاحه، ويقول عنها "مصرية عظيمة تردد أن عائلتها تنحدر من أصولٍ إيرانية، رآها المصريون يوم رحيل القائد الكبير نموذجًا إنسانيًا راقيًا للأرملة الحزينة التى فقدت الحياة والأمل فى لحظة واحدة، إنها السيدة التى توقفت أمام مجموعة من الفنيين والعمال وهم يقومون بتركيب المصعد فى منزلها وتطلعت إليهم بنظراتٍ قلقة؛ لأنها أدركت أن الحالة الصحية للزوج الوفى قد بدأت تأخذ منحنى النهاية، وهى السيدة التى رفض زوجها "الصعيدى" أثناء زيارة رسمية لـ "أثينا" أن تتأبط زوجته ذراع الملك "بول" ملك اليونان وتتأبط الملكة "فيكتوريا" ذراعه فى تقليدٍ بروتوكولى لم يقبله، وخرج عليه ذلك الرئيس الثائر فى مناسباتٍ مختلفة،&
وما زلت أذكر تلك الأيام من خريف عام 1962 فى مستهل حياتى الدراسية بجامعة القاهرة، حيث فشلت أنا وعدد من زملائى فى اكتشاف شخصية ابنتها السيدة "هدى" التى كانت تدرس معنا ضمن عددٍ محدود من طلاب قسم العلوم السياسية فى كلية الاقتصاد، ذلك أنها كانت طالبة عادية، لم نتعرف عليها إلا بوجود "فرد أمن" يتابع تحركاتها عن بعد فى طرقات الكلية، بينما ضابط الحراسة من سكرتارية الرئيس يجلس فى مكتب قائد حرس الكلية.. إنها قصة عصرٍ مضى وأيامٍ ولت وقد لا تعود".
ويضيف "إنها السيدة تحية عبدالناصر، التى ذهبت لأداء فريضة الحج بعد رحيل زوجها بسنوات قليلة فخرج الملك العربى الأصيل فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، عن التقاليد الملكية المرعية فى العرش السعودى ليتصل شخصيًا ويوميًا بالسيدة قرينة خصم حياته "جمال عبد الناصر" ليقول لها: "كيف حال ضيفتنا اليوم"،&
ولا يكتفى بأن تقوم عنه بذلك قرينته الراحلة الملكة "عفت".. إنها خصومة العظماء وخلاف الأقوياء، ولقد فعل "الحسين بن طلال" ما يشبه ذلك وأكثر عندما استقبل زميلتى الدكتورة "هدى عبدالناصر" وزوجها الصديق الأستاذ "حاتم صادق" فى عمَّان، حيث كانا فى زيارةٍ للعاصمة الأردنية لأمرٍ يتصل بعمل الزوج المرموق. وهى أيضًا السيدة "تحية عبدالناصر" التى استقبلتها السيدة "أنديرا غاندى" فى قاعة الشرف الكبرى المسماة بالقاعة التذكارية ـ التى يستقبل فيها رئيس الدولة الهندية الشخصيات المتميزة دوليًا فى مطار "نيودلهى" ـ ويومها وقفت الدولة الهندية كلها، على ضخامتها وعظمتها، تحيةً للأرملة العظيمة القادمة من أرض النيل إجلالاً وإكبارًا لرجلٍ غيَّر مسار التاريخ وفجًّر أكبر ثورةٍ فى الشرق الأوسط".
&
&