&

فيخريف عام 1949، عائدا من البقاع المقدسة، قام الكاتب الجزائري الكبير (1929-1989) بزيارة إلى السودان. وقد وصف زيارته تلك في نصّ نشرته صحيفة"ألجي روبيبلكان" في عددها الصادر يوم 12ديمسبر-كانون الأول من العام المذكور. ومنذ وصوله إلى مدينة بور -سودان، سعى صاحب رائعة"نجمة"إلى الإختلاط بالناس العاديين، ليتعرف على الروح الحقيقية للبلاد. وفي بداية نصه كتب يقول :” عندما وجدتّ نفسي ذات صباح في قلب إفريقيا ذاتها، كنت مضطربا وحائرا ومتغرّبا حتى أنني كدت ألفت أنظار رجال الشرطة، وأنا أتجاوز مكتب الجمارك. كانت مدينة غيرعادية إلى حدّما، مشدودة إلى البحر، ضيّقة، ومن الصعبالدخول إليها. لذا لا بدّ من البحثعن طريقة للعيش فيها سريّا دون أن يحول ذلك من الإختلاط بالحياة العميقة للسكان".
قبل طلوع النهار، دخل كاتب ياسين إلى المدينة. مقاه صامتة إلاّ من همسات الزبائن. المتجلون قليلو العدد، والشوارع فارغة. هنا وهناك شرطيّ بالزيّ الأبيض. ثم طلعت الشمس فإذا بالأرض تصبح ملتهبة كالجمرة. على رصيف الميناء الذي رست فيه باخرة باكستانيّة، كان هناك ضابط بريطاني في زيّه العسكريّ يطلق أوامره صائحا في زنوج كانوا يركضون في جميع الإتجاهات وسط الغبار الكثيف. وبين الحين والحين،كان يضرب بالكرباج واحدا منهم. ثم لم تلبثالمدينة أن امتلأت برجال يرتدون الجلابيات البيضاء، وبنساء خفيفات الحركة، مكشوفات الوجوه، يحملن على ظهورهنّ أطالفهنّ، ويرتدين فساتين متعدّدة الألوان. ورغم أن أغلب الوجوه بدت ضاحكة ومبتهجة بالحياة، فإن الفقر كان صارخا. فقدكان هناك عدد كبير من الأطفال يتسولون.وثمة شبان جالسون في المقاهي وقدخيّم على ملامحهم الهمّ، والتفكير في حياتهم الشقيّة.
وفي مدينةبور-سودان ،التقى كاتب ياسين بيونانيين، وببريطانيين، وبألمان، وهولنديين. وجميعهم كانوا يحتقرون السودانيين، ويتعاملون معمه بخشونة وقسوة، معتبرين إياهم"جنسا منحطا". وفي مقهى ما، كان هناك ألمانيّ سكران يردّدالنشيد الفاشستي الإيطالي، ويمجد موسيليني. وفي ذات المقهى، قال يونانيّ لكاتب ياسين:”تخيّل الزنوج يتعلمون القيام بإضرابات، وتنظيم تظاهرات في الشوارع... ستحدث عندئذ كارثة بالتأكيد...ولولا البريطانيون الذين يقتلون البعض منهم بين وقت وآخر، بهدف الردع، فلن يكون باستطاعتنا نحن الأوروبيين أن نتحدث إليهم!”. إلاّ أن اليواني سرعان ما غيّر خطابه عندما دخل إلى المقهى زنجيّ أنيق تبدو عليه مظاهرالنعمة، وخاطب كاتب ياسين قائلا:” هؤلاء أفندية ...وهم يحتلون مراتب عليا في الإدارة...وهم أشخاص جيّدون للغاية، ولهم تأثير قويّ على تسيير الشؤون العامة للبلاد...وهم ليسوا مثل الآخرين رغم أنهم زنوج!”.
مواصلا تجواله في المدينة، تمكن كاتب ياسين من الإلتقاء بجمع من الشبان السودانيين الوطنيين يناضلون سريّا ضدّ القهر المسلّط على شعبهم من قبل الإستعمار البريطاني. وقد حدثه هؤلاء عن الإستغلال الفظيع الذي يتعرض له الفلاحون الفقراء، وعن المجاعات والأوبئة التي تحصد آلاف الناس سنويا. وقد تبين لكاتب ياسين أن أولئك الشبان بحظون بتأييدالفلاحين، والعاطلين عن العمل، وحتى المتسولين!
على ظهر جمل، سافر كاتب ياسين بصحبة طالب يدعى نور الدين إلى قرية سودانيّة بائسة. وفي محطة القطارات، وقف مدهوشا أمام القطار القادم من الخرطوم. فقد بدا المسافرون الذين قطعوا مسافة تقدر بألف كيلومتر، وكأنهم خارجون للتو من الجحيم. وكان هناك أناس ممدون على الأرض من فرط التعب والجوع والعطش. وكان الأطفال يبكون بمرارة. آخرون يعانون من الحمى،ومن أمراض أخرى أصيبوا بها في الطريق. وكانت الحرارة شديدة حتى أن كاتب ياسين أحسّ كما لو أن هناك حريقا هائلا يأكل الأخضر واليابس. وقدقال له الطالب السوداني:” لا تندهش يا صديقي...فالعربات المخصصة للمسافريبن الزنوج سيئة جدا...أما عربات الدرجة الأولى فمخصصة للبيض وللأغنياء فقط. مع ذلك هي فارغة كما أنت ترى. لكن المسؤولين يرفضون فتحها للمسافرين الزنوج حتى ولو ماتوا عن آخرهم... وأطباء الملك جورج السادس يقولون:” البذرة السيئة لا تموت أبدا...لذا ليس علينا أن نبدّد أدويتنا بسبب أمراض الزنوج!”.