«إيلاف» من أصيلة: خصصت مؤسسة منتدى أصيلة في المغرب، يوم الأحد السادس عشر من شهر يوليو الجاري، للاحتفاء بالمفكر المغربي محمد سبيلا الباحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، والذي توزع انتاجه بين البحث الفكري والفلسفي والترجمة والسياسة أيضاً. وعرف محمد سبيلا ببحثه الدائم عن آفاق الحداثة والدفاع عن ثوابتها والسعي الى التحرر والانفتاح على الآخر منذ منتصف القرن الماضي قبل أن تصاب الفلسفة في العالم العربي بنكسة ماتزال تئن تحت سنابكها متمثلة بالأصولية الاسلامية والتكفير للتفكير، حيث حاربت البحث الفلسفي باعتباره محرمًا يسعى لطمس الدين. وطاردت منذ القرن الماضي دعاة الحداثة الفكرية أينما حلّوا.

شارك في الندوة التي عقدت في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في المدينة القديمة بأصيلة، كل من عبد السلام بنعبد العالي ومحمد نور الدين أفاية ومحمد الشيخ وعادل حدجامي وأحمد شراك وعبد المجيد الجهاد وحسونة المصباحي.

أفتتح الندوة رئيس منتدى مؤسسة أصيلة الوزير محمد بن عيسى الذي عبّر عن شعورة بالمتعة الخاصة، وهو يفتتح ندوة الاحتفاء بالفكر محمد سبيلا المربي ومنسق الفلسفة لأجيال في المغرب، إضافة جهوده في الترجمة والبحث.

ورأى بن عيسى أن تكريم سبيلا هو تكريم للدرس الفلسفي في المغرب ببنيته الاكاديمية، مستحضراً الرائد الراحل محمد عزيز الحبيبي المؤسس لدرس الفلسفة والتراث الفلسفي في المغرب.

وقال إن الفلسفة لا تقتصر على التفكير المجرد بل على التمكن من الامساك بأدوات الحياة والانفتاح على الفكر الانساني الذي كان سبيلا السباق فيه، مركزاً بحوثة الفكرية على التحديث والعقلانية.

ثم تحدث منسق الجلسة شرف الدين ماجدولين، الباحث والناقد واستاذ العليم العالي في معهد الفنون، الجميلة بتطوان، عن أهمية تكريم باحث ومفكر مثل محمد سبيلا في موسم إصيلة الذي دأب في السنوات الأخيرة على الانفتاح في احتفاءاته بتكريم المفكرين والفلاسفة والباحثين في علم النفس. ورأى أن تكريم محمد سبيلا فرصة لوفاء جهوده الفكرية في الثقافة المغربية.

 

 

ما بعد الحداثة

الباحث عبد السلام بنعبد العالي رأى أن الاحتفاء يجمع بين الدرس الفلسفي وعنوان الحداثة، إذ لا تخفى الرابطة القوية بينهما. فالفلسفة أداة للتحديث بلا منازع. واكد على أن مفهوم الحداثة نفسه موضوع للتفكير الفلسفي . وبين أن ذلك يحثنا على طرح مفهوم الحداثة طرحاً فلسفياً.

وقال بنعبد العالي إن مفهوم الحداثة يقرن دائمًا بفهوم آخر أكثر غموضاً هو مفهوم ما قبل الحداثة.

وغاص الباحث في تبيان عدم سهولة الحديث عن ما بعد الحداثة لدى الباحثين الغربيين، مستغرباً من السهولة التي يجري بها تناول ذات المفهوم لدى كتابنا.

فمفهوم ما بعد الحداثة لدى الكتاب الفرانكفونيين والانكلوسكسونيين نادراً ما يتحدثون عما بعد الحداثة فلسفياً بل في مجالي الفن والمعمار.

فكونك ما بعد حداثياً أن تكون واقفاً من وليس على، اذ الحداثة عصر يمتد في العلاقة بين الماضي والمستقبل. 

وتطرق الى التقليد بوصفه مفاوضاً ماكراً يتعلق بما هو كائن ويتشبث بما هو قائم. 

وقال بنعبد العالي إن الحداثة لا تعني التسليم بالتحولات بل أن الكائن تحول. والحداثة لا تقابل القدامة ولا يمكن تقطيعها الى ما قبل وما بعد، فهي انفصال ما بعدي على الدوام. وختم بأن (المابعد) هو حداثة الحداثة، كما كتب محمد سبيىلا.

أما الباحث محمد نور الدين أفاية فقال إن سبيلا انخرط في تأسيس أكبر حزب فلسفي في المغرب. ورأى فيه مدافعًا عنيدًا عن الفلسفة. ووصفه بالباحث والمؤلف في العولم الانسانية، وليس فقط في الفلسفة، إضافة لكونه مترجمًا لا تعني الترجمة لديه نقل الافكار من لغة الى أخرى، بل هي تفكير أيضاً. ورأى فيه من الناس القلائل الذين يحسنون الترجمة.

عُرف سبيلا ببحثه الدائم عن آفاق الفلسفة الحديثة والمعاصَرة 

 

دينامية الخوف

وعمد أفاية الى استحضار الفكر الفلسفي لسبيلا خلال نصف قرن، وقال إن سبيلا تعرض للظلم في تناوله الفكر الفلسفي حين كان رائداً في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي إذ كان يدعو الى الانفتاح على الآخر.

وتطرق الى فترة الثمانينات من القرن الماضي، حيث أقصيت الفلسفة من قبل الفكر الديني المتمثل بالوهابية والسلفية.

وختم حديثه الى عرض ما يسميه سبيلا بدينامية الخوف التي رأى فيها الرهان على توظيف الفكر في المجتمع والمراهنة على المثقف. وبين أن سبيلا يرى أن المغرب يواجه حداثة هجينة وقلقاً معرفياً وغياب الحاضنة للفكر الأصيل، وإننا نعيش حداثة مغشوشة صماء، ويدعو للتأسيس لحداثة فكرية وبنيات معرفية حديثة تقود للتحديث الحقيقي.

بين الدين والدنيا

الباحث محمد الشيخ الاستاذ بكلية العلوم الانسانية والاداب في جامعة الحسن الثاني بالرباط، فأشار الى ما طرحه سبيلا حول حداثة المفرد وحداثة الجمع. منطلقاً من حوار سابق مع المفكر محمد سبيلا لمجلة بحرينية، سأله المحاور فيه عن الحداثات المتعددة. وتطرق الى مقولة الحداثة الوحيدة التي بدا الحديث بها في السنوات العشرين الأخيرة. فالحداثات المتعددة تعني أشكالاً متعددة من الحداثة، وكل حديث عن الحداثات ينطلق من الحداثة المتعددة.

وقارن بين ما طرحه الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور وما طرح سبيلا تجاه الحداثة. 

فلا حداثة دون نزعة فردية ولا حداثة دون تمييز بين الدين والدنيا، ولا حداثة دون الاصالة كسمات عامة للحداثة، إما أن نعمل بها كحزمة واحدة أو لا نعد حداثيويين.

وقال الشيح إن سبيلا يرى أن هناك نمطاً واحداً من الحداثة هو العقل.

والحداثة الاوروبية هي الحداثة الام، كما يرى سبيلا الذي يتحفظ على التشبث بفكرة الخصوصية تجاه الحداثة. وختم أن أصالتنا في تخلفنا فقط.

اما الباحث عادل حدجامي، استاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة محمد الخامس بالرباط، فقد وجد أن سبيلا قد بلغ سن السعادة حيث تتطهر النفس وتكتسي براءة واضحة، واصفاً سبيلا بالقادم من جيل ما بعد الاستقلال، الذي جسد وطنًا أكبر منه، وكان جيلاً سياسياً بامتياز تركز همه في ازالة الاستعمار.

وتطرق الى إيمان سبيلا بالفكر النقدي الفلسفي والاجتماعي، وقال إن سبيلا انتقل من السياسة الى الفكر لغاية تجذير السياسة وصولا للسياسة الكبرى التي هي سمة أخرى للفلسفة.

وتحدت عن الصفات التي عُرف بها المفكر محمد سبيلا لعل أبرزها المسحة الأبوية لسبيلا، التي يدركها كل من عرفه بسبب ميله الفطري لاحتضان الناس ورعايتهم.

ولفت الى الميزة التي عرف يها محمد سبيلا، وهي الهيبة التي قال إنها متأتية من الجود بشطريه ما تجود به نفسه للآخر وصد النفس عمّا لدى الآخر. ولم يكن متعالياً عمن هم دونه سناً وختم بميزة سبيلا الاهم، وهي الصمت الذي قال عنه نيتشه (أعرف الفيلسوف بقدر ما هو صامت).

الواقف دومًا

استاذ علم الاجتماع في كلية الاداب والعلوم الانسانية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس وأحد طلبة محمد سبيلا السابقين أحمد شراك، أشاد بالتفاتة مؤسسة منتدى أصيلة الى تكريم أهل الفكر وعلم النفس وعدم الاقتصار على أهل الأدب. وقد عنون مشاركته بـ (محمد سبيلا الواقف دوماً) إذ رأى أن سبيلا ظل ولما يزل واقفاً على المستوى الفكري والابداعي. وقال إن سبيلا كان يلقي الدرس واقفاً خاصة حين يتحدث عن نظريات المعرفة التي يجيدها.

وعاد بالذاكرة الى عام 1974 حين كان يتلقى درسه الفلسفي من سبيلا مستطرداً بمشاهد وحوادث من آنئذ.

وقال إن سبيلا كان مثقفًا ولم يكن يرفض واحدًا من الجوقة. ويرفض كمترجم الترجمة الحرفية مفضلاً خيانة النص عليها، وكان يحترم اليساريين رغم اختلافه معهم ايدلوجيا فلم يكن يوماً متحيزًا لقبليته السياسية.

وختم أن سبيلا كان يمارس الميتا نقد، الذي جرّ عليه الكثير من الاشكالات.

الباحث عبد المجيد الجهاد وهو استاذ في جامعة محمد الخامس تطرق الى ملمح التطور الثقافي والفكري لمحمد سبيلا. قال إن هاجس الثقافي ظل حاضراً في مشروع الحداثي.

ورأى أن محمد سبيلا مؤمن بقدرة المثقف في إحداث التغيير من خلال نتاج المعرفة التنويرية.

وعد الباحث سبيلا من بين نخبة من المثقفين الذين نذروا حياتهم لخدمة المعرفة. واجترح لنفسه طريقة في معالجة الاشكالات والموضوعات الفلسفية من خلال مشروعه في التحديث الفكري والاجتماعي. وقال إن سبيلا يرى أن المثقف الاسلامي هو مثقف عضوي والمثقف الذي يقود التظاهرات هو مثقف عضوي إيضاً، فقد انتقل هذا المثقف العضوي من دائرة الكتابة الى دائرة الفعل المباشر.

صخرة سيزيف

وختام الجلسات الصباحية كان مع الكاتب والاعلامي التونسي حسون المصباحي، الذي لفت الى فشل المفكرين والفلاسفة العرب في تحقيق مشروعهم المعرفي والاصلاحي، ولما يزالوا مثل سيزييف يدفعون صخرتهم وترتد عليهم. ورأى ان الفلسفة، عربياً، تلقت ضربة قاسية في فصول الانحطاط القائمة بسبب سيادة الفكر الاصولي في العالم العربي.

 وقال إن مفهوم الحداثة عند العرب ظل غائماً حيث فشل دعاة ورواد الفكر الحداثي، فيما نجح الأصوليون الدينيون في قطف ثماره التقنية ومحاربه نتاجه الفكري الذي يورنه محرماً. وما زال الاصوليون والتكفيريون يحصدون النجاحات في الحداثة التقنية فيما ظل المفكرون، بعضهم، أميين تجاه الحداثة التقنية التي يجب العمل بها في سلة واحدة. وانتقد المصباحي داعاة الفكر الحداثي بتشابههم مع داعاة الفكر الديني الاصولي في الاخذ بجزء من الحداثة وترك بعضه جهلاً أو كسلاً، فيما الاصوليون يتركونه عمداً وتكفيراً.

في جلسة المساء، تحدث عدد من طلبة محمد سبيلا السابقين، الذين صاروا زملاء في تدريس الفلسفة مثل محمد الشيكر وادريس كثير وعبد السلام الطويل ومحمد الاندلسي وعبد العلي معزوز وأحمد شراك.

 

سبيلا وشايغان 

محمد الشيكر المختص في الفلسفة والفنون البصرية في جامعة محمد الخامس بالرباط قدم مشاركة بعنوان (محمد سبيلا وداريوش شايغان- بين فتنة الحداثة وممانعات التقليد). أشار فيها الى أن المفكر الأصيل لا ينشأ ولا يتخلق في خلوة سولبسية تنقطع فيها الذات ازاء ذاتها وتستغرق في ضرب من المونولوغ الذاتي، مزهوة بامتلائها الجاني، ومنتشية باكتفائها البديهي بذاتها واستغنائها الانطولوجي عن ما عداها، بل إن اصالة فكر مفكر ما لا تتبدى الا في مجاورته لأنظار غيره، ومحاورته ومساءلته لها. ومن هذه المحاورة اللامتناهية، حسب تعبير موريس بلانشو، يتولد " كلام بصيغة الجمع"، يخلص الذات من انغلاقها ويحررها من احادية الخطاب ووحدته وتوحده. ويجعل كلامها يخرج من شرنقة المونولوغ الداخلي ليغدو كما يقول صاحب الفضاء الأدبي بمثابة "صداها الذي لا حد له، ووقعها الذاتي الذي يتشكل داخل فضاء متعدد" وفكر لأنظار مفكرين أصيلين من طينة كارل ماركس وسيجموند فرويد وماكس فيبر وإيريك فروم وجان بودريار وهايدغر والتوسير وجان فرانسو اليوطار وداريوش شايغان وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وغير هؤلاء، وليس في محاورة محمد سبيلا لهؤلاء ولسواهم من المفكرين ما يشي بأنه يكتفي بمقام السائل المستجوب المستنسخ الذي يستعيد أفكارهم على نحو ميمي.

ورأى أن شيغان لم يفد على الحداثة الا بعد أن أسرته خرائط الاشراق وطوحت به مغامرات اللاهوت العرفاني الشيعي، حيث انتسب بداية الى ما عرف بحلقة "أصحاب التأويل"، وهي حلقة مناظرات فكرية، كان قطباها هما كل من محمد حسين الطباطبائي وهنري كوربان، يناظر فيها الاول بالفارسية ويتحدث فيها كوربان بالفرنسية، حوار العرفان والتجار بالروحية والفلسفية، وفي ما يتصل بالميراث الميتافيزيقي والافاق المعنوية للتشيع". وتعرف في ما بعد مع كوربان الى هايدغر" الصوفي"، الذي توغل في "أقاليم الوجود" وتطلع للقبض على الاشياء بذاتها".

وختم الشيكر أن الانخراط في الحداثة ليس مهمة نهاية الاسبوع، بل يقتضي مواجهة طويلة مع سلطات التقليد ونظمها، وان الصراع بين النيتين، كما يقول سبيلا، صراع قاتل وأبدي.

مدرستان

وفي ختام المشاركات تحدث المحتفى به المفكر محمد سبيلا شاكراً المتداخلين ومؤسسة منتدى أصيلة واستعرض نتفًا مما دونه كتعليقات على كلمات المشاركين. وقال إنه ينتمي الى المدرسة الفلسفية المغربية والمدرسة الحداثية المغربية، التي يراها امتداداً لفكر الحركة الوطنية.

وقال إن هناك مدرستين فلسفيتين في المغرب العربي هما المدرسة التونسية والمدرسة المغربية، مشيراً الى تراجع المدرسة المصرية واختفاء المدرسة السورية.

وبين أن الاختلاف بين المدرسة التونسية والمغربية أن الاولى كانت برعاية الدولة وهذا مهم، في حين كانت الثانية عصامية. وان المدرستين عمقتا معاً سؤال الحداثة. وأكد على أن الجميع ركب قطار الحداثة منذ مرحلة الاستعمار. ودعا الى الكف عن تمجيد الذات الجمعية العرية الاسلامية التي عفا عليها الزمن ولم تعد قادرة على التأثير.

وتطرق الى فترة عمله السياسي ساخراً من تحول المنتمين للاحزاب الى ادوات ايدلوجية، حيث يفرح الحزبي بفوز حزبه الانتخابي من اجل الحزب فقط وليس من اجل الشعب أو البلد.

وختم بحديثه عن لقائه بالمفكر الايراني داريوش شايغان الذي، قال عنه، إنه وجده يعرف عشر لغات، وهو استاذ في الثقافة الهندية والثقافات الشرقية، وعلى معرفة كبيرة بالثقافة الغربية.