من مقاوم إلى إرهابي ومن صاحب أرض وقضية إلى مستعمر وهمجي... هكذا تدأب الروايات الأميركية المعاصرة على تصوير الفلسطيني فتؤسس بذلك صورة مزيفة في أذهان المتلقي الغربي سرعان ما ترسخ تاريخًا كاذبًا يصعب دحضه.

إيلاف: تستهدف دراسة "شايلوك في مروج الخليل.. تزييف التاريخ الفلسطيني في الرواية الأميركية المعاصرة" للناقد صديق محمد جوهر، تستهدف بالتحليل أهم الروايات الأميركية المعاصرة التي تمثل الرؤية السائدة للصراع العربي الإسرائيلي بين المثقفين في أميركا، هذه الرؤية التي تسعى إلى تسويق "الاحتلال الصهيوني"، من خلال تصويرها العملية الاستعمارية - الاستيطانية على أساس أنها "حركة تقدمية تاريخية محتومة". 

ووفقًا للمؤلف فإن الاستراتيجيات السردية الرئيسة المهيمنة على هذه الروايات تسعى إما إلى إقصاء الفلسطيني من فضاء النص الروائي أو إدماجه ضمن حالة من الدونية الثقافية والسلوكيات الهمجية باصطناع دور له وإسباغه عليه بما يتماشى مع صورته الذهنية المستقرة في جدول التصنيف الاستعماري للأجناس.

احتلال عقول
حلل صديق في كتابه الصادر من دار صفصافة ثلاث روايات أميركية معاصرة مهمة، الأولى رواية "الحاج" للكاتب الأميركي "الصهيوني" ليون يوريس، والثانية رواية "الحياة على الضد" للكاتب الأميركي اليهودي فيليب روث، والثالثة رواية "العملية شايلوك: الاعتراف" لفيليب روث أيضًا.. وجاء الكتاب في أربعة فصول، تسبقها مقدمة الصراع العربي الإسرائيلي في الرواية الأميركية المعاصرة، وتتلوها خاتمة "الميثولوجيا الاستعمارية وصراع الحضارات".

أميركا تسخر رواياتها أداة في الصراع لمصلحة إسرائيل

افتتح صديق الكتاب كاشفًا أنه في أعقاب العدوان الإسرائيلي "عملية الجرف الصامد" على غزة في الثامن من يوليو 2014 تم إجراء استبيان يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وُزّع إلكترونيًا على طلبة بعض الجامعات الأميركية والكندية، وأظهرت النتائج مدى تغلغل النفوذ الصهيوني في تشكيل العقل الجمعي للأجيال الصاعدة في أميركا الشمالية. 

فقد تبيّن أن أكثر من 70% ممن شاركوا في الاستبيان من جامعات الولايات المتحدة، وأكثر من 80% ممن شاركوا في الاستبيان من جامعات كندا، يعتقدون أن فلسطين هي أرض يهودية محتلة من العرب الفلسطينيين، وأن إسرائيل دولة مضيافة، لأنها سمحت للفلسطينيين بالبقاء على أرضها!، ولذلك فلديها الحق في سحق أي اعتداء بالصواريخ على مواطنيها ومدنها. 

عنصرية أيديولوجية
تناول الفصل الأول المعنون "الخطاب الاستعماري وتزييف التاريخ.. دراسة رواية "الحاج" للكاتب الأميركي "الصهيوني" ليون يوريس بوصفها روايةً استعمارية تُجسِّد سردياتٍ عنصرية تتوخى تشويه الثقافة العربية والحطِّ من شأن الدين الإسلامي في سبيل تحقيق أغراض سياسية مشبوهة. 

تعمد الرواية التي تتعامل مع القضية الفلسطينية إلى استعراض سرديات عنصرية، وأيديولوجية حال تصويرها الفلسطينيين على أساس أنهم همجيون، في الوقت الذي يظهر فيه المستعمِرون الصهاينة حَمَلةً لرايات الديمقراطية، والحضارة الغربية، مستبدلةً بخطابِ الحقيقةِ والواقعِ على الأرض الخطاب المتخيَّل أو المتوهَّم سعيًا وراء تسويغ الخطاب الأخير، وإنشاء تاريخ مسوَّغ. 

وكشف أن رواية "الحاج" تهدف إلى تسويغ الاستعمار من خلال تصويرها العملية الاستعمارية على أساس أنها حركةً تقدمية تاريخية محتومة، تمضي في اتجاه جلب الحضارة إلى بلاد الهمج والبرابرة: فلسطين ما قبل الاحتلال الصهيوني. 

تحريض ضد الفلسطيني
استطلع صديق في الفصل الثاني "أميركيٌ فوق جبل صهيون: دراسة في رواية الحياة على الضد" للكاتب الأميركي اليهودي فيليب روث، حيث تتناول هذه الرواية النزاع العربي الإسرائيلي من منظور استعماري، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بروايته الثانية "العملية شايلوك: الاعتراف" التي تتناول القضية الفلسطينية في مرحلة ما بعد انتفاضة الحجارة التي غيّرت رؤية العالم للصراع بين الحق والباطل في فلسطين المحتلة. 

أما من حيث الأفكار والأماكن التي تدور فيها وقائع وشخصيات روايتي "الحياة على الضد" و"العملية شايلوك: الاعتراف"، فإننا نصادف شخصيات عديدة تسعى إلى سفك دماء الفلسطينيين وتهجيرهم من ديارهم وأخرى مناهضة للمتطرفين اليهود الذين يؤمنون بضرورة طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية، ومن الشخصيات المتعاطفة مع الفلسطينيين إلى حد ما (ناثان زكرمان) وهو أميركي يهودي تحرري النزعة، يرفض السياسات الاستعمارية الإسرائيلية في فلسطين. 

وبسبب أن "ناثان" يجحد المقولات الاستعمارية التي تحكم العلاقة بين المستعمِرين والمستعمَرين، ويرفض الانصياع للأيديولوجية الاستعمارية التي تجرد الآخرين من إنسانيتهم، فإنه يصبح في نظر المستعمِرين الصهاينة المتشددين ليس سـوى "واحد من الخونة". 

ملامح منعدمة
في الفصل الثاني أظهر صديق أن رواية فيليب روث الصادرة في عام 1988 تشف عن إخفاق المؤلف الشهير في محاولته بسط رؤية متوازنة للنزاع العربي الإسرائيلي، بحسب إدعاءاته، إذ يقوّض هذه الرؤية من الأساس، وذلك يعود إلى اعتماده إستراتيجية روائية تحابي المستعمِر المنتصر على حساب حرمان المستعمَر الضحية من كل الحقوق، بما في ذلك منعه من الظهور في نص الرواية إلا كشخصية عديمة الملامح، أو كإنسان شرقيٍّ منحط الشأن. 

في سياق مماثل تكشف لنا "القراءة التأويلية" للنص وفق تسمية إدوارد سعيد أن المؤلف الأميركي الذي سعى إلى تقديم عرض حيادي لقضية الشرق الأوسط - حسب مزاعمه - قد أخفق في ذلك الأمر، بسبب الإستراتيجية السردية الأساسية المهيمنة على رواية "الحياة على الضد"، لأن السرد المتجذر في المقولات الإستشراقية والموروث الاستعماري الغربي، يعمد إمَّا إلى إقصاء الفلسطيني من فضاء النص الروائي، أو إدماجه ضمن حالة من الدونية الثقافية، والسلوكيات الهمجية باصطناع دور له، وإسباغه عليه بما يتماشى مع صورته الذهنية المستقرة في جدول التصنيف الاستعماري للأجناس المنحطة. 

وفي تحليله النقدي في الفصل الثالث "الفلسطيني المُهمَّش" رواية "العملية شايلوك: الاعتراف" الصادرة في عام 1993 في إطار النظرية النقدية المعاصرة في مرحلة ما بعد الكولونيالية، ألقي صديق الضوء على مدى تعقد الاتجاهات، والمماحكات الاستعمارية، والاستشراقية بهذا النص الروائي. 

موروثات غربية
وذهب إلى أن رواية روث، تسير في نسق الروايات الأميركية الأخرى التي تتناول نزاع الشرق الأوسط، فتحاول استبعاد صوت الفلسطيني، أو وصمه بالانحطاط الثقافي والتخلف الحضاري. وأكد أن نص "روث" الروائي تتمازج فيه توليفة من الموروثات الثقافية الغربية التي تتناول المستعمِر والمستعمَر بغية إعادة إنشاء رواية متحيزة، توجِّه رؤيته للنزاع العربي الإسرائيلي.

أضاف أن ما يبرهن على إخفاق روث في بسط رؤية متوازنة للقضية الفلسطينية، هو استخدام بنْيات سردية خطيرة ذات مغزى، وتتعلق بالطرفين: المستعمِر الصهيوني والمستعمَر الفلسطيني، بنياتٍ وسرود قصصية ترتبط بآليات ثقافية من شأنها تأجيج الصراع، لا التوصل إلى حوار يجمع بين الطرفين المتصارعين؛ فهو لا يستخدم الأصوات الروائية المتعددة التي تعبّر عن اتجاهات مجتمع متعدد الأعراق، بل نجد أنفسنا إزاء أحداث روائية مختَلقة وممنهجة تاريخيًا وفق آلية روائية بعينها، وإزاء خطاب سلطوي سيادي يحصر المستعمَرين الفلسطينيين في معزلٍ تاريخي ينضح همجية وتعصبًا، فيستبدل بخطاب الحقيقة والواقع الخطابَ التخيلي التوهمي الملفق؛ حتى يجعل الأخير خطابًا مرغوبًا فيه، ويعرض التاريخ بصورة مهضومة لا غبار عليها.

صورة همجية
وفي إطار النظريات النقدية المعاصرة تناول صديق في الفصل الرابع - تاريخ الصراع في فلسطين بين الوهم والحقيقة ـ تحليل رواية "الحاج" للكاتب ليون يوريس نموذجًا للرواية السياسية الصهيونية التي تؤسس الصراع على فكرة أن الشعب الفلسطيني جنس همجي، يهدد وجود دولة إسرائيل. 

هدف الفصل إلى تقويض ودحض الأطروحات النقدية الأميركية التي تُثمن هذه الرواية من حيث كونها عرضًا تاريخيًّا واقعيًا للصراع في الشرق الأوسط. وقد نشرت الرواية في عام 1984 في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي لبيروت في عام 1982 الذي مهد الطريق لمذابح اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا. 

يتزامن نشر الرواية مع تعالي بعض الأصوات الأميركية الليبرالية المؤكدة على عدم شرعية السياسات الإسرائيلية الاستعمارية في العالم العربي؛ لذلك فإن الرواية تحتشد بخطابٍ مضادٍ لما شاع في أميركا آنذاك، وتأتي في سياق رد اللوبي الصهيوني على أصوات بعض المفكرين المعتدلين من أمثال ناعوم تشومسكي ومن سار على شاكلته. 

خلص هذا الفصل إلى أن رواية "الحاج" ـ التي تجعل شعب فلسطين جماعات من البدو الهمج جاءوا من مجتمعات صحراوية مجاورة ـ لا تقدم صورةً تاريخية أمينة للنزاع في الشرق الأوسط، بل إنها نسخةٌ طبق الأصلِ من التمثلات العنصرية المنسجمة تمامًا مع الأساطير الأميركية الثقافية الذائعة بأن الولايات المتحدة، وقبل مجيء الشعب الأميركي، كانت أرضًا تقطنها شعوب همجية منحطة. 

قلب الحقائق
ويعرض هذا الفصل رؤية الكاتب للنزاع العربي الإسرائيلي بوصفه خطابًا لا ينفصم عن الخطابات العنصرية الاستعلائية التي أشاعتها الصناعة الثقافية الأميركية منذ بداية الثمانينيات حين وصل الجدل حول الإسلام الأصولي والإسلام السياسي ذروته.

وقال صديق أن الروائي الأميركي ليون يوريس لا يكتفي في رواية "الحاج" بالوقوف إلى جانب أسطورة الشعب الذي بلا أرض، والذي يعود من الشتات إلى أرض بلا شعب، بل يزعم أن أرض فلسطين بعودة الصهاينة قد أضحت أمة أصلية، ويتعيّن على المستعمِرين الصهاينة المتحضرين من أبناء الأمة التاريخية الأصيلة أن يعودوا إلى وطنهم الأم، وفي المقابل يتعيّن على الفلسطينيين المسلمين العرب "الهمج" أن يتنحوا جانبًا عن فلسطين ليفسحوا الطريق أمام هذه العملية التاريخية العادلة. 

هكذا يقرر "يوريس" في روايته ضرورةَ إقصاءِ الفلسطينيين عن الأرض المقدسة، لا لأنهم "إرهابيون" وأقوام منحطون عرقيًّا فحسب، ولكن لأنهم لا ينطبق عليهم تعريف من هو إسرائيلي، وينتمي إلى الشعب الإسرائيلي وفقًا للرواية التوراتية - الصهيونية التي طرحها "يوريس".

الإسلاموفوبيا مصدرًا
وأكد أن رواية "يوريس" المتجذرة في البنية الدينية لأسطورة الأمة الإسرائيلية، لا ترى في الفلسطينيين غير سكانٍ لا شرعيين يتعيّن إبعادهم أو تهميشهم في مخيمات للاجئين. وبلجوء "يوريس" إلى القصص التوراتي والاستعماري بغية تحقيق غايات سياسية معاصرة يبرهن على قدرة الرواية التاريخية على تزييف حقائق التاريخ وتشويه وقائعه، وتجلو أمامنا الكيفية التي يتم من خلالها عرض النزاع العربي الإسرائيلي في الأدب الأميركي المعاصر.

وأشار صديق إلى أن التناول المتحيز للنزاع العربي الإسرائيلي سواء في رواية "الحاج" أو الروايات الأخرى هو أمر ناتج بصورة لا تخفى من الروايات المعادية للعرب والإسلام المستوحاة من الثقافة الغربية والميثولوجيا الأميركية، وتلك التي رأيناها في نظريات "هنتنغتون" و"فوكوياما". 

وقال "تبنت روايات "الحاج" و"الحياة على الضد" و"العملية شايلوك: الاعتراف" خطابات عنصرية استعمارية استُخدمت من قبل بحق الزنوج والهنود الحمر في العالم الجديد "أميركا بعد اكتشافها"، وذلك حين عمدت إلى تصوير الشعب الفلسطيني أدنى عرقيًّا من اليهود الصهاينة، وأن الفلسطينيين تحكمهم القبلية المتخلفة، ويدينون بدين يحض على ثقافة الكراهية. إن تلك المحاولة المحكوم عليها بالفشل من طرف المؤلف الأميركي الصهيوني لرواية "الحاج" في الحط من شأن الفلسطينيين المستعمَرين، وفي تشويه تراثهم الديني تثبت وجود الملامح الاستعمارية للرواية، وتستدعي الشك في مصداقية رؤيته لتاريخ النزاع الشرق أوسطي. 

إن استجلاب التقاليد الاستعمارية الأميركية لتدخل في نسيج الصراع العربي الإسرائيلي هو إعادة لرواية استكشاف أميركا بما تنطوي عليه تلك الرواية من حتمية تهميش الفلسطينيين في معسكرات اللاجئين البائسة لإفساح الطريق أمام الرواد الصهاينة الحاملين ألوية الحضارة الغربية إلى الأراضي المقدسة. 

خريطة للتهميش
وخلص صديق أن استخدام الصوت الروائي الاستعماري الصهيوني في الروايات موضوع هذه الدراسة يأتي بغية عرض النزاع في الشرق الأوسط أمام الجمهور الغربي، وتبني إستراتيجية روائية تهدف إلى استبعاد الصوت الفلسطيني العربي، وتهميشه بالقدر الذي يستحيل بعده أن يسمعه أحد. 

يؤدي بنا هذا كله إلى عدِّ رواية "الحاج" لـ "ليون يوريس"، وروايتي" فيليب روث" ذوات نظرة أحادية ونغمة مهيمنة في التعامل مع القضية الفلسطينية، وهي نظرة ونغمة يتبناها الغرب كليًّا ويحابيها؛ فالموقف الفلسطيني إزاء النزاع العربي الإسرائيلي بحسب الروايات سالفة الذكر، يصلنا إما عبر الأصوات الواهنة لشخصيات هامشية، أو عبر رواة مناصرين للصهيونية ومعادين للعرب. 

مثلهم في ذلك مثل المستشرقين الذين يخاطبون الغرب نيابة عن مجتمعات الشرق المتخلفة. يجيء الرواة الرئيسون في الروايات التي أشارت إليها الدراسة، فيقدمون الفلسطينيين المهمشين إلى القراء الغربيين على نحو يتناسب والمعايير الغربية، فأولئك الفلسطينيون هم أقوام من الهمج الشرقيين والإرهابيين المسلمين المتوحشين. 

ومما يثير الأسى أن عملية حجب الفلسطينيين من النفاذ إلى النص الروائي، جاءت لتؤكد أنهم أشخاص عديمو الملامح والأصوات، أو إنهم مسلمون همج ومنحطون، فيتم بذلك تكريس الصورة الذهنية العنصرية الراسخة في الوجدان الغربي للعرب والمسلمين، ويعزز ما ذهب إليه إدوارد سعيد في أن ثمة "صراعًا طويل الأمد بعيد الجذور بين الغرب والشرق، كان سببه الرئيس هو الإسلام".