&
في نفس اليوم الذي التقيت فيه بخالد النجار، وكان ذلك في خريف عام 1971، بالمطعم الجامعي حسين بوزيان" بالعاصمة، شعرت أنني عثرت أخيرا على الفتى الذي كنت أسعى جاهدا للتعرف عليه وسط تلك الجموع الكثيفة من الطلبة القادمين من مختلف مناطق البلاد. أذكر أن الوقت كان مساء. والحبيب السالمي، صديق الطفولة، ورفيق دروب العلا الرملية، قال لي وهو يحدثني عن خالد النجار قبل أن ألتقي به، بأنني سوف أتعرف على شاب يعجبني لأنه يتقاسم معي الكثير من الأفكار بشأن الأدب والكتابة عموما. وقد وجدت أمامي فتى قصير القامة، بدا لي من النظرة الأولى فطنا، ومسكونا بسرّ ما يضفي على شخصيته نوعا من المهابة والغرابة، ويجعله شبيها مرة براع بربري يتوهج في وجهه الأسمر ألق النجوم، ونار الليل، ومرة بزاهد خرج للتو من عزلته الطويلة في المغاور الجبلية على تخوم الصحراء. خولم تزعجني ثرثرته، بل أنني استعذبتها لأنها كانت متبّلة بالطرائف الذكية، وبمعلومات عكست معرفة واسعة وذوقا رفيعا. وخلال لقائنا الأول، تحدثنا طويلا عن رامبو، وعن بودلير، وعن لوترايامون. وفي ذلك الوقت، كنت منشغلا بكتابة نص كانت بدايته:”يأكلني الذبان من أذني...ّ. لكنني لم أننه، وظللت أردد بداياته إلى أن جرفتها الأيام مع كلمات وجمل أخرى لنصوص لم تشهد اكتمالها أبدا. أما هو فقد أنشد قصيدة أدهشتني غرابتها:
لا بدّ أن في المدينة
شارعا قفرا، وشباكا مضاء
وأنك فيه تنطرين كلّ مساء
بريدا لن يأتي
وتبكين
لا بدّ أن في المدينة...
بعد ذلك اللقاء، توطدن علاقتي بخالد النجار ،وأصبحت ألتقي به يوميا تقريبا.وأحيانا كان يحلو السهر معه فنتيه في المدينة حتى مطلع الفجر. وكنا نرتاد مقاهي "باب سويقة"، ونشرب البيرة في حانات "باب البحر" مع "فيلسوف التعاسة"، بلقاسم التليلي الذي كان يحدثنا عن عظماء رجال الشرق، ويحرضنا على الثورة والتمرد ضد كل شكل من أشكال السلطة، عائلية كانت،أم سياسية،أم غيرها. كما تعلمنا منه كيف نواجه خصومنا بالسخرية القاسية التي تجبرهم على الفرار منا مهزومين، تلاحقهم لعناتنا، وقهقهاتنا. وكنا نلتقي أيضا بعبد الرؤوف الخنيسي الذي سجن مع مدبري انقلاب 63 ضد بورقيبة. وكان وقتها قد عاد من المغرب الأقصى حيث أمضى بضع سنوات هناك، يكتب في الصحافة، ويرتاد الحانات الخلفية في الرباط، والدار البيضاء، ومراكش، وطنجة المطلة على الأندلس البهيجة. ولم يكن الناقد أبو زيان السعدي المفتون بالعقاد وطه حسين وبأحمد امين يهتم بنا، بل كان يبدي امتعاضه من سلوكنا ومن أفكارنا، ويتعامل معنا كما يتعامل الشيخ المتزمت مع صبية خارجين عن طاعته . وكان يحلو لنا أن نمضي ساعات طويلة في المكتبات في المدينة العتيقة بحثا عن كتب التراث التي كان ينصحنا بقراءتها العارفون بها،والمقدّرون لقيمتها المعرفية. وكان يحلو لنا أن نقرأ في المقاهي، وفي السهرات ، أشعار لوركا، وطاغور، وأدونيس، وبدر شاكر السياب، وغيرهم. ولم يكن خالد النجار يبخل عليّ بالنصيحة. وبهدي منه قرأت كتبا سوف يكون لها تأثير كبير عليّ في ما بعد. كما أنه قدمني لكثير من المثقفين سيصبحون في ظرف زمني وجيز اصدقاء اعزاء، معهم يحلو السهر، وشرب الكأس ، والحديث عن الحب والنساء، وافتضاض بكارة النصوص المحرمة.
ومنذ البداية، كان خالد النجار الشاعر"الرجيم"، الرافض رفضا قاطعا لكلّ ما كان ينشره أبناء جيلنا من شعر، ومن نصوص مثل جماعة"في غير العمودي والحر" الذين كانوا يدعون إلى التجديد بمفاهيم وبطرق شعبوية سخيفة ومبتذلة في أشكالها ومضامينها. لذا كان يعتبرهم غرباء عن الشعر.ولم يكن يتردد في السخرية من قصائدهم ، مشبها إيّاها بالبيانات الركيكة التي يصدرها النقابيون في يوم عيد العمال. وبذلك تمكن خالد النجار من الإفلات منذ البداية من الأمراض الإيديولوجية التي أصابت أبناء جيلنا، وحولتهم إلى مشعوذين غارقين في الأوهام والأحلام الثورية . وبينما كان الشعراء في تونس، وفي بلدان عربية أخرى، يسعون إلى أن يكونوا "ملتزمين" بقضايا سياسية واجتماعية، وأن تزخر فصائدهم بالأغراض الثورية والإيديولوجية، كان هو يرى أن القصيدة الشعرية قد لا تخلو من الغرابة والدهشة:
من يذكر القصيدة
وأواني الألمينيوم
لموريتانيا لون الغموض
أو:
أمضي للأرخبيلات المنخفضة
من الإثنين حتى السبت
شمال بلا نجمة
وجنوب بلا حندقوق
وقد يكون السبب الأساسي في تلك الفرادة التي تجلّت عند خالد النجار منذ البداية هو أن هذا الشاعر كان ولا يزال رجل"الغيتو" بامتياز. و"الغيتو" هنا لا يعني بأيّ حال من الأحوال التحجر والتزمت والإنغلاق ، وإنما التوحد بالنفس بمفهوم جان جاك روسو، ورفض الإنخراط في سيرك القطيع حيث يعلو الصخب والضجيج، والإبتعاد عن واقع ثقافي مريض عليه تطغى الرداءة ، والسطحية، ويكثر النفاق والكذب. ومن المؤكد أن هناك مبررات لهذا "الغيتو" في سلوك خالد النججار وثقافته. فهو ينتمي إلى عائلة بربرية فقيرة من "الدويرات" بأقصى الجنوب التونسي. وقد وفدت هذه العائلة إلى العاصمة في بدايات القرن العشرين لتستقر في حيّ "الملاسين" ، حيذ الفقراء والمنبوذين والنازحين من الأرياف هربا من القحط والمجاعات. وولعل الطفل البربري الذي هو خالد النجار،أحس وهو ينمو ب"الغربة" بين أبناء العاصمة الأنيقين، العاشقين للثقافة الفرنسية، والمفتونين بلغة موليير. وبينما كان هؤلاء يترددون على مقاهي "باب البحر"، و يتهافتون على كل ما يأتي من باريس من كتب ومن إسطوانات ومن ملابس، كان هو يحب التجول في الأحياء العتيقة حيث تتراكم أحداث التاريخ البعيد والقريب، ويقرأ الكتب الملقاة على الأرصفة، ويخالط المهمشين ،وينردد على بيت العلامة المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب،أو سيدي حسن،كما يحب هو أن يسميه، ليتعرف على تاريخ تونس في جميع العصور. وكان دائم الحرص على الإستماع إليه، والتعلم منه . وقد يكون هو الذي أوحى له بكتابة تاريخ مدينة طبرقة ،إلاّ أن هذا الكتاب لم ينشر إلى حد هذه الساعة مثلما هو حال نصوص وتحقيقات أخرى كثيرة .
وعند بلوغه سنّ العشرين، سافر ختالد النجار إلى المشرق العربي مارا بطرابلس. وفي القاهرة، وبيروت، ودمشق، تعرف على كبار الشعراء والكتاب.وفي ملحق جريدة"النهار"، نشر البعض من قصائده. ومن تلك الرحلة ،عاد إلى تونس وهو أشدذ اعتدادا بنفسع أكثر من ذي قبل. لذا لم ينبهر بالمجموعات اليسارية التي برزت في نهاية الستينات، وبداية السبعينات من القرن الماضي، بل سخر من أإطروحاتها خصوصا تلك المتعلة بالأدب . وكان يقول:”الأدب وقعي بطبيعاته، فلم يحتاج إلى الواقعية الإشتراكية؟؟؟". وبينما كان الشعراء من ذوي الميول اليسارية يتغنون ب"البروليتاريا الرثة، وبثورات فاسطين، وكوبا، وفيتنام، كان خالد النجار يكتب في وحدته قصائد مكثفة، مفعمة بالحنين إلى عالم كان يذبل ويموت أمامه من دون أن ينتبه إليه أحد:
بيضاء بيضاء
بيضاء...عندما كنت صغيرا ضاعت الدمية في البحر
فتماديت أضيع كلّ شيء بعد ذلك
فأنا كنت أضعت لعبي
ودروسي
وحذائي
وأضعت بعد ذلك
كلّ من أحببتهن في حياتي
بيضاء
بيضاء لو تعرفين الموت في حبة ملح
كانت الأطياف بيضاء من البدء
وكان الكفن أبيض
وليس خالد النجار رجل"الغيتو" فقط، وإنما هو أيضا رجل المفارقات. مفارقات قد تبلغ الذروة أحيانا. فهذا الكائن الذي يبدو مضطربا، متوترا، غضوبا طوال الوقت، هو أيضا شاعر غنائي عذب، ينتقي كلماته وصوره واستعاراته بعناية ، وبحساسية مرهفة، متحاشيا التقعر، والبلاغة الكاذبة، وكلّ ما يمكن أن يثقل الشعر، ويفسده. وعندما نعلم أنه يرقد بعين مغمضة وعين مفتوحة مثل أرنب بري، ويخاصم الجميع بخشونة، وفظاظة، ويتخانق مع سائقي التاكسي، ونادلي المطاعم، وبغايا الشوارع الخلفية، ويطلق كلموات بذيئة مثل فتوات الأحياء الشعبية ، فإنه يجدربنا أن نعلم أيضا أن خالد النجار رقيق الأحاسيس، وفي ّ لصداقاته، وإنساني في معاملاته. وكل هذه الخصال النبيلة تشهد بها قصائده المفعمة بالحب، وبموسيقى هادئة تشبه نشيج الموج البعيد، وحفيف الأوراق في الغابة الداكنة، ولها عذوبة الأغاني التي تهدهد بها الأمّهات أطفالهن قبل النوم:
&
عندما كنت صغيرا
كنت أمضي حتى أبواب الجنوب
مُصْغيا إلى جريان الينابيع في الليل.
عندما كنت صغيرا وبريئا
مثل أصداف المنام
كانت فراشات السطوح نجماتي
وظلال العربات ملكاتي...
&
والقراءة المتأنية لقصائده خصوصا تلك التي كتبها في السبعينات، سابحا ضد كل التيارات، تكشف لنا أن خالد النجار يغرف من الموشحات الأندلسية، ومن العالم الشعري لغارسيا لوركا،ولسان- جان بيرس، ولطاغور. كما يمكن أن تكون قصائده صدى لأغان تونسية قديمة . لذلك كان زلا يزال الشاعر الأكثر حداثة في جيله، والأشد تجذّرا في التربة التونسية ببحرها، وصحرائها، وغاباتها، وأزهارها البرية ،وسمرة نسائها المُغْتلمات. ونحن لا نجد في قصائد خالد اتلنجار أيذ صدى لأحداث سياسية عاشتها تونس أو العالم العربي. فالقصيدة عنده تكتفي بذاتها ،ولا تحتاج إلى تلك العكاكيز التي يلجأ إليها الكثيرون من الشعراء من جيله،ومن غير جيله. ونحن لا نعثر فيها إلاّ على صدى للحظات الشاعر في وحدنه، متأملا ذاته، والعالم المحيط به وهو لا مبال بالصخب والعنف :
سرقوا مني طفولتي
وجنوني
سرقوا رياحي من صناديق ثيابي الخشبية
ومن بوّابات الجنوب
سرقوا نقيق ضفادعي ومرايا أمي.
&
لكن لماذا إقتصر هذا الشاعر الموهوب ،أي خالد النجار، على إصدار مجموعة شعرية واحدة خلال مسيرته الإبداعية الطويلة؟ وإذا ما نحن طرحنا السؤال على خالد النجار فإنه سيتخفى وراء أجوبة قد لا تقنعنا، كأن يشير مثلا إلى متاعب مادية،أو إلى عدم الإستقرار، أو إلى فقدانه للمرأة التي هوجدير بها شاعرا وإنسانا، أو إلى عوامل أخرى أشد تعقيدا . والحقيقة أن خالد النجار قد لا يكون انقطع عن كتابة الشعر. إلاّ أنه قد يرى في نشر أشعاره في عالم عربي أفسده الشعراء بنعيقهم وزعيقهم ويلاغتهم الثقيلة المنتفخة بالأكاذيب ضربا من العبث، وعملا لا جدوى منه ولا فائدة. لذا هو يفضل أن يواصل الكتابة في صمت في إنتظار أن يعود للشعر صفاءه، وعذوبته، ومعناه الحقيقي والعميق. وعلى أية حال، بإمكاننا أن نعاين أن شاعرية خالد النجار لا تزال متوهجة، ومتألقة. وهذا ما تكعسه تحقيقاته ونصوصه النثرية التي ينشرها هنا وهناك بين وقت وآخر، مُثبتا من خلالها إدراكه للحداثة في مفهومها الأصيل، والعميق.