صدرت، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مختارات شعرية وشقائق نثرية من أعمال عبد القادر الجنابي، تحت عنوان "التنحي المطلق"، قام بإعدادها وكتب تقديما لها الشاعر المصري منتصر عبد الموجود، هنا نصها:&

التنحي المطلق
بقلم منتصر عبد الموجود
&
&"ما زلت أؤمن بأن في كل عمل فني عظيم شيئا يستعصى في نهاية الأمر على التفسير" (عبد الغفار مكاوي – ثورة الشعر الحديث)
&
عالم مربك في رحابته، وذاتيته، وقدرته على اللعب، مع رصيد لا ينفد من الشغف الذي لا يعترف بحدود ولا يرضخ لمعوقات. عالم الطفل الذي أعلنت الملاية ( لقب لامرأة تعمل بتحفيظ الصغار القرآن الكريم ) بثقة لأبويه، أنه لا ينفع لأي شيء. الطفل الذي أقر بفضل حمى التيفود في تخليص الكلمات لديه من طاقة سلبية، تقمع وثبة الفكر عند الكتابة وعند الحديث!
الإرباك ليس فقط لتعدد الوجوه: شاعر، مترجم، ناقد، مناضل أممي، مؤسس لمشاريع ثقافية، قائد لأعمال جماعية ومشتركة... بل وبسبب من آلة الفكرة الهادرة، إذ تمضي غير أبهة ببناء مجد شخصي، أو تبوأ ريادة؛ لأن المجد الشخصي صنو الذات منذ بدأت تعي وجودها وتعي العالم من حولها، والريادة وفق مفهوم للزمن – عصي على أية امتثالية – مجرد تبادل مراكز في لعبة الملاهي المدولبةّ!&
يتصدر المترجم المشهد، ويتراجع الشاعر وفق نسق مدروس – بالرغم من حركة الفكر الهادرة – لمستويات من اللعب، مستوى المتواطئ الذي يشغلنا بإنجازه في الترجمة؛ حتى لا يعتمد الشعر على أي شيء خارجه في تقديم نفسه. مستوى المستغرب ذي البصيرة النافذة إلى المراحل الفارقة في الشعر الغربي الحديث، البصيرة القادرة – في الآن ذاته – على إبداع رؤاها النقدية وملاحظاتها الملهمة دون الاستسلام للمقولات الجاهزة والأطروحات الرائجة داخل الثقافات المترجم عنها، ولا ننس اللعب عند المستوى التراثي، إذ يفاجئك عبد القادر بن ناجي بن علوان الجنابي الرأس قروي البغدادي، عبر كتاباته الزاخرة بالدموع والضحك والامتعاض والثورة ولذة الاكتشاف... بثقافة تراثية عصية على الرضوخ لطبقات فحول الشعراء، فما كانت لتجتر أشياء من قبيل: امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، والنابغة إذا رهب... بل ثقافة قاطعة في الإقصاء، مروعة في الانتقاد، فتنادم الجاحظ في حديثه عن المرآة، وبمهارة متخصص في علوم الجريمة تدين ابن جزي، وكما يتقدم الجنابي في مساءلة التراث من السابقين إلى اللاحقين، تختلف طبيعة اللعب، فثمة لعب كحجر سحري يضرب عصفورين: عصفور التأصيل لمجلة النقطة ( أحد مشاريع الجنابي الفكرية ) وعصفور السخرية من& حذلقة المتحذلقين وخواء المجوفين الذي لا يتسع لرنين ضحكة اللاعب منتحلا عبارة لم يقلها رفاعة الطهطاوي: بين العرب والغرب نقطة، ويالها من نقطة! ويتسلل بعدها بانتحال جبران مقوضا بيت عنكبوت الأكاديميات العربية!
لديه من الشغف ما يحفظ ديمومة البحث والتنقيب لاستجلاء واقعأ وإزالة إبهام، ويحفظ له ديمومة الحماس لنص جميل، والأبعد من ذلك يحفظ حقه في بناء رؤى نقدية تجمع بين البساطة والعمق والدقة. ندرة من نقادنا العرب من تقرأ منجزهم فلا تربكك المغالاة في استخدام المصطلحات ( ستعرف لاحقا أن الأغلبية المذمومة تبالغ في استخدام المصطلحات في غير موضعها! ) ندرة من نقادنا لا تعاني كتاباتهم من الجمود المدرسي، والغموض الذي لا يبعدك عن النص فقط بل ويغربك عن ذاتك، ندرة من النقاد يأتي الجنابي في الصدارة منهم. هو لا يجاهر بشغفه، بيد أن القارئ يعاينه عبر كلماته وهو يحكي عن نهجه في الترجمة، فإذا أراد أن يترجم نصا من لغة لا يعرفها، جمع كل الترجمات المنجزة لهذا النص في الإنجليزية والفرنسية متعاونا مع أحد ابناء اللغة الأصلية من المتخصصين أو بمترجم عنها يثق في قدرته، وبعد العكوف على الترجمات الإنجليزية والفرنسية يرهق صاحبه جدلا واستفسارا ومراجعة& وافتراضا حتى الوصول إلى صيغة يرتضيها وهو صعب الإرضاء، يحكي في مقدمة كتابه العمدة والمرجع الأساس في مجاله ( النضال ضد عبادة الماضي ) عن عمليات التدقيق في النصوص المترجمة عن الروسية، يعلم الله كم من الوقت أنفقه باحثا في قسم اللغات السلافية بمكتبة السوربون، وقد استعان بإحدى العاملات في القسم؛ ليحل تضاربا وقعت فيه ترجمتان إنجليزيتان لنص عن الروسية، استعملت إحداهما لفظة اجتثاث والترجمة الأخرى لفظة تعميق، ليكتشف بعد بحث ومناقشات أن الصواب لا هذه ولا تلك بل في استعمال لفظة دحض! هل يتخيل القارئ أن صاحب هذا الجهد باحث حر في عقده السابع وليس فتى في مقتبل حياته الأكاديمية!
قال عنه أنسي الحاج، من فرط صدقه تأتي كتابته كأنها فضيحة. بيد أن الفضيحة – على بريقها – تتوارى أمام سياقات نصه الدافعة بالقارئ إلى الحدود القصوى من الضحك تارة والبكاء تارة أخرى، وغالبا ما تتركه في منطقة غير مأهولة من الحس؛ فلا يدرك هل يبكي أم يضحك أم ينخرط في كليهما؟! ألم يطلب في خاتمة مقدمة كتابه ( المختار من قصيدة النثر الألمانية ) ممن يموت من القراء أولا، أن يطمئن صديقه الراحل مترجم القصائد عن الألمانية صالح كاظم ويخبره أن الكتاب قد صدر وعليه اسمه، فمجهوده لو يسرق ولم يضع!
في سبعينات القرن المنصرم، شهد شعرنا العربي حالة من الحراك السلبي؛ فالأمور قد استقرت لصالح قصيدة التفعيلة، أفسح لها الشعر العمودي مكان الصدارة، دون أن يعدم من يعيدون إنتاجه واجترار جمالياته وفنياته اجترارا مجانيا بلا غاية، وفي الوقت الذي انخرط فيه شعراء التفعيلة في قضايا من نوع: من من السلف نتخذه أبا؟ وقضايا تفجير اللغة والحداثة وغيرها – باستثناء قلة من أصحاب الموهبة الحقيقية -& في هذا السياق المجدب يصدر الجنابي ديوانه الأول ( في هواء اللغة الطلق ) واضعا نصب موهبته غاية واحدة، تحرير الكلمات من غربتها، أن تغادر أرض منفاها في المشاع اليومي، إلى أصلها حيث التوهج والطاقات الشعرية اللامستنفدة، طموح كبير لإصدار أول، تسلح الجنابي في سبيله بالأصيل داخله؛ ففي القصيدة ليس للشاعر أحد سوى ذاته، وليس من قبيل المصادفة اصطفاؤه تجربة أنسي الحاج من شعرنا العربي الحديث.
ثم هناك ما خبره عن الحياة برحابتها وحكمتها الجامعة – في تناغم – شتى الملل والأعراق ( راجع ما كتبه عن نشأته في بغداد الأربعينات) ثم هناك فكرة المتمرد الذي لا يقبل مبدأ النموذج في الحياة والفن، وإن كان يحترم الإلمام بالقواعد كخطوة ضرورة لنقدها ثم تطويرها. ينصهر كل ما سبق في أيقونة ذات تعصمها الكبرياء من اليأس، وقد وُهبت مهارة الإيغال في إمكانات اللغة، فجاء عالم الديوان طقوسيا تبشيريا في مستوى أول منه، وفي مستوى آخر طبعه حس بالألوهة المخاتلة إذ يسرد المتكلم في القصيدة وصاياه بفعل الأمر الموحي بتراتبية الأعلى والأدنى، مستعينا بسمة شديدة الرواج في شعرنا الحديث، أعني بها الإحالة على غير محدد، نافيا بها كل ما نما عبر مطالعة القصيدة من غيرية بين الموحي والموحى إليه ( التنحي المطلق وتأهب ) وكأن الشاعر في النهاية لا يوحي إلا لنفسه ولا يأمر أحدا سواه!
من القصائد اللافتة في هذا الديوان، قصيدة ( ما الشعر إلا هفوات ) أراها مثالا قويا على النص متعدد الطبقات، فثمة طبقة المناجاة لذات معذبة بكوابيسها، الطالبة نوما غازيا يؤهلها في عزلة الليل لفض أزهار الحلم الرطبة. ثم طبقة السوريالية المحكومة ترى فيه الذات وعاء كأنه قناع أطفال! وتبصر عبر تجزئها – بين النوم بكوابيسه واليقظة بسرياليتها – حيرة تدفع بها إلى أعلى حيث أعضاء الجسد المغسولة فنار تتوسل الذات ضوءه لتنأى عن تشتتها. في طبقة أخرى يصدم الشاعر قارئه بلغة البيانات والاستقصاءات الفلسفية، بعد أن تقدم في النص مشددا على انعدام المقاييس ونأي الذات عن الرثاء واستجداء الشفقة معولا على فكرة المرآة كتجسيد لفناء الصيرورة، نتبعها في قطع المسافة من أنا إلى نحن، معلنا بصيغة الجمع:&
لسنا سوى أشباحٍ معلّقة
خلفَ أبوابِ المقهورين،
وصايا ثمينة
ومحسوسٌ تدثّره الأضواءُ بمآتم الأعياد.
ليتناسخ في ذكريات بعيدة.
عبر رحلة القصيدة يستكشف الشاعر شرطية تجلي العرف ثوريا، في موافقة الإلهام بأن المعجزة من شأن الإيجاز؛ ليرتقي بعدها مباشرة ذروة إبداعه الفني مجترحا في خمسة أسطر موجزة -& أمثولة الجنس البشري المكبل بأغلال الزمن الدائرية:
بتدرّجٍ ماهرٍ
يجدُ المرءُ نفسَه غائصاً بين حُفر الذّكريات المؤرّخة
مُفعماً بضحكةٍ يرافقُها اهتزاز...
هكذا يعاودُ من جديد
لعبةَ الولادة الأولى.
ثم تُختتم القصيدة بذات السوريالية المحكومة، التي تغيب عبر مسار القصيدة، ثم تعاود الظهور خالطة المادي بالمجرد:
النبوءة عنقاء أتلقّفها من بطن الإبرة
عاريةً تتفجر بين الفواصل والإشارات
والمعاني ما زالت طريحةَ الأوراق.
&
جدرانٌ بلا غُرَف تتساقط&
واحداً تلو الآخر
وها هو جسدي&
إضاءةٌ&
يفكُّ أزرارَها الظلام.
بعد قراءات متأنية للنص، نجد أنفسنا أمام رحلة ملحمية، هي ذاتها رحلة الشاعر عبر القصيدة& مسائلا الذات والوجود والزمن، وما إتمام الرحلة سوى إتمام القصيدة نفسها، تكافئ صاحبها في نهايتها بدرجة من الوعي، تقبل جدل الأضداد عبر فضاء له رحابة الشعر، كأن القصيدة هي إيثاكا التي تكافئ الشاعر على رحلته، لا بالوصول إليها بل بما حازه من وعي عبر كتابتها. وليس بغريب مطالعة أن الشاعر قد طبع هذا النص ووزعه باليد على المهتمين، في معادلة حداثية لما كان يفعله منشدو الملاحم في ماضي الزمان.
في قصيدة ( أمثال ) يقدم الشاعر وصاياه العشر، بلغة تجمع بين النفس التوراتي والبيانات المستقبلية والميكانيزم السوريالي، بيد أنها لا تقطع الصلة مع جذورها، فهي في النهاية خارجة من تجربة حياة لا تجربة مثاقفة، هي جماع ما خبره الشاعر وجربه، وامتثل له كمنهاج في كل ما يمارسه إبداعا كان أو خيارات حياتية، نص – على كثافته وإيجازه وبساطته البادية – يكشف سوءة كم من النصوص الشعرية المكتوبة والمحتفى بها لمجرد انها استعارت من لغة الكتاب المقدس، بغض النظر عن قيام اصحابها بذلك فقط كإكسسوار تزين به القصيدة، أو حتى لربطه بقضايا سياسية ووطنية محتفى بها وقد غض الطرف عن آنية المعالجة وشوفينيتها، ناهيك عن السطحية والشكلية في تناولها.
في حنينه إلى العراق، هو المغترب عن وطنه منذ السبعينات، يستحضر صورا من الذاكرة المتألمة جراء الذكريات التي لا تأبى أن تكون سوى ذكريات، وجراء الماضي الحي في أعماق من غيبهم الموت والميت في أعماق الأحياء المنجرفين في تيار الزمن، أغنية حب وحنين من عشرين مقطعا، للبيت العراقي والشارع والمقهى والرفاق والأفكار تبدأ بصورة سوريالية ابتدعها الصبي لحافلة تقطع شارع الرشيد، وتنتهي عند شاطئ النهر بجثة مترملة عارية، تلوح في انتظار أبدي لرجل التحقيق، لمن هذه الجثة؟ إلام ترمز؟ أسئلة ليست من شأن الشاعر، فأمرها متروك للقراء...
&
&
بعد تسوية حسابه مع الحنين العراقي، يعود الجنابي في مصرع الوضوح إلى مشروعه الطموح، العودة باللغة إلى لحظتها الأولى، استخدامها الأول، بلا مرجعية تتكأ عليها الذات، حتى وعيها الخاص مدموغ بخيانة الفصل بين الصور والمضامين، مصرع الوضوح ملحمة حرب تتباهى بكفنها الأبيض، ليست الحرب كما صورتها قصائد الآخرين، بل الحرب عبر لحظتها الأكثر فداحة، لحظة التوجس قبل الكارثة الوشيكة، الحرب من منظور ذات تسائل العابر وقد أثقله شيوع الفناء، تسائله بأدواتها: التجريد، والتشكيل وصولا باللغة إلى درجتها القصوى من الحيادية واللامرجعية؛ فتاتي مؤطرة ببياض، يحسه القارئ إشعاعا ينبثق من داخلها ويفيض ليؤطرها بقداسة تسمو بها؛ فتلوح تارة كطريدة دائمة الإفلات، يتوجب على الذات ربطها في السرير والتشبث بها؛ لأنها هوية الروح أمام فنائها، وهي في العمق مشروع الشاعر الذي لا يمنعه الموت الوشيك من إدانة تراثها، فمدادها يقطر إجابات دون جواب، وإن كان الشعر تجليها الأمثل عبر تراثها الطويل، فأبيات هذا الشعر نوافذ تطل على عالم لم يعشه أحد حتى مبدعيه أنفسهم! والقمر ليس للغزليات، بل هو متورط يضيء وجه القتلة للقتيل!
الحلم بين السرد والفلقة أحب تجارب الجنابي إلى قلبي، ليس فقط لتوافقها مع ذائقة شخصية تميل إلى الكتلة النثرية وترى فيها ثراء في الإمكانات وانعدام الحد من انطلاقة الشعر، لكن – وبالإضافة إلى ما سبق – تبقى نصوص الجنابي في هذه التجربة عميقة الأصالة وواضحة الجدة، الجنابي الذي عكف سنوات على منجز قصيدة النثر الفرنسية والعالمية، لا تجد أي أثر لمنجز الكتلة النثرية عند أساتذة هذا الفن، بل تقف قامة وحدها، بطبيعة الحال تجد في كتله النثرية حضورا واضحا للعناصر الثلاثة ( الإيجاز والتوهج والمجانية ) لكنه لا يعول كثيرا على آليات من نوع التشويش على الحواس أو اعادة الزرع أو المنظور التكعيبي – وإن كان للأخيرة حضور في أكثر من قصيدة، إلا أنه ليس كل ما يعول عليه النص وليس ما يحفظ له قوته الإبداعية – فالكتلة النثرية عند الجنابي، نجدها في السياق الكلي لتجربته الإبداعية، تستفيد من مختبر الشاعر اللغوي، واتكاء النص على لحظات معاشة ( وهي سمة غالبة على كل شعر الجنابي ) ينطلق منها الشاعر وعبر تفاصيل جد عادية، ينتهي الأمر بالقارئ أمام عالم موغل في الإبهام، له نفس مفردات العالم الواقعي، بيد أن سريان طاقة الشعر في الكلمات تؤاخي متعة الوجدان بمتعة الكشف الذهني والوقوف على الغموض المحفز على إعادة النظر في الذات والوجود لدى القارئ، ثمة قصائد تكتسب قوة خلاقة من مجرد جدلية العلاقة بين العنوان وكتلة القصيدة نفسها ( الله في كلمة ) وقصائد& تمزج الحلم بوجهة نظر طفل بقراءة لوحة تشكيلية، دون أن تجد فيها شيئا مما عهدته مما سبق، فالحلم يُحكى بصورة تطمس طبيعته كحلم، وظهور غرفة طفل في –أخرالقصيدة - على حائطها لوحة بداخلها غابة تحترق! خاتمة مفاجئة، وتفصيلة اللوحة تجبرك على معاودة قراءة النص مرات ومرات، نصوص تتطلب قارئا ذا ذهنية منفتحة، لا يعنيه قطعية الدلالات بقدر ما يمتعه ثراؤها وعصيانها على الإحاطة بها، يمتعه الأثر الكلي للنص وجدانيا وذهنيا. حتى في احتفائه بالكتابة الآلية وتوجيه التحية لأندريه بروتون، لا يغفل الجنابي قضاياه الكبرى، وتأتي الكتابة الآلية تنويعا على ذات اللحن، الزمن والوجود والتأمل واللغة والعملية الإبداعية... وجميعها هي المواد الأثيرة لشعر الجنابي، ثمة ظاهرة تستحق الدراسة المتعمقة لنصوص الجنابي، أظنه أكثر الشعراء تناولا لموضوعة الإبداع في شعرهم، تارة تلوح الذات قابضة على خبرات فنية تقدمها من باب النصح الزائف إلى شاعر شاب، وتارة تلوح الذات منغمسة في حالتها الإبداعية فلا تصف أو تحدد بقدر ما تتنبأ وتستشرف مستقبل القصيدة، مدركا لإمكانات الكتلة النثرية ينطلق الجنابي من رصد أزمة الوجود الإنساني إلى غموض الواقع إلى رصد تجارب العشق ومن بعدها الإيروتيكا دون أن ينسى الاحتفاء الإنساني الحميم بفكرة البيت وفكرة الجسد... دون الوقوع في خطأ الابتعاد عن المجانية ( اللاغرضية ) إذ يتناول الأمور السابقة كمعطيات وجودية، تؤكد الذات – من خلالها – قدرتها على التسامي والتعاطي مع العابر كانعكاس للمقيم.&
أرى في ( من دفترك العام الماضي ) الكتاب المكمل لصور بغدادية من الذاكرة، ليس المكمل لنقص بل الخالق إتماما نوعيا، بين الحنين إلى صور ووجوه وذكريات .... وحنين – لعالم ذهني - لأساطير وفكر ورموز وإحالات فلسفية يؤطرها العنوان زمنيا بالعام الماضي، صاحب التجربة وإن بدا ملتزما بثوابت جمالية كالبياض والاستخدام الشديد الخصوصية للغة، إلا أنه يدرك أن خصائص الأسلوب تكتسب أبعادا جديدة بالتقدم في الكتابة، وعلى سبيل المثال فالبياض في مصرع الوضوح ناجم عن موقف شخصي من اللغة والكلمات، ينبثق من داخلها ويفيض حولها كهالة الأيقونة، بياض يبدو في ثباته أقرب إلى الإقرار بطبائع الأمور، على العكس منه البياض في من دفترك العام الماضي، يلوح ذا ديناميكية حيوية خارجة من طبيعة تجربة لذات تسائل فكرها ورموزها& في مرواحة بين التأكيد والنفي، الإقرار والمساءلة.
في ثوب الماء ثمة تعميق لملمح إبداعي يخص الجنابي، سبق وأن اشرت إليه. إن كانت الأوساط النقدية الحديثة قد شاع فيها خلال العقدين الأخيرين مصطلح الميتاسرد، إشارة للنصوص النثرية ( الروائية غالبا ) التي تتناول مسألة الكتابة، لم يتلفت أحد إلى القصائد التي تتناول كتابة الشعر، والتي لم يتطرق إليها سوى عدد قليل من الشعراء، هذا الملمح موجود على امتداد تجربة الجنابي في شكل قصائد متفرقة، بيد أنه في ثوب الماء يتجمع ويتمدد ليشمل تجربة الكتاب بالكامل، أظن – وقد أكون مخطئا في ظني هذا – أن جميع قصائد الكتاب تتناول المسألة الإبداعية – تحديدا – الشعرية، الجميل في الأمر أن التجربة رغم الضيق الظاهري لأبعادها، جاءت في محصلتها النهائية متعددة الأساليب والأشكال، بعضها ظاهر وبعضها مضمر، منها ما اتخذ – في عنوانه على الأقل – شكل المعارضة الساخرة ( رسالة إلى شاعر شاب ) ومنها ما أتخذ شكلا مأساويا. في مفاتيح أحلام وفضاء آخر تأخذ القصيدة شكل البيان ذي الانحرافات السوريالية، وثمة قصائد أخرى تأخذ شكل التعليق الضجر من الشعراء والقراء والكلمات المغتربة - بفعل الزيف والتدجيل - عن حقيقتها، وقصائد ترصد انغماس الشاعر في فعل الكتابة/الحياة حيث لا توازن إلا في لحظة الاشتباه! في المحصلة النهائية نحن أمام تجربة فريدة، نتعلم منها – ضمن أمور أخرى – أن عالم الشعر من الرحابة والاتساع، فقط كل ما يحتاجه موهبة حقيقية وبصيرة ثاقبة.
كما أشرت في مطلع كلامي أن الجنابي طالما وضع المترجم في المقدمة رغبة منه في جعل الشعر لا يعول على شيء خارجه، فمن يحب الشعر سيبحث عنه ويصل إليه، لم يكن الأمر مجرد حيلة مقصودة من الكاتب، بل هي فلسفته في الحياة، فالشعر له مكانة تعصمه – لدى العارفين – من أن يتوسل، هو الذي يُطلب ولا يطلب، وتأكيدا لكلامي.. نجد الجنابي الشاعر لم يُقدم على الاستفادة من قضية بلاده كما فعل غيره من الشعراء، في وطننا العربي كم من شعراء بائسي الموهبة صاروا عظاما بعظمة قضايا أخذوا توكيلها، وتوسلوا كل وسيلة للارتباط بها. ورغم ابتعاده المادي عن وطنه إلا أنه يعيش مهموما بآلامه، والأكثر إثارة للدهشة أنه – على البعد – فاعل ثقافيا وفكريا أكثر من آخرين مقيمين في الوطن العربي، حين شاهد الانتشار الممسوخ لقصيدة النثر في العربية عكف على تقديمها والتنظير لها مع إحساس غالب بالمسئولية والواجب لم يتسلل بصيص منه إلى أعضاء جماعة شعر وغيرهم من النقاد الموجودين بامتداد وطننا العربي، وكم من مشاريع أنفق عليها من جهده ووقته وماله بغية إثراء ثقافتنا دون الجلوس في مقعد البطولة والتباهي بما قدمه. لم يأتِ اختياري ( التنحي المطلق ) عنوانا للمختارات من فراغ، بل أراه دالا على موقف المبدع من توافه المغريات المادية وتساميه عن كل ما يسيل له لعاب أنصاف المواهب؛ حتى حقق ما يليق به من إنجاز شعري، ودفع ثمنا هينا تمثل في إهمال المتابعة النقدية، وغض الأكاديميات الأدبية الطرف عن إنجازه الذي يسعدني أن أقدم مختارات منه أراها& لفتة حب وامتنان من جيل أصغر إلى معلم سيستمر عطاؤه إثراء لثقافتنا وقضايانا الفكرية.
&
الإسكندرية 17/7/2015
&