كان أبي رجلاً عظيماً. نعم، أكثر عظمةً بكثير من والد سليمة، سُليْمَة التي تصطدم أجنحتها بسماء حالكة السواد في القصيدة العمياء للسياب.
أنا الآن أقفُ على رصيف أنكره، وأرقص. ينكرني بدوره ويحشد المارّة. ومدينتي الباردة جدا، أيضا تحشدُ عقوداً من القلق وتتابع مع المارة المشدوهين.
كان أبي يستيقظ كل صباح ليطارد حلمه، جاب كل شوارع أبها، لكنه لا يعرف شارع الفن. أبي لا يخاف، لكن ليس لديه من الوقت ما يكفي ليتعرف على شارع الفن.
شارع الفن، شارع الفن، شارع الفن. لم يعد شارعا بأرصفة وباعة وأهداف استراتيجية وبتوصيف محدد، الليلة رأيته يزحف نحو عقود من الزمن الغابر لم تقل فيها أبها حكايتها الخاصة، لم تقل أبها أنها إيفا، وأنها كانت بداية رحلة الهدايا السليمانية نحو القدس، وأن لبلقيس فيها حكاية ربما تكون بدأت من أحد أرصفة شارع الفن، أو حتى من تحت قدميّ الراقصتين الآن:
"إيفا/ إيفا/ إيفا/ إيفا..يا مدينة الله".
كان أبي يجاهد كل يوم كي لا يطمسه العدم، يستطيع أي عابرٍ أن يرى في شقوق قدميه خارطة المدينة وجبالها، وديانها وطرقها الترابية القديمة التي لم يلعب فيها بما يكفي ليستدل على شارع الفن، وفِي شقوق قدميه أردية ملونة، حالت ألوانها لتصبحَ حزناً شفيفا. وفِي ثغره روايةٌ عن جَده كان سيرويها لي تلك الليلة، وفِي جبينه قمر.
أبي؛ لربما كان قائداً لقافلة انطلقت من هنا قبل ثلاثة آلاف عام، أقول هذا لصديقاتي؛ وأضيف: فوقع في حب هذه الجبال وقرر البقاء أطول رقصة ممكنة. إن حياة أبي رقصة طويلة، والبنادق التي تربصت به طويلا لم تردهِ قتيلاً كما حدث لوالد سُليْمَة بنت السياب!.
الحقيقة التي لا تغيب عن قلوب الناس في أبها هي أن قوافل بلقيس انطلقت محملةً بالهدايا من مدينة الرب إيفا متجهة إلى نبي الله سليمان في القدس. واليقين المطلق هنا أن أحداً لا يستطيع أن يوقف قافلة الحب هذه..
&