لا أحد بإمكانه قراءة الأحداث بعد 30 عامًا من الآن مثلًا إلا على سبيل التنبؤ والاستشراف. يطرح كاتب فرنسي في كتاب له أسئلة كثيرة حول هوية السنوات المقبلة يقول إن الإجابة عنها تحدد شكل مستقبلنا وتبلوره.

إيلاف: تحذير جميل لكنه مرعب صدر من شخص يدرك تمامًا ما الذي يتحدث عنه. صاحب التحذير آلان مانك وهو ينتمي إلى وسط الأعمال في فرنسا، وقد سار في أروقة القطاعين العام والخاص منذ أكثر من أربعين عامًا، ما يعني أنه يعرف كل المداخل والمخارج، وعمل ولا يزال مديرًا لشركات مهمة، وكان قد تخرج من المدرسة الوطنية للإدارة التي عادة ما تخرج مسؤولين يشغلون المناصب العليا في الدولة وفي قطاع الأعمال.

مانك هو أيضًا مفكر فرنسي يريد التمتع بسمعة عالمية انطلاقًا من التجربة الفرنسية، وعمل مستشارًا سياسيًا منذ عقود عدة، وخبيرًا اقتصاديًا، ونشط في مجال البحث، وقد نشر حتى الآن ثمانية وثلاثين كتابًا، كان أهم اثنين منها "العولمة السعيدة" 1997 و"العالم المقبل" 2004. 

لكن كتبه لم تقتصر على موضوعات محددة، بل كتب عن قضايا أخرى عديدة، مثل التكنولوجيا الحديثة والمثقفين وميرابو ودولة الرعاية الاجتماعية والمال ونابليون الثالث وسبينوزا ورمز المقاومة للنازية جان مولان ومشاكل فرنسا وأزماتها المختلفة وزمن ما بعد الأزمة والأمة وألمانيا. واليوم يطرح علينا آلان مانك كتابًا جديدًا عن المستقبل، وهو الموضوع الوحيد الذي يمكن استخدام خصب الخيال فيه.

تساؤلات
من المعروف أن أي حديث عن المستقبل يتضمن نوعًا من التنبؤ، ويتطلب جرأة كبيرة، ولكن مانك يريد تسمية الأشياء بأسمائها ويبدأ بطرح أسئلة، ويقول إن الإجابة عنها هي التي ستحدد مستقبلنا ومنها:

هل يقودنا تفاقم اللامساواة الحالية إلى ثورة محتملة؟

هل ستكون الأزمة الاقتصادية المقبلة حاسمة وقاضية؟

هل تحولت الدول والحكومات إلى رهائن بيد غافا (أهم وأضخم أربع شركات في العالم، وهي غوغل وآبل وفايسبوك وأمازون)؟

هل يمكن علاج ارتفاع درجات الحرارة في الكرة الأرضية والتغير المناخي بشكل حقيقي وفاعل؟

هل ستتراجع الديمقراطية الليبرالية التي اعتبرها البعض أزلية بعد سقوط الشيوعية أمام مد الموجات الشعبوية؟

ما ستكون نتائج الصراعات التي تدور في الشرق الأوسط منذ ثلاثين عامًا؟

غياب القادة الحقيقيين هل سيدفع العالم إلى حالة من اللااستقرار الدائمي؟

كيف ستتعامل أوروبا مع القنبلة السكانية المقبلة من أفريقيا؟

وهل يمكن إنعاش أوروبا؟

بالطبع يحاول مانك طرح أجوبة أو عرض أجوبة مقترحة على كل هذه التساؤلات، فهو يعتقد من جهة أن العالم المقبل سيكون عالمًا بلا قادة وأن ديمقراطيات غير ليبرالية ستنشأ فيه، وسيشهد ما يسميها "موجة رأي عام هادرة" في مواجهة ما يدعوها "لا عدالة الرأسمالية".

يعبّر مانك عن مخاوف عميقة وعن قلق من هبوب عاصفة قد لا تبقي ولا تذر، ويحذر المسؤولين وأصحاب القرار بالقول: "قد ذهبتم بعيدًا جدًا وبالغتم، وفقدتم الحس السليم، وقد تواجهون ثورة يمكن أن تهز مواقع سلطتكم التي تعتقدونها شديدة المتانة".

أما أسباب المخاوف فيشرحها الكاتب بالحديث مثلًا عن سيطرة غافا على العالم، وهي التي سبق أن انتقدها في كتابه "العولمة السعيدة". ويقول إنها تبسط نفوذ إمبراطورياتها في كل زاوية من زوايا الكرة الأرضية، وتتنصل من دفع الضرائب، وتتحاور مع دول ديمقراطية حديثًا ندًا لند، وهو أمر غير مسبوق بالمرة.

جلطة سياسية
يحمل كتاب مانك عنوانًا مستفزًا بعض الشيء، وهو "جولة متواضعة في عالم الغد"، ويعنون الفصل الأول بسؤال: "هل ستقوم ثورة غدًا؟"، ثم يتحدث عن اللامساواة التي فاقت الحدود في المجتمعات الحديثة، ويحذر مما يسميها "جلطة سياسية"، ويشرح أسباب تحلق الجيل الجديد في الولايات المتحدة مثلًا حول بيرني ساندرز، وفي بريطانيا حول جيريمي كوربين، وفي فرنسا حول لوك ميلانشون، وهي شخصيات يعتبر أنها تعبّر عن جزء كبير من الرأي العام في هذه الدول التي تعيش حاليًا أجواء تكاد تشبه أجواء ما قبل 1968.

يشرح مانك اللامساواة بالقول إن "كل الثروة التي تم إنتاجها على مدى ربع القرن الأخير ذهبت إلى أقلية ضئيلة تحتل موقعًا مركزيًا داخل أقلية في العالم، إلى قلة من أصحاب الامتيازات الذين يشكلون جزءًا بسيطًا من أصحاب امتيازات أكبر عددًا، إلى 0.01 % من السكان، ورافقت ذلك حالة كساد وانخفاض في متوسط القدرة الشرائية لدى بقية السكان".

يؤكد الكاتب أن الأمر لا يتعلق هنا بالنظام الرأسمالي نفسه، فهو يعتبره نظامًا فعالًا، ولكنه يعتبر أن هذا الوضع الحالي يعكس فشل المسؤولين أنفسهم، ثم يتحدث عن لامساواة تعليمية واجتماعية وجغرافية وثقافية، وحتى نفسية بدأت تنمو منذ ثلاثين عامًا. ناهيك عن لا مساواة في ظروف العمل نفسها.

ويضيف "نشهد اليوم ظهور تقسيمات جديدة في عالم العمل، ونلاحظ وجود اختلاف بين وضع الموظف أو العامل الاعتيادي الحالي الذي كان محميًا بمكتسبات لم تتحقق إلا على مدى عقود في الماضي، وأشكال جديدة من النشاطات الحديثة جاءت نتيجة للثورة التكنولوجية كما يبدو. وهذا الاختلاف يكاد يعيد الحياة إلى ملامح التهميش العمالي في الزمن الماضي".

ينتقد الكاتب موقف اليسار التقليدي من كل هذه التغيرات، ثم يتوقع "موجة اجتماعية هادرة وعنيفة" ستتخذ شكل "مد شعبوي احتجاجي وشبه ثوري".

حلول
قدر تعلق الأمر بغافا يعتقد مانك أن الحل الأمثل هو إصدار قرار شبيه بقرار المحكمة الأميركية العليا في عام 1911 الذي قضى بتفكيك شركة "ستاندرد أويل" العملاقة إلى 34 شركة صغيرة انطلاقًا من مبدأ مكافحة الاحتكار وبناء على دعوى رفعتها الحكومة الفيدرالية الأميركية نفسها ضدها. 

لكنه يعتقد أيضًا أن الولايات المتحدة لن تتخذ مثل هذه المبادرة في الوقت الحالي، ما يعني أنه سيكون على أوروبا التحرك وحدها للحد من نفوذ هذه "الإقطاعيات الكوكبية" الجديدة التي تهدد حياة الناس الخاصة والموارد العامة وحتى سيادة الدول، حسب قوله.

يقترح مانك أيضًا أن يكون هناك تمثيل أفضل للعاملين في الشركات الخاصة داخل مجالس الإدارة مع إدخال تعديلات على القوانين كي لا يقتصر هدف الشركات على تحقيق أرباح لمصلحة المساهمين فقط، بل الاهتمام بمصلحة العاملين وجميع الأطراف الأخرى أيضًا.

تمايز سكاني
يشير مانك بشكل واضح وصريح إلى أن الوضع الحالي المتميز بانعدام المساواة يخلق فئتين رئيستين من السكان، إحداها تملك كل شيء، والأخرى منسية مهمشة لا تكاد تنجح في تغطية احتياجاتها على مدى أيام الشهر الواحد حتى النهاية. 

ويقول إن نسبة هذه الفئة تصل إلى أكثر من 60%، وهي تشغل مساحة تزيد على 90% من أراضي بلد، مثل فرنسا، وهي تعيش في حالة من التهميش وإهمال معاناتها، وتفتقد إلى حماية الدولة، ولا تجد حلولًا حقيقية لمشاكلها. ثم يلاحظ أن هذه الفئة أصبحت وبشكل واسع يدعو إلى القلق، إما تمتنع عن التصويت في فترة الانتخابات، أو تشارك بأوراق تصويت بيض (أي فارغة)، وهو ما يدفع الكاتب إلى التحدث عمّا يشبه تمردًا أو عصيانًا مدنيًا لجزء من السكان.

يقول مانك إن المسؤولين، ومنهم رئيس وزراء فرنسا الحالي إيمانويل ماكرون، سيعرفون كيف يتعاملون مع موجات احتجاج، مثل هذه، ولكن ذلك لا يعني بأن المشكلة ستزول تمامًا.

يتطرق مانك في كتابه إلى قضايا عديدة أخرى، مثل تزايد درجات الحرارة في الكرة الأرضية والأزمة في الشرق الأوسط وحتى السياسة الحمائية الأميركية، وهو في كل ذلك يقدم شروحات وتحليلات بأسلوب سلس مميز، مع التمسك بأفكاره الليبرالية بشكل عام. مانك يطرح كل القضايا التي تثير قلق الإنسان المعاصر، سواء أكان مسؤولًا أو مواطنًا عاديًا، ويعبّر في الوقت نفسه عن مخاوف تنتاب طبقة القادة في مواجهة مشاكل خلقوها هم بأنفسهم.

ويلاحظ الكاتب أن هؤلاء المسؤولين لا يملكون الكثير مما يقدمونه إلى المهمشين بشكل عام، وهم أولئك الذين يقول إن الإتحاد الأوروبي نفسه لا يستطيع حمايتهم. ثم ينصح القادة بعدم استخدام لغة الشعبويين في مواجهة الطرف الآخر، وعدم استغلال عذابات المهمشين لغرض الاستمرار في التعمية والتمويه.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "ليبراسيون". تجدون المادة الأصلية على الرابط أدناه:
http://www.liberation.fr/debats/2018/01/23/minc-le-rouge_1624653